أعيش كنهر وحيد
نار ليلية
منايَ لو أتحلَّق حولَ نارٍ ليليةٍ في صحراءٍ بعيدةٍ.. بالذات في أيلول هذا.. ليصل الدفء الى العظام التي يسكنها الجليد... فقط تأمل عميق يشبه إحساسا غريبا بالحب.. تلاشٍ لذيذ في ألحان الدحية وسجائر هولندية عطرية يفتح غيمها باب الكلام الذي انغلق بشدَّة.
رياح الشعر العنيدة
الشعر قد يعاند أحياناً، هناك شعراء كبار اتجهوا للسرد، وربما يستعصي الشعر بعد سن الأربعين، فهو صنو الفتوة وابن العواصف والتقلبات، بينما الرواية تتطلّب مزاجاً هادئاً وحياة مستقرة بعيداً، لأن الرواية أيضاً خزانها الطمأنينة وراحة البال ربما، والتحوّل الشعري إلى السرد هو مسألة عفوية تحدث أحياناً بعد أن يجرّب المبدع الشعر ويتمرّس به، ويكتب المقالة والفكرة وسواها ويتحوّل للرواية، عدد قليل من الشعراء الكبار استطاع تجديد نفسه بعد سن الـ٦٠، أعتقد أن الكثير من الشعراء اهتموا بالرواية، سميح القاسم شاعر كبير له رواية وحيدة ربما لم يكتب سواها، ومحمود درويش حاول التجربة في كتابه السردي “ذاكرة للنسيان”، لكن يبقى الميل للتجريب، وللشاعر هوايات أخرى يجمعها بالإتقان كجبران خليل جبران الذي نحت ورسم، أو بورخيس في الكتابة عبر الشعر الرواية والنقد، ويبقى على الكاتب أياً كان مجال إبداعه أن يعمل بجد وعمق وإتقان.
صوتكِ يضيئني
هبوبُ صوتكِ على ضجرِ المساء يضيئني كشمعةٍ في الليلِ.. هو كلُُّ ما في الأمر.. هو المتن وباقي الأشياءِ هي الهوامش المعلَّقة على مشاجبِ الغبار.. تغسلينَ الكآبة بصوتكِ.. ترشدينَ الضائعينَ، الحالمينَ، الشعراءَ بصوتكِ.. ها هو يأتي على جناحِ نورسٍ أو قبَّرة، ها هو يحطُّ على ركبةِ القصيدةِ.. إنهُ الحقيقة المطلقة، في زمن فائض بالكذب والدجلِ المبالغات.
صوتُ المطر
دع صوت المطر يأخذك إلى آخر العالمِ وأوَّلِ القصائد، دعه يغسلُ أوجاعَ روحكَ.. صحراء قلقك، بريَّة زيتون روحك المترامية في فضاء بعيد، ها قد انتشيتَ برائحةِ المطرِ الأوَّل.. كانتشاءِ العصافيرِ الخريفيَّة المسقسقةِ في دوحةِ الغيم.. أو كانتشاءِ ذرات الرمال على ساحلِ الشمس، دع المطر يأخذك من يدكَ إلى بساتينِ البهجةِ والنوستالجيا وقصاصات النثر القديمة.. دعه يراقصك كما تفعلُ النساء الهاربات من قوانين القبيلة، وحدودِ الشِعر ومساءات القهوة. دع المطر يأخذك إلى إيثاكا الغارقة في الضباب وفي قصائد كفافيس.
شعراء بلاد الندم
كثيرون من يكتبون بالنيابة عني، لا أكاد أحصيهم.. حتى الهامشيون والحيارى وشعراء بلادِ الندم، وأنا أتسكَّع مثل العاطلين عن العمل في حدائق الخريف وعلى حوافِ شواطئ مضاءةٍ بالمحار.. حتى العصفور الجميل المتكِّسع في ظهيرةِ المدينة البحريَّة ينقشُ بمنقارهِ الرقيق على ماء البحر وعلى الصخور الملساء قصيدةً منسيةً عن راكبي الأمواجِ والعشَّاقٍ القدامى بالنيابةِ عني.
طريق الحليب
أحبُّ سرديَّات الماضي، وأنجذب لحكايا الكبار وأغلبهم ثمانيون محدثون جيدون يتذكرون أصغر التفاصيل التي عاشوها في صغرهم أيام حكم الانتداب الانجليزي في فلسطين.. أحدهم قبل عدة أيام حدَّثني عن نساء قرية سعسع جنوب شفاعمرو وكيفَ أنهنَّ كنَّ يحملن جرار اللبن الثقيلة على رؤوسهنَّ مسافة طويلة الى مدينة حيفا بينما تغوصُ أقدامهنَّ الحافية في طينِ الشتاء.. كنَّ يسرنَ حافيات لأن المنطقة سهلية موحلة.. المسافة بين سعسع وحيفا ربما تتعدَّى العشرين كيلو مترا يقطعنها اللبانات في الثانية صباحاً بنشاط لكي يصلن إلى المدينة مع بزوغ شمس الفجر.. ويرجعن محمَّلات بالخضارِ ومؤونة البيت في الظهرِ.. محمَّلات في الذهاب والإياب.. كانت الحياةُ صعبة جداً ولكنها بريئة وعفوية وصادقة.. صباحات مغمَّسة بروائح التبغ والهالِ والقهوة العربية وحكايات طويلة وغير منتهية للبطولة والتضحية والعشق والثأر.
أيلول / حفيفُ القلب
أيلول هو توأمُ أبريل.. الوجه الآخر لرائحة الحنين.. الشوق إلى الأماكن الأولى.. شغف القصائد.. لعنةُ التأمل.. لوعة الطيور.. حفيف القلبِ.. ورائحة المطر الأنثوي قبل التكوُّن.. لأيلول عبقٌ غامض يشبهُ عطر حبق مائي موشوم على خصر امرأة.. هو من أجملِ الأشياءِ التي يصعبُ تفكيكها، أجملُ القصائد هي تلك التي تولدُ في أيلول، هناكَ براعمُ غير مرئيَّةٍ في الهواء الطلق، هناك نسيمٌ أنثويٌّ يغسلُ الصباحاتِ والعشيَّاتِ بمرورهِ العذب الأنيق، أيلولُ أرجوحةُ الشهور، رمانة في القلب.. عاشقٌ تغرَّبَ في صحراء الكناية، امرأةٌ تحلُّ ضفائرها على مرأى خضرةِ الزيتون، لو لم يكن أيلول في الأرض لاخترعته خيالات النساء والشعراء.
حلمُ الحياة
الحياةُ حلم.. أو ما يشبهُ حلما.. أعودُ بذاكرتي إلى أواخر الثمانينيات، إلى الجبال الأولى والمرتفعات الخضراء التي شكَّلت وعيي بالأشياء والطبيعة، ولوَّنت خيالي بأقواس قزح وبالضباب المستنير، ما زال طعم نباتات تلك الأمكنة تحت لساني، للظلامِ رائحةٌ تشبه رائحة خبز العيد.. أعودُ لفتنة المكان الأَّول.. معافى من مرض الشِعر ولو لبضعة شهور.. في القلبِ حبٌّ.. وعشبٌ يحلمُ.. وندى يتكوَّر مثل فراشات الثلج.. وراء الغيمةِ المنحنية كامرأة ترفع دلو الماء من بئرِ الزمن شمسٌ حائرة في أواخر الخريفِ.. يا لها من صديقةٍ لا تخون، لا ظلالَ يمحوها النسيان في ذاكرةِ الطبيعةِ.. لا أفاعي تزغردُ في أساطير هذا المكان على حد ما قال المدهش حسين البرغوثي.. في البالِ خريطةٌ من نوَّار وأغنيةٌ وفي القلبِ سماواتٌ من زهر اللوز المشتعل بنار بيضاء.. صبيَّا بعد العاشرةِ بقليلٍ كنت.. مضمَّخا بضلالِ عشق المراهق.. وكان لديَّ ما يكفي من الوقت ليأخذني نشيد الأناشيد إلى بريَّة الحنين وجنَّة المرئيَّات.. كانَ جمال الأشياء فائضاً عن حاجته في ذلك الزمن المغسول بالأحلامِ الضالَّةِ الراكضةِ وراء معلَّقة امرئ القيسِ وغزلِ الجاهليِّين الحسِّي ونثر المهجريِّين ورومانسيتهم، في بريَّة الحنين تلك قلتُ أوَّل أبياتي الشعريَّة وخطوتُ خطوتي الأولى على طريق محفوفة بالكناية والمجازات وحوريات المعاني وظلال الكلام، أحنُّ لعبير الزعرور ولكلاب الصيدِ الراقصة في سيولِ الوديانِ الصغيرةِ.. أحنُّ لناياتِ الرعاةِ.. لألحانها العذبةِ المنبعثة من فجوة متخيَّلة في سهر أنثوي الأبعاد.. أحنُّ للحُبِّ الأوَّل.. لروائح الحبِّ الأوَّل تحديداً.. لأطيافه الملوَّنة.. لسهامه الخفيَّة.. لغيومهِ السابحةِ في سفوحِ القلبِ.. لوهجهِ الشفَّاف في المساءِ وهو ينسلُّ من قصيدةٍ عابرةٍ لشاعرٍ منسيٍّ أو نشوة مطويَّةٍ في ألف ليلةٍ وليلة، أحنُّ لحياة الرعاة.. للأشجار الشبيهة بقامات النساء الغجريَّات.. وللدروب التي تمتد من أوَّل القلب حتى آخر المحيطات.. لأعتابِ الجبال ومصاطبها ومغاور المطر الفضيِّ، أحنُّ إلى كلِّ شيء ولكن الوقت ضيِّق كقبلةٍ افتراضيةٍ بين حبيبين.. لا يتسعُّ لقيلولةٍ ما بينَ هديلين ولا لركض محموم خلف حوريات مجنَّحات يعدنَ بافتراش الربوات بالقبل الحرَّى.. ويذبن ويتلاشين كلَّما حاولَ خيالك الوصولَ إلى ممالكهنَّ العالية.
ما يشبه علاقة غامضة
البارحة أضاء الفلورسين دمي، أصبحتُ قنديلا كبيراً من الفلوريسنت.. أو حبَّارا مائيا يضيء الليل.. كما يضيء الشاعر حديقة الهواجس بالحبر. كلُّ الذين يضيئهم الفلورسين يُغمى عليهم ويتقيأون ما غصَّوا به من ذكريات مرَّة.. في المرةَّ الأخيرة عندما أضاءني هذا السائل الغامض في الصيف لم أتذكَّر جيِّدا أنه أغميَ عليَّ كما البارحة.. فجأة تخيلت نفسي أمشي في غابة من شجر الحور.. متتبعا خطى عصافير مرحة.. تذكرَّتُ أشياء كثيرة.. درج بيت يكسوه العشب.. خلخال امرأة عبرت في حلمي.. سماء طبشورية.. نايات مبعثرة.. دواوين باللهجة الفلسطينية المحكية.. طريقي الصباحي.. قميصي المدرسي الأزرق وصديقة شقراء منذ أيام الطفولة.. كنتُ أسمِّيها سيدَّة الزرقة وأعدها بقصائد لم أكتبها وبمحار كثير.. ما علاقة الفلورسين بالشقرة؟ ربَّما علاقة غامضة.. دمي لا يحبُّ الفلورسين.. لا يطيق طعم هذه المادة البرتقالية الصفراء الوردية.. لا يتحملها.. هل أرمي بكوابيس كافكا الملونة في البحر وأنا أتجوَّلُ على ساحلهِ الصخري؟
كحل ناصع
أختارهنَّ بذوق عاشقٍ، كلهنَّ يشبهنَ إنانا إلهة السومريين القدامى المرتبطة بالحب والجمال والجنس والرغبة والخصوبة، أفصِّل على مقاسات أجسادهنَّ قصائد رشيقة.. ضيقة ولكنها تتسعُّ لعناقيدهنَّ الفضيَّة الفجَّة.. كلهنَّ يرقصن في ليالي وحدتي ويثملن من رشفات مجازي.. وقبل الفجر بقليل ينسللنَ كالأشباح الضوئية من أصابع رغبتي ويرحلنَ، أقتفي أثر ناياتهنَّ على الصخر.. أفركُ ذراتِ عطرهنَّ على العشب، في ظلال شجر الأكاليبتوس الذي تتخللَّه شمس الضحى الصيفيَّة، كلَّما أفكِّرُ بقصيدة تبزغُ شمسُ الضحى الفجرية تلك من وراء الأكاليبتوس في سهل أخضر ما، أسمِّيهِ فردوسيَ الضائع.. ترابُ ذلك السهل المحاذي لسفوح الكرمل شبيه بكحل نساء غريبات، كحل ناصع معجونٌ بحنَّاء طفولتي وماء الحُبِّ الأوَّل.
روح المطر
ينعشني المطر كأني حديقة أحلامٍ مهجورة أو حقلٌ محاطٌ بسناسل الغيم، أتحوَّلُ لطيور مهاجرة في قصائد خريفيَّة من فرط حنيني لهديره الأخضر الذي سرعان ما يتحوَّل إلى يد خضراء تتقرَّى تماثيل الفصول المشروخة، فأنمو كعشبٍ في سفرِ المزامير أو في متاهةِ رؤياي، كما تنمو أرواح القدامى القاطنين على حواف التاريخ، المطر مجازاً هو روح السماء أو دمعتها الصارخةُ في البريَّة، أفتقد لسعة جمالِ وقعهِ ولذة تطوافي القديمِ فيه.. يا لها من تجربة لا تُنسى.. كأن شخصا سريَّا محمولاً على ريشة عنقاء يتسلَّلُ الآن من ذكرياتي البعيدة مرتديا مشمَّعا جلديا أنيقا.. هائما في ظلال السماء الرمادية الراقصة، المثقلة حدَّ الأساطير بأناشيدِ المطر.