الجمعة ٢٦ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

أساطير وكالة ناسا!

للإنصاف، فإن العرب والمسلمين ليسوا بِدْعًا بين الأُمم في تشبّثهم بأفكار كهنوتيّة أو وهميّة. غير أنه كان يُتوقّع ممّن حرّرهم الإسلام عقليًّا وعقديًّا أن لا يعودوا إلى ما جاء الإسلام ثورة عليه. ولقد وافقت تلك الثورة في العرب بطبيعتهم عقليّة صافية صفاء الشمس في الصحراء من الغيوم والغبش. لولا أن خَلَف من بعد خَلْفٌ قَبَسوا من الشرق أو الغرب ألوان التخريفات، والهرطقات، والخيالات، والغيبيّات، والقداسات، والصوفيّات، واعتقاد الخوارقيّات في المخلوقات، ممّا لم يكن في الصدر الأوّل من الإسلام، ولا جاء به علمٌ ولا هُدى ولا كتاب منير. بل إنه لم يكن أصلاً في طبائع العرب وفطرتهم، على الرغم ممّا ورثوا من الديانات والأساطير، التي لم يبلغ استعبادها إيّاهم مبلغها في أممٍ مجاورة. فما أن بزغ فجر الإسلام حتى نفضوا عنهم كوابيس لياليهم، واغتسلوا من آثامها، وطهّروا ثيابهم من أوضارها. ذلك أن من الحقّ القول إن استعداد العربيّ الفطريّ كان أميل إلى الحياة والطبيعة والنظرة الواقعيّة الماديّة للكون، منه إلى التعلّق بالفلسفات الدينيّة، أو التجريدات الاعتقاديّة. حتى إنه كان- إنْ هو عَنَّ له التديّن- ربما صنع آلهته من تمرٍ، حتى إذا جاع أكل إلاهه! لأجل هذا كانت بساطة الإسلام وواقعيّته ووضوحه عوامل أوّليّة في استجابة العرب، على الرغم من عناد المعاندين ومكابرة المكابرين من كبراء القوم، كالعادة مع كلّ جديد، لا تكذيبًا ولا غفلة، ولكن لأن مكاسب سياسيّة أو اقتصاديّة كانت مهدّدة بالزوال نتيجة التحوّل والانصياع للدعوة الجديدة. وما تزال السياسة بنية عميقة لظواهر التشدّد الدينيّ أو المذهبيّ، وإنْ بدا الدِّين أو التمذهب باعث ذلك الحقيقيّ.

لقد كان استعداد العربيّ الفطريّ، وإملاءات البيئة من حوله، تجعلانه أقرب إلى الحياة والطبيعة والنظرة الواقعيّة النفعيّة، منه إلى التعلّق بالفلسفات الدينيّة، أو التجريدات الاعتقاديّة، لا عجزًا ذهنيًّا، ولا نقصًا تصوّريًّا، كما يزعم الزاعمون، فمن عَرَف أدب العرب، وفَقِه خطابتهم، وأدرك إشارات أمثالهم، وعلِم حِكَمهم وأيّامهم وتاريخهم، شَهِد أن ملكاتهم العقليّة والنفسيّة لا تتدنّى عن ذلك كلّه ذهنًا وتصوّرًا. وإنما السبب الأساس أن العربيّ فُطِر على عشق الحريّة في كلّ شيء، والأَنَفَة من كلّ مذلّة أو مَسْكَنَة، حتى في عباداته، كما جُبِل على الترفّع عن السفاسف من الأفكار، ونَبَتْ كرامته عن الأخذ بمظاهر النفاق أو الرياء. ولذا فإن كثيرًا من الأفكار الجاهليّة والأساطير الوثنيّة إنما وَفَد إلى الجزيرة من بلاد فارس أو الهند أو اليونان أو الرومان أو غيرها، وآثار الجزيرة المكتشفة في السنوات الأخيرة تدلّ على ذلك. والأصنام نفسها إنما كان أوّل من جلبها إلى الجزيرة، وإلى مكّة تحديدًا، عمرو بن لُحَيّ، حتى قيل إن (هُبَل) ما هو إلاّ (أبولو). وقد كان عمرو هذا- كما يورد (ابن الكلبي) في كتاب "الأصنام"- "أول من بحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وسيب السائبة، وحمى الحامى، وغيّر دين إبراهيم، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان." ومن ذلك أنهم زعموا أسطورة عن رجل اسمه إساف كان يعشق امرأة اسمها نائلة، فالتقاها في البيت فوقع بينهما المحظور، وقيل إنما قبّلها، فمسخهما الله حجرين، فأُخرجا من الكعبة، ونُصبا ليعتبر بهما مَن رآهما، ويزدجر الناس عن مثل ما ارتكبا. فلما غلبت خزاعة على مكّة ونُسي حديثهما، حولّهما عمرو بن لحيّ فجعلهما تجاه الكعبة، يُذبح عندهما عند موضع زمزم. وهكذا قد يحوّل الخيال الشعبيّ مع الزمن ممارسة مغضوبًا عليها ملعونة في الماضي إلى ممارسة مقدّسة في الحاضر! كما يمكن أن نذكر- حتى في العهد الإسلامي- من ملامح ذلك الترفّع عن النسك الكهنوتي والدروشة المتهالكة باسم الورع والتُّقَى، تلك الحادثة المنسوبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد رأى رجلاً يبكي أو يتباكَى ويُظهر النسك والتماوت لدى الحطيم في حرم الكعبة، فخَفَقَه عمرُ بالدّرّة، أو أنه صفعه، قائلاً: "لا تُمِتْ علينا ديننا، أماتك الله!" ولَكَمْ ظهر في العصور التالية على عصر عُمر من أحفاد ذلك الذي خَفَقَه بالدّرّة، من هؤلاء الأموات المميتين للدِّين والحياة معًا في العالم الإسلامي، بل ممّن جعلوا مواتهم مذاهب تدّعي الحقّ والأصالة، أو جعلوا الموت وسيلة تذكير بالدِّين وصدٍّ عن الحياة، أو عبدوا أموات التاريخ منذ مئات السنين، طالبين منهم ما لا يقدرون عليه هم ولا الأحياء من حولهم، ولا أولئك الأموات يوم أن كانوا أحياء! وللموت والماضي قداستهما في النفوس. وكأن قصّة عمرو بن لُحَيّ تتكرّر؛ فاللعنة التي نزلتْ بإساف ونائلة لخطيئتهما، فحوّلتهما إلى حجرين، لم تَحُل دون أن يحوّلهما ابن لُحَيٍّ ومن حَوْلَه من الناس- بعد حين من الدهر ونسيان الأسطورة- إلى صنمين مقدّسين، يُذبح لهما وبهما يُستغاث! ومن شواهد تلك الرؤية المتجافية عن الرهبانيّة في الدِّين والتماوت باسمه، أيضًا: ما حُكي من أنه مرّ رجلٌ بعائشة- رضي الله عنها- متماوتاً، فقالت: "ما له؟!" قالوا: "متخشّع!"، قالت- ولعلّها ضحكتْ: "أهو أخشعُ من عُمَر؟! وكان إذا مشى أَسْرَع، وإذا قال أَسْمَع، وإذا ضَرَبَ أَوْجَع؟!"

نقول إنّ الإنصاف يقتضي الاعتراف أنْ ليس العرب والمسلمون المتأخّرون بدعًا بين الأُمم المعاصرة في تشبّثهم ببعض أفكار كهنوتيّة أو وهميّة. ومن أمثلة النسك العلميّ الغربيّ الحديث أن انتشرت مؤخَّرًا في العالم صورة أُخذتْ مِن قِبل وكالة ناسا الفضائية بمنظار هبل Hubble، أُطلق عليها اسم "عين الله"؛ لأنها تُشبه عينًا هائلة. والطريف أنها عين زرقاء، كزرقة السديم الفضائي طبعًا! وقد نُسبت الصورة إلى مرصد كِت Kitt في أريزونا، وعُرضت على موقع ناسا الإلِكتروني، كصورة فلكيّة في مايو 2003، ثم أُعيد نشرها لاحقًا على عددٍ من المواقع الإلِكترونيّة تحت العنوان نفسه: "عين الله". ويمكن الرجوع إليها في موقع (الأساطير الحضريّة)

http://urbanlegends.about.com/library/bl_eye_of_god.htm

المهم أن تلك الصورة أصبحت مادة تنتشر في بعض الأوساط ضعيفة العقول والنفوس، بوصفها معجزة، يتبارك بها الناس عبر الرسائل الإلِكترونيّة، ويدعون إلى نشرها لجلب الخير، محذّرين من حذفها أو تجاهلها، من قبيل هذه الرسالة:


This photo is a very rare one, taken by NASA. This kind of event occurs once in 3000 years.
This photo has done miracles in many lives.
Make a wish ... you have looked at the eye of God. Surely you will see the changes in your
life within a day!
Whether you believe it or not, don’t keep this mail with you. Pass this at least to 7 persons.
This is a picture NASA took with the Hubbell telescope.
Called "The Eye of God."

Too awesome to delete. It is worth sharing .

During the next 60 seconds, Stop whatever you are doing, and take this opportunity.
(Literally it is only One minute!)
Just send this to people and see what happens.. Do not break this, please.

وخلاصتها: إن هذه الرسالة قد صنعت المعجزات في حياة كثير من الناس، كيف لا وفيها نظرٌ إلى "عين الله"! وأن من ينشرها سيلمس التحوّل في حياته خلال أيّام، فعليه أن يمرّرها إلى 7 أشخاص على الأقل، وإلاّ "يا ويله يا سواد ليله"!.. إلى آخر هذه الهلوسة الدجليّة، التي نعرف نظائرها في أوساطنا الشعبيّة.

فإذن ناسا قد اطّلعت على إله موسى، كما زعم فرعون أنه سيفعل؟! أو ربما وصلت إلى المشاهدة، كما يزعم بعض مجاذيب الصوفيّين أنهم يفعلون؟! الذين يفاخرون بغياب العقول عنهم، جاعلين مقاماتهم عند الله على قدر خَبَلهم وجنونهم:

مجانينُ إلاّ أن سِرَّ جنونهمْ *** عظيمٌ على أبوابه يسجد العقلُ

تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، بديع السماوات والأرض، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير. ذلك أنه يبدو، للأسف، أن هؤلاء أيضًا- في تلك المجتمعات التي نظنها مجتمعات العلم والحضارة، ونبالغ في تمجيدهم لا لخصال كماليّة فيهم بل لنقص نستشعره في أنفسنا وواقعنا- ما انفكوا بدورهم يعتقدون في أوهامهم البدائيّة التافهة، ويروّجون لها، زاعمين أن توزيع صورة ما سيجلب الخير، وعدم توزيعها سيأتي بعكس ذلك، مرهّبين من حذفها أو تجاهلها.

ويظلّ الإنسان جمجمة فارغة تعصف فيها رياح الجاهليّة، مهما بلغ من العِلْم، إلاّ من أنار الله بصيرته؛ لأنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى البصائر.

أمّا وقعنا العربي فواقع مخذول ومخذِّل، لا يعدم فوق هذا، من يدافع عن شياطينه، وينقم على ناقديهم، في عقوق للعقل، ورضا بالموت. يصدق عليه تعبير الشاعر الشاب أيمن عبدالقادر كمال، من قصيدة "ذارعٌ بالصمت"، عن مثل هذا النموذج السلبيّ حتى الثمالة:

ما رثى موتي، ولم يحضر عزائي، *** لا، ولا استحيا، ولا صلَّى عليّا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى