الأربعاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٥
بقلم حميد الحاج

ألحان عاشقة

لم يعد تمرد المعاناة صامتاًّ، ولكن هل تسحق الأوامر الخشنة عذوبةَ الألحان المكنونة فى فؤاد الولد الذى حطم أغلال الطفولة. ثمة رنين يتسلل خلال أذنى خليل الصمّاوين ويصل إلى أعمق الأحاسيس. يحمل الولد سكيناً يحز بها رأس والده خليل حتى يفصله عن الجسد. يضحك رأس الأب المقطوع والدموع تطفر من عينيه..

 لقد غلبتنى أيها الولد الشقى..

ينحشر الجسد بين أجساد كثيرة تستمع إلى الموسيقا بلهفة، أما الرأس فتنموله أجنحة عجيبة ويحلّق بسرعة وحرية عبر الأزمان لا يستوقفه شيء سوى رؤية لحظة فيها عود محطم وقسَم معظّم ودموع مسفوحة وقروح ملتهبة وفراق ما بعده ملتقى ولحن موؤد يلفظ آخر نفس – تن.. تن.. تـ ..

يتساءل خليل بقلق: هل علم الوراثة والموسيقا يلتقيان؟ لماذا إذاً كنس ونظّف ولمّع بيته حتى لم يبق أدنى أثر لآلة تنطق بالأنغام. حتى هاتيك الأشرطة المحفورة فى دهاليز أذنه الباطنة مزقها بلا ندم.

يتذكر كيف جاءه الولد الشقى يوماً مبتهجاً وهويسأله بطفولة بريئة: هل صحيح يا أبت أنك كنت ملحن أنشودة النصر التى عزفت فى يوم التحرير. أواه كم كنتُ سعيداً بذلك يا والدى! ولكن لماذا لم تقل لى أبداً أنك موسيقار عظيم؟

يا له من ماضٍ مقيت. يتذكر بدقة ردّة فعله التى جعلت الولد أصم أعمى عن كلمة (موسيقا). عجباً لماذا نتذكر جيداً كل الذكريات السيئة؟ آه لوكان فى الدماغ سلة مهملات نفرغها كلما ضاقت ذاكرتنا بكآبة الماضى.

يلتمع فى باصرته قوس النصر كقبة ميمونة على جناح (الشانزيليزيه) ليخلد أمجاد (نابليون) فتتهاوى الأفكار مثل زخات بَرَدٍ على صدر عارٍ: نعم انتصرنا فى حربنا مع فرنسا فأجبرناها على الرحيل، غير أننا خسرنا مع ذواتنا التى تعفنت ولم يعد يعشش بها سوى جرذان الرعب وأشباح القبور، فصارت فرنسا أحب إلينا من ليلى وأخواتها.

ليس عند خليل سبب يخضع لأى منطق لماذا تزوج من سلمى وهو يعلم حب الأستاذ عمار لها. ويعدد آلاف الأسباب دون جدوى، فسلمى وعمار كأنهما كيان واحد. توأمان سياميان لا يمكن فصلهما، وهو أجرى عليهما العملية القذرة. ثلاثين سنة وهو يلتمس الأعذار لفعلته. خير من موتهما معاً ضحينا بعمار.

يخترق نهر السين باريس كأنه إشارة استفهام أزلية القلق وعلى أعتابه سقطت أصنام متحجرة ورفعت أخرى، تحطمت رؤوس لا تأكل إلا "البسكويت" فنبتت غيرها. ولا يتعجب هذا السين الشائخ أبداً وهو الذى غسل خطايا عظيمات وصفح عن ذنوب كبائر، فتلك هى الحياة بما فيها من مخاضات وإجهاضات وولادات عسيرة وأولاد حرام وحلال.

سيعترف خليل لنفسه فقط أنه عاش بلا قضية ولا امرأة. كان للأستاذ عمار سحراً عظيماً عليه شده إلى حرية النفس. فلم تكن اندفاعة خليل لكى يصبح حراً، بل بسبب عشقه لعمار ذلك الإنسان المتوهج. وكم وثق عمار به وائتمنه على أسراره حتى إنه خبأ أشعاره وألحانه جميعها عنده. كان خليل يقضى الليالى ساهراً ليحفظ ما أبدعته عبقرية عمار ويتدرب على أدائـه.

جرذان الرعب تطاردهما. لا سبيل إلى المواجهة، ومجرد الهرب كان الرجولة كلها لا ثلثيها فحسب. لم يكن هناك الكثير من الاحتمالات.. سلمى غير مسيسة ولن يشك بها أحد، ولكن هل ستفتح الباب لعمار وخليل فى هذا الليل الحالك، وهى التى لا تكلم بشراً أبداً؟ ربما تحصل معجزة من يدرى..

سلمى تعيش وحيدة بعد أن قضى أبواها فى الحرب الأولى. كان عندها أخ واحد ولكنه اختفى يعد الحرب الثانية وقيل إنه أصيب بالجنون ويعيش مشرداً. وبرغم جمالها الأخاذ الذى أغرى شبان الحى وشيوخها إلا أنها بقيت وحيدة وصدت بعنف كل من حاول الاقتراب منها. روت عنها مخيلة أهل الحى قصصاً عجيبة. منهم من قال إنها امرأة مشؤومة ومن اقترب منها سيلقى حتفه بالتأكيد.. ومنهم من اعتقد أنها ممسوسة بجنى كافر لا يفارقها.

تقول سلمى: لماذا تأخرت يا عمار.. لقد انتظرتك طويلاً.. ويجلس خليل فى زاوية معتمة دون أن يحس بأى نقص. لكنه يتساءل فى نفسه بتشكك: منذ متى كان لسلمى قضية.. وهل هى الحرية أم الأستاذ عمار؟ يسمع صرير الرياح فى الخارج لكنه فقد الاحساس بالبرد، فدفء سلمى يشع على المكان كله.
بيت سلمى ليس كبيراً فهو مكون من غرفتين شمالية ضيقة وجنويية رحبة بينهما فسحة عارية، لكنه يكفيها هى والجنى الخرافة الذى يستوطنها. كل شيء ههنا أثر موغل فى القدم يخبأ خلف جلده حكاية ممتعة من حكايا ألف ليلة وليلة. فأين ستخفيهما هذه السيدة الأسطورية؟ هل ستخرج الجنى من المصباح السحرى وتضعهما مكانه.. لا شك أن عماراً تغلغل إلى فؤادها فقررت أن تعمل سحرها فيه.

يرى عماراً يبكى ولا يدرى لماذا. هل هو خائف من جرذان الرعب أم أشباح القبور التى لم تتحالف إلا فى بحثها عنه. لا يعتقد.. بل إنه الحب ولاشيء غيره يبكى الرجال.

يستغرب خليل كيف أن الحسناء سلمى لم تشعر بوجوده أبداً. هذه الأميرة الشرقية مفتونة ببقعة الضوء المشرقة من المصباح ولا يمكن لها أن ترى الشحم والسخام. فكر قليلاً ثم قال فى نفسه: ألا يمكن أن تكون غافلة عنه لصمته وهدوئه. قرر أن يجرب الكلام والحراك لعله يشد بصر سلمى إليه. ولكن هيهات، فأريج عمار يعبق فى أرجاء المكان. أخذ خليل يجأر بأعلى صوته، ولا زالت سلمى مشغولة بواحد منهما فحسب.

فجأة يلتفت عمار إلى خليل ويقول له: أنت والسماء شاهدان على لقائنا. يبتسم خليل فى فرح متقلب.. أخيراً سيشهد ما حلم به طيلة حياته وتعانق عيناه خيالى سلمى وعمار المتشابكين كغزل الصوف. وبرغم حلاوة سلمى كان عمار حزيناً دونما سبب مقنع.. كأن فى داخله شعوراً خفياً أن هذا اللقاء ليس إلا ومضة فى عمر الكون البائس.

تضحك سلمى وتقول فى عجب: بماذا تهذى يا حبيبى عمار؟ وهل لقاؤنا يحتاج إلى شهود؟ يرتبك عمار وهو يحاول الشرح: كنت فقط أحاول أن أعرفك على صديقى خليل.

تعض سلمى على شفتى عمار وكأنها تطلب منه أن يتوقف عن الثرثرة الفارغة، وتدمدم: أنت لى خليل حتى فناء الظل من على ظهر البسيطة.

تم كل شيء فى أعماق عينى خليل وخلف جفونه الدائمة الإغماض. هل سيحدث الإلقاح وتنتج الثمرة الطيبة التى طال انتظارها.. سلمى فى ذروة توهمها وفورتها وعمار فى قمة إبداعه وألقه.. هذا ما اعتمل فى فكر خليل بصمت وخشوع.

الجرذان تقرض كل شيء حتى الأنغام المحفورة على أوتاد الدماغ. هناك فى المعتقل تتلذذ الأم بقضم أطراف وليدها ولا ينتشى الأب إلا على مؤخرة طفله. وبرغم أن الإيقاع هناك واحد إلا أنه يمنحك كل ما لم تحلم به الآذان من تذبذبات صوتية، فلماذا إذاً تفكر بالأنغام.

لا يدرى كم من الليالى مر عليه ههنا.. كم حلم بسلمى والموت. هل حملت سلمى من لقاء تلك الليلة الدهماء. يشعر بالرهبة على مستقبل ذلك الولد الشقى. هل سيقال عنه إنه ابن الجنى الكافر الذى يستوطن سلمى أم سيكون مجرد ابن حرام؟ لم يكن اللقاء سوى لحظة واحدة ممزوجة بالألم والرعب والمتعة والجمال.. وها هى تلك اللحظة أنتجت حاضراً مجهول الهوية يلعن ماضيه الخرب ويبصق على مستقبله التافه.

يلتفت عمار إلى خليل ويهمس برجاء: هل عندك حل لهما؟ يبتسم خليل فى هدأة فهو يعلم ما يجب فعله. جرذان الرعب لم تطلب منه سوى أمر بسيط على غاية التفاهة. كان على خليل أن يلعب دور يهوذا.. ربما لأنه رأى فى عمار طهر يسوع. فهل كان زواجه بسلمى محاولة للتطهر أم ثمناً للخيانة. إنه حقاً أحب عمار فلا عجب إذا أحب حبيبته.

عيون أهل الحى أفواه جائعة.. الخرافات لاحقت سلمى مذ برزت إلى الدنيا. أما اليوم فللدخان نار شاهدها جرذان الرعب وأشباح القبور. وكل واحد من ذكور الخلية يقول: لماذا عمار وليس أنا. فكيف قاومت سلمى ذلك البؤس كله ولم تحبب أحداً إلا عمار الذى نغم للدنيا أعذب الألحان إلا أنه ظل صامتاً فى حضرتها.

عندما عاد خليل إلى بيت سلمى وجده صاخباً بالدهماء، والفوانيس معلقة على بوابته الجديدة. كاد يبكى وهو يأسف على حادثة الاغتصاب التى تعرضت لها فى غيابه.. إلا أنها ابتسمت ابتسامة شفيفة لا مبالية وكأن هذا الأمر يخص كائنات من كوكب أخر. أقسم لها أنه يحبها ويريد أن يعلن زواجهما على الملأ، فحدجته بنظرة وحشية ومضت مقهقهة ببؤس.

لقد قضى عمار وعاش الولد الشقى ابن الحرام فى كنف خليل. يمشى خليل بجانب الحائط الصخرى ويفكر فى أمر واحد فحسب.. كيف سيبعد الولد عن لعنة الموسيقا التى أخذت منه عمار وسلمى.. كان عليه أن يحطم كل نفيس ليحتفظ بولده. ولم يكن مفاجئاً أن يتغرب الولد، فالغرب بيت لكل شريد ومأوى لكل ابن حرام.. كيف استطاع تجمع اللقطاء أن يصنع حضارة بزت العالم. فى الشرق يولد كل مبدع ليموت فإن لم تقرضه الجرذان صعقته الأشباح.

يرتجف خليل غير مصدق أنه فى بلدة نسيتها الأشباح ونفقت فيها الجرذان يستمع إلى ألحان ولده المخيفة. هذه اللعنة ظن أنه اغتالها بأسنانه وهو خارج من معتقل الأحلام، فإذا هى تنبعث من الرماد كطائر الفينيق لتتجلى فى ذلك (الشقى) عازفاً يخشع له السين وتتلوى على وقع أوتاره الجمعية الوطنية لهؤلاء الغرباء وهو ينشد لحرية لم تفقد صلاحيتها بعد.

كان يود الابتسام لكن الدموع انهمرت من مقلتيه وهو يفتح عقله على خيال لم يتسرب إلى تلافيف مخه من قبل. ماذا لوتحلق كل هذه الإيقاعات الموسيقية المتنوعة لتحط فى بيت سلمى، هل ستبقى الفوانيس معلقة والجرذان معششة هناك إلى الأبد؟!


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى