
أحمد الخميسي.. الأدب في خطر
ليست رومانسية لكنه ما زال يؤمن بعبارة دوستيوفسكي «الجمال سينقذ العالم». يقول إنها توجز الكثير من المعاني، فلا يوجد جمال في ظل الظلم والفقر، ولا جمال في ظل التمييز والتعصب، ولا يوجد جمال في ظل القسوة والغلظة. الجمال في نظره هو العدل والتسامح والحرية، وهو أيضا الجمال بالمعنى الفلسفي، بمعنى التناغم والتناسق. وكلمة جمال في عبارة «سينقذ العالم» إضافة هامة لمعنى العدل والحرية: «فقد سبق أن رأيت عدلا وحرية لكن من دون جمال، لهذا سرعان ما تهدما»!
أحمد الخميسي الذي فاز مؤخرا بجائزة ساويرس يعتبر أن فكرة كل الجوائز في النهاية تتضمن الخروج بالتقدير من مجاله الأصلي وهو القراء إلي مجال آخر، ويعتبر أن أية كلمة تقدير من صديق كاتب أو قارئ «هي عندي جائزة وجائزة مهمة». يفصل فيقول إن الجوائز في الأغلب الأعم قد تكون توجيه الأضواء إلي كاتب حقيقي أو قيمة أدبية وفكرية، وقد تكون أيضا توجيه الأضواء إلي شبه كاتب أو قيمة اصطنعها الإعلام والعلاقات والمصالح. يقول «في اعقادي أن الجائزة الحقيقية لكل كاتب بين يدي القراء وحدهم». ويضرب مثلا فيقول إن أنطون تشيخوف لم يحصل على جائزة، لكنه مازال أحد أكثر الكتاب تأثيرا، أوراثيو كيروجا المذهل لم يحصل على جائزة أيضا. الجوائز كما يراها الخميسي قد تكون محطة في رحلة كاتب حقيقي، وقد تكون أيضا محطة في رحلة اصطناع واختلاق كاتب، وهي مفيدة إذا تقاطعت مع كتاب جديرين بها لأنها تساعد على لفت الانتباه إلي أعمالهم. يقول: «بالنسبة لي لم أكن أتوقع أن أحصل على شيء بما في ذلك جائزة ساويرس، ولم أكن أنتظر شيئا، والآن أيضا لا أنتظر شيئا».
أحمد الخميسي رغم هذا كله – ليس راهبا يتابع العالم من محرابه، بل هو متورط في هذا العالم يتابعه عن قرب ومن داخله. بدأ الخميسي كتابة القصة القصيرة منذ عام 1965 ثم توقف طويلا بعد اعتقاله لأكثر من عامين بسبب اعتقاده حينذاك أن الكتابة عديمة الجدوى، وأن الموضوع الرئيسي الحاسم هو القوة: " فإن كان معك عدد كبير من البلطجية فإن بوسعك أن تنتزع أي مواطن من الشارع وأن تزج به إلي ظلمة أي مبنى ". هذه الفكرة جعلته يتوقف ويندفع إلي طرق أخرى كالصحافة والعمل العام، لكن تلك الطرق نفسها هي التي قادته مرة أخرى إلي الكتابة. يقول " ففي تلك الطرق كنت أجد جزاء من نفسي يتحقق وأجزاء أخرى تظل معزولة. مع الجموع أنت تهتف " يسقط النظام " ويتحقق بذلك شيء ما في نفسك، لكن بعد ذلك تظل أجزاء أحلام كثيرة قائمة على رؤية خاصة لا تتحقق. قد أتفق مع الجموع في شعار " يسقط النظام "، لكني أختلف معها بعد لحظة في أشياء أخرى. لكن في الأدب فقط قد تجد نفسك كاملا كما أنت في واقع الأمر.
هل مثلت تلك النظرة دافعه الدائم للكتابة؟ أسأل، ويجيب: " أكتب ليس لاعتقادي أن الكتابة عمل مهم، لكن لأنه العمل الوحيد الذي قد أتقنه وأستطيع عبره أن أنقل تصوري عن العالم لكن من دون أوهام خاصة عن طبيعة ما أكتبه. أكتب لأنني أتصور ان لدي شيئا مختلفا عما أراه، وأريد أن أدرجه في خريطة الشعور والتفكير ". لذلك فهو يعتبر نفسه في حالة كتابة مستمرة " كنت دائما أكتب " لكن داخلي، دون أن يخرج هذا إلي الورق أو ينشر، كتابة سلبية، وأحيانا أكتب كتابة إيجابية حين أخرج كل ذلك إلي الورق ". تأكيدا لتلك الفكرة اختار أحمد الخميسي عنوان أحدث كتبه "عيون التحرير " فالفكرة من العنوان كما يقول كانت لفت النظر إلي أنه من دون نظرة تحليلية لما سبق فإننا لن نتقدم خطوة إلي الأمام، لهذا مثلا يضم الكتاب مقالا بعنوان " أدب الثورة " يتعرض لفكرة أن أدب الثورة هو الأدب الذي بشر بها قبل 25 يناير ودعا إليها وحشد النفوس خلف الثورة. من ناحية أخرى يقول إنه اختار هذا العنوان للكتاب لأنه لاحظ ميلا قويا لدي القراء لقراءة ما يمس الوضع الراهن، لكن مضمون الكتاب ينفي أنه مجاراة لموضة الكتابة عن الثورة، إنه كما يقول " كتاب مع الثورة وليس تطبيلا لها ".
أسأله:
- على ذكر موضة الكتابة عن الثورة كيف تقيم الكتب صدرت بعد الثورة؟ الإبداعية وغير الإبداعية؟
ويجيب:
– صراحة أقول لك إنه ما أن تعلو موجة، أي موجة فكرية أو اجتماعية أو سياسية أو حتى أدبية حتى أتنحي جانبا لأرقبها، لأن الكثيرين يستسهلون الصعود على تلك الموجات بغض النظر عن علاقتهم الحقيقية بفحواها. ولا أتخيل عملا أدبيا " فوريا " يلاحق المناسبة، الكثير مما صدر أقرب لحالة احتفالية منه إلي الأدب الحقيقي، وبعضه يمثل حجز مقعد في قطار الثورة، وهذا يذكرني بعبارة للروائية الانجليزية جورج اليوت تقول " الانتاج الغزيز إساءة اجتماعية "! وأظن أن الثورة قد خلقت حالة تخويف من معارضتها وهذا خطر جدا، لأن ما تحتاجه الثورة هو النقد، وتفتيح الرؤى، وليس التأييد المطلق،وإلا تحولت إلي ما يشبه السلطة التي ينافقها الجميع. ومع ذلك فثمة عدد لا بأس به من الكتب الجادة التي صدرت أذكر منها كتاب السيد النجار " اقتصاد المرحلة الانتقالية ". أما أدب الثورة الحقيقي فهو في اعتقادي ذلك الذي عارض نظام مبارك ثلاثين عاما بصمت ودأب، مثلما هي الحال مع الكثير من الأعمال التي صدرت قبل الثورة ومنها رواية " واحة الغروب " لبهاء طاهر، وروايات محمد ناجي، ورواية " أوان القطاف " لمحمود الورداني وغيرها.
- وفق كل تلك الرؤية كيف ترى مستقبل الكتابة الإبداعية بعد كل ماحدث؟
– من الصعوبة بمكان استشراف " مستقبل الكتابة الإبداعية " لأن الكتابة – مهما تخيلوا غير ذلك – هي موقف من العمليات الاجتماعية والتاريخية والنفسية والفكرية الجارية، أو هي رؤية خاصة لتلك العملية مجتمعة، وتكثيف لوقع تلك العملية على روح الإنسان، وهي أيضا إضافة ومساهمة في إعادة صياغة كل ذلك. ومن هنا يستمد كل عمل أدبي يستمد قيمته المرتبطة بزمان ومكان محددين. الواقع الذي قد تعيشه مصر لاحقا اقتصاديا وسياسيا سيحدد إلي درجة كبيرة في أي اتجاه ستمضى الكتابة الإبداعية، وما إن كان التيار الشكلاني والذاتي في الأدب سيتقلص لصالح التيار الواقعي، أم لا. ولا أقصد بالواقعية أسلوبا أدبيا معينا، لكن أقصد بها رؤية فلسفية ترى أن الواقع الموضوعي قائم بحد ذاته، وليس أن الذات الفردية هي أساس الكون بوجودها يوجد العالم وبغيابها يختفي. فقط أذكر أن نجيب محفوظ في حوار مع فؤاد دوارة قال إنه – أي محفوظ - بعد نكسة 67 مال للحظة إلي أدب العبث في بعض قصصه، ثم عاد إلي الواقعية. والواقعية تضم أساليب مختلفة بدءا من إيزابيل الليندي مرورا بماركيز وبهاء طاهر وخوليو كورتاثر ويحيي حقي والعبقري أوراثيو كيروجا وماشادور ده أسيس وغيرهم. في كل الأدب الكبير ستجد الواقعية، بينما غمرنا في العشر سنوات الأخيرة على الأقل تيار شكلاني، ذاتي، أشار إليه تيزفيتان تودروف في كتابه " الأدب في خطر " حيث ينبه إلي أن خطرا يحدق بالأدب بسبب النظرة الشائعة التي فصلت العمل الأدبي عن دوره الاجتماعي، وأهمية ذلك التنبيه تأتي من أن صاحبه تودروف هو ناقد وقف على طول الخط ضد العقائدية والواقعية الاشتراكية والماركسية، لكن تلك الخصومة لم تمنعه من رؤية الركيزة التي قام عليها كل أدب عظيم وهي صلة الأدب بالعالم الموضوعي ولم تمنعه من استشراف الخطر.
- الآن هناك أسباب وجيهة للقلق ربما كان أهمها صعود التيارات الدينية. هل تستشعر أن الأدب في خطر؟
– صعود التيارات الدينية هو الحصاد الفكري المر الذي ينبت في حقول التجويع وإهانة الكرامة الوطنية وغياب أي مشروع قومي. المأساة ليست في صعود تلك التيارات إلي البرلمان والسلطة، المأساة في أن تلك التيارات تتطابق بدرجات مختلفة مع " وعي " الناس. لا يقلقني أن تتولى تلك التيارات الحكم. ما يقلقني هو أن قطاعات واسعة تم جرجرتها للتفكير على هذا النحو، وأنه ما من قوة فكرية أخرى منظمة قادرة على طرد الظلام. في الأربعينات 1940 بلغ التيار الديني من القوة حد أنه شكل ميليشيات مسلحة تجوب الشوارع، ولكن ذلك لم يكن مخيفا فقد كانت هناك قوة وطنية تواجهه ممثلة في الوفد واليسار والليبراليين. المشكلة ليست في " صعود التيارات الدينية " بل في "هبوط التيارات الوطنية " التي تعتبر أن الوطن هو الوحدة التي تجمع المصريين من كل الأديان، وأن الهوية يحددها الوطن وليس الدين. وها نحن الآن نتجرع مرارة ما يجري في شكل إرهاب فني وثقافي أقله الحكم بسجن فنان كبير مثل عادل إمام، وهو حكم ستعقبه عمليات انتقامية ظلامية أخرى في مختلف قطاعات الثقافة والفن.
- هل تتابع أداءهم في البرلمان؟ هل يعبرون عن الثورة فعلا؟
– مجلس الشعب لا يعبر عن الثورة لامن قريب ولا من بعيد. مجلس الشعب يعبر عن واقع الانتخابات التي جرت، ويعبر عن واقع ما قبل الثورة حين كان الأخوان القوة السياسية الوحيدة المنظمة والفاعلة وأكثر الفصائل السياسية تعرضا للسجن. موازين القوى السابقة على الثورة هي التي قادت لتشكيل هذا البرلمان، وفي اعتقادي أن البرلمان بحالته الراهنة هو مجرد لحظة مؤقتة سرعان ما ستتجاوزها الثورة إذا توفر لها العزم والوعي الكافي.
- خلال الثمانية عشرة يوما كيف رأيت حضور المثقف؟ وبعدها أيضا؟
–أتذكر هنا رواية "السمان والخريف " لنجيب محفوظ حيث قامت السلطة بعزل المثقف "عيسى الدباغ " عن أي عمل سياسي، في حينه قامت السلطة بذلك، أما الآن فنرى حالة عكسية، إذ قامت الثورة بعزل المثقف. تأثير المثقفين – بمعنى النخبة الفكرية – جاء ضعيفا، كما كان التمثيل الطبقي للعمال والفلاحين ضعيفا، ولست أدري حتى الآن ما هي بالضبط القوة التي توجه الثورة وتقودها من شعار لآخر، ومن مظاهرة لأخرى، لكن المؤكد أن أحدا لا ينصت لصوت المثقف وأقصد المثقف الذي وقف طوال الوقت ضد نظام مبارك، وخارج مؤسساته ولم يحظى ببركات أجهزته الثقافية الرسمية.
- على ذكر المؤسسة الرسمية ما تقييمك للاداء الثقافى الرسمى الان؟
– الأداء الثقافي الرسمي الآن هو تقريبا نفس الأداء الثقافي الرسمي السابق، ويكتفي ذلك الأداء الآن برش الماء على الزهور القديمة لتبدو كأنما هي زهور أخرى يانعة. انظر وزارة الثقافة ومؤسساتها ومسارحها وستجد أنه ما من تغيير لا في السياسات ولا في المفاهيم، وأقصى ما قاموا به هو اخفاء الوجوه القبيحة واستخراج وجوه من الصف الثاني غير معروفة بعد، لكنها من نفس العجينة. لم نسمع بعد عن أية خطة جادة لتغيير اتجاه الثقافة وتغيير اتجاه التعامل مع المثقفين، كل ما يجرى هو حركة تغيير للكوادر، تذكرني بنكتة قديمة عن تبديل الملاءات في بيت طلبة حين صاح المشرف على بيت الطلبة " اليوم يغير الطابق الثاني الملاءات مع الطابق الثالث "، نفس الحالة القديمة، ونفس الطابع المنافق للسلطة، الذي استبدل المجلس العسكري بمبارك، واستبدل بعبارات " سيادة الرئيس " عبارات ثورة مصر. لا شيء حقيقي قد تغير.
- عدم الإحساس بالتغيير شعور عام لأنه لم يحدث تغيير فعلا، حتى مع ما يحدث من محاكمات، قبل أن نترك هذه النقطة أود أن أسألك عن رأيك في الأفكار التي طالبت بتطبيق محاكمات ثورية؟
– أنا مع فكرة إقرار العدل، لكن تعبير " المحاكمات الثورية " يثير القلق، لأنه على الأرجح يشير إلي محاكمات خارج إطار القانون. ولست مع أية محاكمات من هذا النوع، لأن فتح أبواب القفز على القانون عادة ما يؤدي للإضرار بالجميع المتهم والبريء. أما عن حالة مبارك ورموز نظامه بالذات فهم بالطبع يستحقون محاكمة وأحكاما تتلاءم مع مدى الجرم الذي ارتكبوه، وهو جرم أكبر من قتل عدد من المتظاهرين. لقد جوع نظام مبارك الشعب المصري وأذله وأهان كرامته لثلاثين عاما متصلة، ولابد من محاكمته على كل ذلك وليس فقط لأنه قتل عددا من المتظاهرين. نظام مبارك أدخل السماد المسرطن إلي الزراعة، فكم قتل بتلك الوسيلة؟ نظام مبارك حاصر الشباب حتى أنهم كانوا يهاجرون عبر البحر ويرمون بأنفسهم للموت بحثا عن أمل؟ فكم قتل بتلك الوسيلة؟. لكني في الوقت ذاته أرى ميلا لوضع " محاكمة مبارك " باعتبارها هدفا ما بعده هدف، وهذا يصرف النظر إلي حد ما عن محاكمة " نظام مبارك ". فنحن نسجن ونحاكم الناطق الرسمي باسم النظام ونكاد أن نترك النظام نفسه وهو المجرم الأصلي حرا طليقا. أنا أريد أن أحاكم " مبارك " كنظام مازال حيا ومؤثرا، وليس كشخص عجوز في الثمانين.
- خاطبت الثورة بعد 4 شهور من اندلاعها لو تخاطبها الان ماذا تقول؟
– أقول إن ثورة بدون برنامج تغيير اجتماعي واقتصادي وسياسي تعرض نفسها للخطر، ثورة تكتفي بالإصلاح السياسي القاصر على تغيير الرئيس وتعديل الدستور وانتخابات نزيهة، هي ثورة في خطر، ولابد للثورة أن تضع برنامجها بشكل أساسي فيما يتعلق بالنهوض بالزراعة والصناعة، وبالأوضاع الاقتصادية للطبقات الفقيرة والتعليم والصحة والسكن، وبتوجهات مصر السياسية، وفك تبعية مصر للهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، من دون برنامج واضح نكون كمن يحرث في البحر. الثورة مازالت بعد عام كامل غير قادرة على تشكيل حتى " مجلس وطني موحد لقيادة الثورة "، ولم تستطع بعد عام كامل وضع برنامج يلتف حوله الشعب.
- لديك رؤية مختلفة لمنظمات المجتمع المدنى، خاصة مسألة التمويل..هل غيرت هذه الرؤية ام تمسكت بها اكثر بعد التحقيقات التى جرت؟
ج – لدي رؤية بالنسبة للتمويل الأجنبي ولكنها ليست مختلفة، بل هي متفقة مع آراء الكثيرين ممن يجدون في ذلك التمويل عمالة صريحة، وأوكار لكتابة التقارير للجهات الأمريكية، وقد أشار حتى محمد حسنين هيكل ذات مرة في مقال له إلي هذا المعنى وعرض لتجربة محددة لجماعة من تلك الجماعات. لا في جيل الستينيات ولا في الأجيال السابقة كان النضال من أجل تغيير المجتمع مرتهنا بأن تمدك جهة ما بالمال! هذه كانت وجهة نظري ومازلت متمسكا بها بغض النظرعن التحقيقات التي تتم الآن مع هذه المنظمات، لأني لا أدري بالدقة دوافع النظام التي تقوده الآن تحديدا لإجراء تلك المحاكمات، فقد كانت كل المعلومات عن تلك المنظمات متوفرة دائما لدي النظام، فلماذا الآن تحديدا يتم التضييق على المتمولين؟.
التحقيقات الحالية لم تدفعني لا للتمسك بوجهة نظرى ولا لتغييرها، مازلت أفكر في هذا الموضوع كما كنت أفكر.