أثر المهنة في شعر الأطباء الشعراء
اخذ من بحث طرح في جامعه آزاد الاسلامیه واحد آبادان وکان البحث عنوانه الأطباء الشعراء من بدایة العصر العباسي إلی نهایه العصر المملوکي وشکرا.
– سهاد جادری، أستاذة في جامعة آزاد الاسلامیة
– محمد جواد إسماعیل غانمي، أستاذ في جامعة آزاد الاسلامیة
قسم اللغة العربیة فرع آبادان
الخلاصة:
في هذا المقال تطرقنا إلی أثرالمهنة في شعر الأطباء الشعراء و حاولنا البحث حول العلاقة بین الطب و الأدب و ذکرنا کیف تناول عدد من الباحثین هذه القضیة.
وبیّنا بأنّ هناک أشخاصا ً کانوا مؤیدین لهذه المسألة و البعض معارض لها.
ومن ثمّ اعطینا الصورة التي نری فیها حدود الصلة بینهما.
المقدمـة:
سبب توجهنا إلی شعر العلماء فلأننا نهدف إلی المساهمة في من سبقنا من الباحثین الأفاضل الذین درسوا شعر فئات أخری، غیر الأطباء، للکشف عن بطلان التسمیة التي أطلقها بعض النـّقاد القدامی علی شعر هذه الطائفة من ذوی الاختصاصات العلمیة، و هي شعر العلماء و ما نسبوه إلی هذا الشعر من ضعف ورداءة، و یأتی في مقدمة هؤلاء النـّقاد إبن قتیبة، فقد ورد في تعلیق له علی أبیات للعالم الشهیر الخلیل بن أحمد الفراهیدی قوله:
«و هذا الشعر بیّن التکلیف، ردئ الضعفة، و کذلک أشعار العلماء، لیس فیها شئ جاء عن إسماح و سهولة».
[1]
و هذا الحکم الجائر لإبن قتیبة، و من تبعه بعد ذلک مثل القفطي لایؤیده الواقع و لا تدعمه الحقیقة، و من هنا تدخل دراستنا لشعر الأطباء لتکون محاولة مضافة إلی جهد الأخرین في التصدي لهذه المقولة و إثبات بطلانها، و إزاحة الإجحاف الذي لحق بالعلماء من زاویة الفنّ الأدبی.
فبیّنا أثر المهنة في شعر الأطباء الشعراء الذي تطرقنا فیه إلی البحث حول العلاقة بین الطب و الأدب و ذکرنا کیف تناول عدد من الباحثین هذه القضیة.
و بیّنا بأن هناک اشخاصا ً کأنو مؤیدین لهذه المسألة و البعض معارض لها. و من ثم اعطینا الصورة التي نری فیها حدود الصلة بینهما.
العلاقة بین الطبّ والأدب
هل من علاقة ٍ تربط الطبّ بالأدب؟ و هل تصل هذه العلاقة إلی درجة تکوّن أدب الطبیب أو شعره؟
تناولَ عدد من الباحثین هذه القضیة بالدراسة، و جاءت مواقف الأکثریة منهم مؤیدة لوجود و شائج القربی بین فنّ الأدب و مهنة الطبّ، بینما خالفهم باحث واحد فنفی أیة علاقة بینهما.
لقد درس کلّ ٌ من «إبراهیم العظماوی»، «محمّد الخلیلی»، و«مصطفی شریف العانی» هذا الموضوع و خرجوا في نهایة المطاف بإقرار وجوه متعددة للصلة بین الطب و الأدب، کما أنّ فخری الدبّاغ قد تعرض لهذا في مقدّمة کتابه «الأطباء، الأدباء»، و أکدّ العلاقة العضویة بینهما.
فالعظماوی تتبّع المسئلة منذ البدایات الأولی لظهورالطب في الحیاة الإنسانیة مسرورا ً بتطوره عبر العصور و الأجیال المتعاقبة إلی عصرنا الحاضر، مستعینا ً بأقوال للأطباء و الحکماء المشهورین في التأریخ، محاولا ً من خلالها إثبات ما ذهب إلیه من وجود العلاقة المشار إلیها. فهو یقول:
«و یعتقد جالینوس و أبقراط أنّ الطب بعد أن تبلورت فیه أسس و قواعد الممارسة کان إلهاما ً إلهیا ً یوحی به للإنسان النابه».
[2]
و أورد بعد ذلک قولا ً لآخرین بأنّ: «الطبّ هو إلهام بالرؤیا، بأن توحي الآلهة علاجا ً للمرضی في عالم الأحلام، فیشفی المریض إذا جاءت الرؤیا لطبیبه الحاکم».
[3]
ثمّ یستدرک قائلا ً: «إنّ هذا التطور عن الإلهام و الرؤیا یشبه إلی حد کبیر مسألة الوحي... أو شیطان الشعر الذي یفتح أبواب القریحة في الأدب بشکل عام، و یؤدي إلی النتاج الفکري المبدع».
[4]
و نناقش «العظماوي» في محاولته الربط بین الطب و الأدب انطلاقا ً من هذا التصوّرفنقول إنَّ ما ذکره من اعتقاد جالینوس و أبقراط لیس أکثرمن رأی قاله الأول و تبعه الثاني، و هو رأی یحتمل الصواب کما یحتمل الصواب کما یحتمل الخطأ.
و نرید أن نبقی مع «العظماوي» في الدائرة التي أشار فیها إلی اعتقاد «جالینوس» و «أبقراط» الذي لا نستعبد أنّه أخذه عن تحلیل «ابن جلجل» لمجموعة من الأقوال في اسقلابیوس الأول الذي یُعدّ مخترع الطب، جاءت علی لسان هذین الطبیبین و معهما أفلاطون یُفهم منها أن اسقلابیوس هذا قد استقی معارفة الطبیة من منبع إلهی، یقول ابن جلجل بعد عرضه هذه الأقوال فیه:
«فإن یکن أمره علی ما حکاه بقراط و جالینوس، و أفلاطون قبل، فإنَّ هذا یدلّ علی أنَّ أولیة تعلـّم الطبّ و الفلسفة کان من أمر الله وحیا ً و إلهاما ً».
[5]
و مما یزید من احتمال الخطأ في اعتقاد هؤلاء الثلاثة في مسألة الوحي الألهی للطب و إلهامه للطبیب المذکور هو أنّه:
«کان قبل الطوفان، و کلّ ما هو قبل الطوفان لا تـُعلـَم حقیقته لعدم المخبربه».
[6]
و ما لا تـُعلـَم حقیقته لا یصحّ البناء علیه.
و حتّی لو سلـَّمنا جدلا ً و افتراضا ً بصحة مقولة الوحي و الإلهام الالهیین للطب فإن تشبیه ذلک بالوحي الذي یأتي به شیطان الشعر لا یُسَوِّغ الحکم بوجود علاقة بین الطب و الأدب و منه الشعر، لأنَّ منبع کلَّ منهما مختلف عن الآخر، فالطب من الله، و الشعر من الشیطان، هذا من ناحیة، و من ناحیة أخری لو صَحَّ الحکم بوجود العلاقة بینهما بناءً علی هذا الشبه البعید في کون کلّ منها نابعا ًعن «الوحي و الإلهام»، لوَجَب التسلیم بأنّ الکتب السماویة التي أوحاها الله لرسله علیهم الصلاة و السلام- تربطها علاقة بالشعر مماثلة لتلک التي بین الطب و الشعر، و هذا ما لا یجوز القول به بتاتا ً.
و نتوجه مع العظماوي في سعیه لإثبات العلاقة بین الطب و الأدب، و نوافقه في أنّ «الأطباء الأوائل کانوا یولون الحکمة اهتماما ً خاصا ً، فارتبط اسم الطبیب بها لیُدعی بالحکیم».
[7]
و إنّ «العرب کانوا و مازالوا یطلقون لقب الحکیم علی الطبیب الحاذق».
و ینقل لنا الباحث قولا ً للطبیب العربي «حنین بن اسحاق» في إعداد الأطباء و الحکماء جاء فیه: «و هذا الصنف من الآداب أوّل ما یعلـّمه الحکیم التلمیذ في أوّل سنة مع الخط الیوناني ثمّ یعرفه بعد ذلک إلی الشعر، و النحو، ثمّ إلی الحساب ثمّ إلی الهندسة، ثمّ إلی النجوم، ثمّ إلی الموسیقی، ثمّ بعد ذلک یرتقی إلی المنطق، ثمّ إلی الفلسفة، و هي علوم الآثار العُلویة، فهذه عشرة علوم یتعلـّمها المتعلم في عشرسنین».
[8]
لا نختلف مع الباحث هنا في أنّ الأدب یمثّل أحد الروافد الهامة في الثقافة الموسوعیة للطبیب التي تفرضها علیه أسباب خاصة تحیط به، سوف تأتی علی تناولها في موضع لاحق من هذا التمهید.
و في مقدّمة «محمّد الخلیلی» لکتابه «معجم الأدباء و الأطباء» بذل هذا المؤلف جهدا ً کبیرا ً لکشف خیوطه العلاقة بین الطب و الأدب، و علی وجه الخصوص بین الطب و الشعر، و هذه بعض النتائج التي توصّل إلیها.
[9]
1- إنّ الطبیب و الشاعر یجتمعان معا ً في إستعمال الحدس الصائب، و التعمّق في دقائق المحسوسات و ذلک لأنَّ لا یبني فنـّه إلاّ علی المنطق و المحسوس، و إنّ منطقه هذا لیس سوی حدس و تخمین في الابتداء، فهو بذلک کالشاعرالذی یتکلـّم بلسان الحدس و العاطفة ثم یسوق الأمثلة المنطقیة بعد نضج حدسه.
[10]
2- إنّ الطبیب هو الذي یلاحظ أمراض الأفراد و أعراضهم، فیصلحها بعلاجه، و یستعمل صناعته و فنـّه المؤثر في الأجسام، بینما الشاعر یلاحظ أمراض الأمّة الاجتماعیة و أعراضها، فیعطیها و صفة دواء ناجح بصورة شعریة سامیة یصلح بها أخلاقها.
[11]
3- إنّ کثیرا ً مـن الأطباء شعراء من الطبقة الأولی، کما نری الکثیر مـن الآثار التي
خلـّفوها إضافة إلی آثارهم الطبیة الشعرالرائق والنظم البدیع الحسن مثل إبن سینا، إبن زهر،
إبن دانیال و أمیة بن أبی الصلت و غیرهم کثیر.
[12]
بعد أن عرضنا هذه النصوص التي قدّمها«الخلیلی» لبیان أوجه الشبه بین الطبیب و الشاعر نتوقف عندها قلیلا ً لإبداء بعض الملاحظات علیها، و هی:
1- إنّ الطبّ لیس فنـّا ًً کما جاء في قول الباحث: «لأنّ الطبیب لا یبني فنـّه إلا ّ علی المنطق و المحسوس» و قوله في النقطة الثانیة عن الطبیب: «فیصلحها بعلاجها، و استعمال صناعته، و فنّـه المؤثّر في الأجسام».
فالطبّ علمٌ قائمٌ علی التجربة و الربط المنطقی بین الأسباب و النتائج، أمّا الشعرفهو فنٌّ قبل کلّ شيء منبعه الإحساس و العاطفة، و یدخلُ الخیال – الذي لا دورله عند الطبیب في تشخیصه للأمراض- عنصرا ً هامّا ً و أساسیا ً في البناء الشعريّ.
2- إنّ «وجود کثیر من الأطباء الشعراء، بل شعراء من الطبقة الأولی...».
لا یعنی ارتباطا ًعضویا ً بین الطب و الشعر، أي أنّ صناعة الطبیب لیس لها دور في ولادة الشعر لدیه فتأثیر الطب یقع علی شعرالطبیب، و لیس علی ولادته شاعرا ً، فلو کان للطبّ أثر عضويّ في هذه الولادة، لأصبح کلّ طبیب شاعرا ً و الحقیقة عکس ذلک.
فالشعر لیس ولید المهنة، و مثلما یوجد علی الساحة الأدبیة «أطباء شعراء» و منهم من هو في الطبقة الأولی، یوجد تجّار شعراء و حاکة شعراء ومهندسون شعراء ومنهم من هوفي الطبقة الأولی والحالة تنطبق علی کلّ شاعرمن أبناء الفئات الأخری للمهن و الحرف.
نخلص إلی القول أنَّ الإنسان لکي یکون شاعرا ً لابدّله من امتلاک صفة أخری لیس
لها صلة بالمهنة التي یمارسها، سـوف نأتي إلی هذه الصفة لاحقا ً بعـد الانتهاء مـن دراسة
آراء الباحثین الأفاضل.
و نمضی مع محمد الخلیلی فی بحثه عن نقاط الالتقاء بین الطب و الأدب، و نشرک معه الباحث «مصطفی شریف العانی»، فهما قد استقیا من الینابیع نفسها في الاستدلال علی هذه العلاقة.
تناول الباحثان لفظتي الأدب والطبّ من الزاویة اللغویة، فوجدا أنّ کُلـّا ً من اللفظتین یدلّ علی العادة.
یقول «الخلیلی» إنّ من معانی الأدب الدأب، و هو الاستمرار علی العمل حتی یکون عادة، و من معانی الطب أیضا ًعلی حدّ قول الشاعر.
و ما ان طبّنا جُبنٌ ولکن
منایانا و دولة ٌُ آخرنیا
[13]
و استعان الباحث بما جاء في «القاموس المحیط» من معانی کلمة «الطبّ»، و منها معنی، «العادة» إذ ورد فیه: «الطبّ مثلثه الطـّاء علاج الجسم، و النفس و السحر، و الرفق، و الإرادة، و الشأن و العادة».
[14]
ثمّ عزّز ذلک بما قاله «التبریزی» في شرح الحماسة عن کلمة «الأدب» لبیان اشتراکها مع «الطبّ» لإعطاء المعنی نفسه: «کان الأدب إسما ً لما یفعله الإنسان فیتزیّن به النّاس ثمّ تطوّر استعماله فصار یطلق علی العادة».
[15]
و قدّم مصطفی العانی القرائن اللغویة نفسها، و النصوص التي عرضها الخلیلی.
[16]
إنّ اشتراک کلمة (الأدب) و کلمة (الطبّ) في الدلالة علی معنی الإستمراریة التي تتحوّل إلی العادة یعطیها نوعا ً من الصلة، ولکنّ السؤال الذي یطرح هنا:
هل أنّ العادة ذات خصوصیة بالأدب و الطب دون غیرهما؟
إنّ النجار إذا استمرّ علی عمله فترة طویلة من عمره تحوّل هذا العمل عنده إلی عادة، و مثل ذلک یقال علی البناء و النّقاش، و المهندس و الخطـّاط، و غیرهم من ذوي الفنون و الصناعات.
ثمّ إنّ اشتراک الکلمتین في واحد من المعاني الکثیرة لا یمنحها علاقة علی مستوی عال من القوة و قد عالج الباحثان العاني و الخلیلی الموضوع من زاویة أخری متخذین من المفهوم الشمولـّي لکلمة الأدب سبیلا ً للبرهنة علی علاقته بالطب، فجاء في بحث مصطفی العاني قوله:
« و یقال: إنَّ الکلمة الدأب انقلبت إلی أدب، و تدلّ علی ریاضة النفس علی ما یستحسن من سیرة و خلق، و علی التعلیم و روایة الشعر و القصص و الأخبار و الأنساب».
[17]
ثمّ یضیف «و قد أطلق بعضهم إسم الأدب علی التآلیف عامة، فقد ترجم یاقوت في کتابة معجم الأدباء للمؤلفین في جمیع المعرفة».
[18]
یشترک مع الخلیلی في أیراد جزء المکمّل لنصّ التبریزی الذي سبق عرضه آنفا ً إذ یقول: «ثمّ أطلق لفظ الأدب علی جمیع ما ترجم من العلوم، فنقل من الألعاب والفنون بعد أواسط القرن الثاني الهجریّ، و یدلنا علی ذلک ما روي عن الوزیر حسن بن سهل المتوفي سنة(236هـ) إذ قال: الآداب عشرة فثلاثة شهر جانیة، و ثلاثة أونوشروانیة، و ثلاثة عربیة، و واحدة أربت علیهنّ، أما العود و لعب الشطرنج و الصولجان فشهر جانیّة، و أمّا الطب و الهندسة و الفروسیة فأنوشروانیة، أمّا الشعر و النسب و أیّام الناس فعربیة، و أمّا الواحدة التي أربت علیهنّ فمقطعات الحدیث و السمر و ما یتلقاه الناس في المجالس».
[19]
کما نقلا عن جاحظ أنّه أدخل في الأدب جمیع العلوم الریاضیة، و منها الطب و عن إخوان الصفا أنهم أطلقوا في رسائلهم الأدب علی الفنون و الصناعات، و الطب فنّ و صناعة».
[20]
إنّ جمیع النصوص التي ساقها الباحثان تدلّ – بلاشک- علی وجود نوع من الصلة بین الأدب و الطب، ولکن علینا التوقف قلیلا ً هنا لنقول: إنّ کلمة الأدب في النصوص المذکورة أعلاه تقدّم لنا اصطلاح الأدب في المفهوم الشموليّ العام للکلمة، و هذا المفهوم لا یعنینا في مناقشتنا، لأنّ ما نناقشه هنا هو العلاقة بین الأدب بالمعنی الخاص لهذه الکلمة و بین الطب و المعنی الخاص الذي نقصده هو الأدب کفنّ یشمل الشعر و النثر الفنّي.
و قد حاول مصطفی العانی الاستدلال علی وجود هذه العلاقة بینهما من وجهٍ آخر مستعینا ً بالمعاجم اللغویة مرّةً أخری من خلال المعنی الذي تحمله کلمة (الطبّ)
بفتح الطاء فهو ینقل عنها النصّ الآتی:
«و بالفتح یجيء أیضا ً بمعنی الماهر الحاذق».
[21]
ثمّ یضیف تعلیقا ً علی ذلک «و لهذا فلیس شیئا ً عظیما ً أن یکون الطبیب أدیبا ً، و لیس غریبا ً أن یمازح الفنـّان الأدب العربي و الطبّ العربيّ».
[22]
نحن مع الباحث في أنّه لیس بالشيء المستعظم و لا الغریب في أن یکون الطبیب أدیبا ً و الأدیب طبیبا ً، لکن هذا الإرتباط و التمازج لا یرجع إلی الحذق و المهارة و إلاّ لکان کلُّ طبیبٍ حاذق ماهر في الطب أدیبا ً و الواقع لایؤید ذلک و الحقیقة أنّ کلّ ما في المسألة هو اشتراکهما في «وجه شبهٍ» قائم علی ضرورة امتلاک کلّ منها لهاتین الصفتین هذا في فنّه أدیبا ً، و ذاک في صناعته و إضافة إلی ما قلناه فإن الحذق و المهارة لیستا حکرا ًعلی الطبیب و الأدیب، بل هما ضرورة لازمة لإبداع کلّ من یتعاطی فنـّا ًمن الفنون، أو یمارس صناعة من الصناعات.
و بعد أن تناولنا بالمناقشة جمیع ما عرضه الباحثون من أوجه الشبه بین الأدب و الطبّ و حاولوا جاهدین الاستدلال علی العلاقة المتینة بینهما بأسالیب یفهم منها أنهما ینبثقان من منبع واحد نتوقف عند باحث آخر هو فخري الدباغ، الذي أیّد بقوّة و إصرار هذا الرأي، فهو بعد أن تحدّث عن دور الطبیب في حیاة المرضی، و إطلاعه العمیق من خلال مهنته علی ظروف إخوته، و سیره لأغوار نفوس البشر و ما یعتریهم من انفعالات و استجابات في صدورهم و وجداناتهم، یقول:
«و عن هذا الطریق لابدّ أن یجد بعض الأدباء أنفسهم و هم یعبّرون عن تلک الأحاسیس و الانفعالات فیطلقونها، و یدونونها شعرا ً، و قصّة و روایة، بل أدبا ً أصیلا ً متمکنا ً مبدعا ً، خلافا ً لانطباع ساور نقـّادا ، مفاده أنّ الطبّ علی غیروفاق مع الأدب، و سنری أن لا مبرر لجفاء أو فراق بین الطبّ و الأدب، بل أنّ العکس هو الأصح و الأقرب، إلی المنطق، لأنَّ من العجب ألاّ یکتب الطبیب أدبا ً راقیا ً، و هو في خضم الحیاة و في تماس مباشر مع معاناة البشر».
[23]
و حین نناقش ما طرحه الدّباغ لا ننکر أثر مهنة الطب في إغناء معرفة الطبیب بمعاناة أبناء جنسه من حوله، و ما یخالجهم من مشاعر و انفعالات، ولکن هذا لا یتولد عنه بالنتیجة طبیبٌ شاعر أو طبیب قاصّ، أو طبیب روائی، إلاّ إذا امتلک الطبیب الملکة الأدبیة، أو ما یطلق علیه الموهبة في الشعر، أو القصّة، أو الروایة، أو أيّ جنس أدبي آخر، فحین توجد هذه الملکة تصبح خبرة الطبیب النفسیة رافدا ً دفاقا ً یثري تجربته الفنّیة في الأدب و یمدّها بغذاء حیویيّ غنيّ.
نعم إنّ وجود هذه الملکة الفنـّیة هو الأساس، و إلاّ لرأینا کلّ الأطباء و الأدباء، و هذه ظاهرة لا وجود لها علی مسرح الحیاة الواقعیة، و تقتطف من نصّ الدّباغ نفسه ما تؤید به هذا الرأي، فهو یقول:
«وعن هذا الطریق لابُدّ أن یجد بعض الأطباء أنفسهم، و هم یعبرون عن تلک الأحاسیس و الانفعالات، فیطلقونها و یدونونها شعرا ً و قصّة و روایة».
[24]
فنلاحظ قول الباحث: بعض الأطباء فلو کانت خبرة الطبیب و معرفته بألوان معاناة
الناس عبرمعایشتهم والتداخل بینهم بصفته إنسانا ً و طبیبا ً معا ًهي التي تجعل الطبیب
یترجم إحساسه بهؤلاء إلی أدب فنـِي مبدع لجاءت عبارة الدباغکلّ الأطباء.
و ربّ معترض یقول: إنّک تحمل النصّ الذي قاله الدباغ أکثر مما یحتمل، فهو لم یقل بأنَّ خبرة الطبیب في حیاة الناس الذین یعایشهم تصنع منه أدیبا ً، و الدلیل في العبارة التي استشهدت بها، و هي قوله [25].
إنّ الإجابة عن هذا الاعتراض بسیطة للغایة، و من النصّ ذاته، فالجزء الأخیر من کلام الباحث یناقض أوله، فقد جاء في نهایة الفقرة التي استقیناها من کتابه قوله:
«لأنّ من العجب أن لایکتب الطبیب أدبا ً راقیا ً، و هو في خضم الحیاة، و في تماس مباشر مع معاناة البشر».
[26]
فکلامه هنا مطلق الدلالة في أنّ کون الطبیب في خضمّ الحیاة الإنسانیة بکلّ ما فیها من ألوان. الشاعر تلزمه بأن یکتب أدبا ًیعبّرعنها، لقد کان في مقدور الباحث أن یکون أکثر دقـّة في التعبیر من ناحیة، و من ناحیة أخری کان في استطاعته أن یجب علینا الخوض معه في مناقشة لو قدّم لنا في مبحثه الذي وضع له عنوانا ً هو [27] جملة ً، أو حتّی کلمة واحدة فیها إشارة صریحة إلی الملکة الفنـّیّة التي یجب توافرها في الطبیب لکي یصبح
أدیبا ً، لکنـّنا لم نعثر علی شيء من هذا.
و قد ردّ جعفر الخلیلی علی الباحثین الذین حاولوا إرجاع فنّ الأدب و مهنة الطبّ إلی منبع واحد، و ذلک في مقدّمة لکتاب قریبه محمّد الخلیلی الموسوم بـ «معجم أدباء الأطباء» فقد جاء فیها:
«لقد فکرت ملیا ً لعليّ اهتدی إلی العلاقة بین الطب و الشعر، و أسباب التقائها في صعید واحد، و عند کثیر من هؤلاء الذین ضمّ تراجمهم هذا الکتاب، فلم اهتد إلی حلّ بل بالعکس، فقد کانت الأدلـّة تتضافر علی أنّ بین فنّ الأدب و مهنة الطب برزخا ً واسعا ً لایجعلهما متدانیین متواصلین و هو رأي یخالف رأي المؤلف الذي حاول جهده بأن یقرب الوسائط و الأسباب لیجعل منبع الطب و الشعر منبعا ً واحدا ً، أو منبعا ً قریبا ً علی الأقل، فالشعر في حدّ ذاته فنّ لا دخل له بعلم الطبّ، و خصائصه و غایاته، فإذا ما وجد طبیب شاعر، فلیس لأنّ الطبّ و الشعر فنـّان متقاربان، و علمان انتزعا من أصل واحد، و إنّما مثل الجمع بین الصیاغة و التجارة و بین الهندسة و الفلاحة، و کان وجود طبیب شاعر کوجود مهندس شاعر، و حائک شاعر و تاجر شاعر».
[28]
و بعد أن عرضنا الآراء القائلة بوجود العلاقة المتینة و المکینة بین الأدب و الطب، و الرأي الذي یقف في الطرف المعاکس لها، و بعد مناقشتنا التفضیلیة لما بسطه المؤیدون من القرائن التي حاولوا دعم مواقفهم بها، نُلخِّص القول في هذه القضیة .
1- إنّ محاولات المریدین لإرجاع فن الأدب- خصوصا ً الشعر- و مهنة الطب إلی منبع واحد تبلغ قدرا ً کبیرا ً من التعسف، لأنّهم أعطوا النصوص التي ساقوها لتدعیم الفکرة التي طرحوها دلالات أکبر بکثیر مما تحمله في الحقیقة، و بذلوا مجهودا ًمستمیتا ً لاصطناع أواصر قربی حمیمة بین هذا العلم و ذاک الفن، في حین أن هذه الأواصر المتخیلة لیست أکثر من أوجه شبه، لکنها لا تصل إلی درجة القوة التي أرادوها.
2- لم نجد بین القائلین بفکرة العلاقة بین الأدب و الطب من تطرّق إلی ذکر الملکة الفنـّیِّة أو الموهبة التي هي المولد الفني للإصالة و الإبداع، لا من قریب و لا من بعید، مع علمهم بأنّ لا وجود لفنّ الأدب شعرا ً، أو قصّة، أو روایة، أو غیر ذلک، إلاّ بوجوده هذه الملکة.
3- نحن من المؤیدین في القول: «بأن لا جفاء أو فراق بین الطب و الأدب».
[29]
ولکن بشرط امتلاک الطبیب للقدرة و الاستعداد لکتابه الفنّ الأدبيّ الذي یتجسد في الملکة، و بشرط ثان هو أن لا نعطی العلاقة بین الطبّ و الأدب حجما ً اکبرمما هي علیه و الحجم الحقیقي الذي نراه لهذه العلاقة یتمثّل في أنّ معایشة الطبیب الذي یتملک الموهبة الأدبیة للناس في معاناتهم الإنسانیة تشکـّل رافدا ً حیویّا ً هامّا ً من روافد ثقافته النفسیة و الشعوریة التي تعنیه کثیرا ً في إعطاء أدبه قوة و حیویة في التعبیر عن قضایا أخیه الإنسان.
4- و مثلما تمد طبیعة المهنة الطبیة الطبیب الأدیب بذخیرة حیّة غنیّة تغذي آفاقه في فهم مشاعر الناس... و آلامهم و آمالهم، فإنّ الأدب بجمیع ألوانه یمثل ینبوعا ً من ینابیع ثقافة الطبیب و إن لم یکن أدیبا ً، و هي حالة یفرضها الموقع الاجتماعی المتمیز له من جانب، و من الجانب الآخر، فإن ثقافة الطبیب و نکرّر:
– و إن لم یکن أدیبا ً- تمنحه فهما ً أعمق- و إدراکا ً أوسع لطبائع النفس البشریة.
المصادر
- ابن أبی اصیبعة، موفق الدین: عیون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقیق نزار رضا، دار المکتبة الحیاة، 1965م.
- ابن جلجل، ابو داوود سلیمان بن حیّان: طبقات الأطباء و الحکماء، تحقیق فؤاد السیّد، المعهد العلمی الفرنسي للآثار الشرقیة، القاهرة، 1955م.
- ابن قتیبة، أبو محمد: الشعر و الشعراء، تحقیق أحمد محمد شاکر، دار التراث للطباعة، ط3، القاهرة، 1977م.
- ابن منظور، ابوالفضل: لسان العرب، دار الصادر، لبنان، بیروت، 1955م.
- الأصبهانی، عماد الدین: خریدة القصر و جریدة العصر، قسم شعراء الشام، تحقیق شکري فیصل، المطبعة السامیة، دمشق، 1968م.
- ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ : خریدة القصر و جریدة العصر، قسم شعراء المغرب، تحقیق محمد المرزوقی، محمد العروس المطوی الجیلانی بن الحاج، الدار التونسیة للنشر، 1966م.
- الخلیلی، محمد: معجم الأدباء الأطباء، النجف، 1946م.
- الدّباغ، فخری: الأطباء الأدباء، وزارة الثقافة و الإعلام، دارالشؤون الثقافیة العامة، بغداد، 1990م.
- الزبیدی، المرتضی: تاج العروس من جواهر القاموس الخیریة، القاهرة، 1306هـ.ش.
- العانی، مصطفی شریف: الأواصر المکنیة بین الأدب و الطب، ج6، العدد4، 1977م.
- ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ : مجلة المورد، العدد4، 1977م.
- العظماوی، إبراهیم: الطبّ و الأدب، مجلة آفاق عربیة، السنة السادسة، حزیران، 1981م.
- الفیروز آبادی: القاموس المحیط، دارالفکر، بیروت، 1978م.
- القفطي، ابوالحسن: تاریخ الحکماء، مکتبة المثنی، بغداد، بلاتا.
- ــــــــــــــــــــــــــ : أنباه الرواة علی أبناء النحاة، تحقیق محمد ابوالفضل، دارالکتب المصریة، القاهرة 1950م.
- یوهان، فک: العربیة، ترجمة عبدالحلیم النجار، مطبعة دارالکتاب العربي، القاهرة، 1951م.
مشاركة منتدى
8 نيسان (أبريل) 2014, 11:12, بقلم هداية
اريد الاشعار