«أوجاع الذاكرة» للكاتبة جميلة طلباوي
عند العتبة الأولى
في روايتها «أوجاع الذاكرة» الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب دمشق/2008، ترصد الكاتبة الجزائرية جميلة طلباوي حالة النزف الإنساني عند ذهول اكتشاف الحقائق فتبحر في ثنايا الذات في حال التداعي والتشظي، بالتقاط ترددات وأصداء حكاية تحدث كل يوم في مجتمعاتنا العربية نتيجة لتغلب حسابات العقل الصارم على حاجات الروح ومتطلبات العاطفة، عند تكوين الأسرة، واختيار شريك الحياة، فيطفو التناقض المخبوء خلف ستائر التجمل والتبرير على السطح صراعا قد يقود إلى الانفصال، أو يزيح الحياة إلى منطقة الل ايقين الرمادية الزاحفة نحو السواد، مما يطبع التجربة على مرايا مهشمة لا تعطي للصورة ألقها الأول.
تقوم الرواية على اعترافات بطلها الدكتور ناصر، في ذروة الانفعال عند الانفصال عن زوجته الدكتورة نادية لحظة مغادرتها بيت الزوجية متجملة بشموخ زائف حيث تتدثر بمعطفها وتمضي بعيدا..بعيدا سيدة أرستقراطية واثقة "وكأن المعطف هو ما يتحرك وليس كيانها المادي" ما يستدعي حضورا جافا وحارقاً للأخرى البتول والتي طالما كانت له الحبيبة والأم الثانية، التي تقدم كل شئ في سبيل إسعاده، والتي طالما خاف من ضعفه أمام فيضها وشموخ جديلتها الطويلة المضفرة على أسرارها وكنوزها، فانشَّد إلى نادية ذات الشخصية العملية التي ترى في الحياة محطات وصول لا بد من اجتيازها واستثمارها بكل السبل، ودون تردد في مدينة كبيرة ضاجة في الحياة كالتي انتقل إليها لدراسة الطب وترسيم مستقبله العلمي والعملي، فيقع بين بؤرتين لكل منهما قوة جذبها، بؤرة النبع الأول وبياض الحقائق، وبؤرة الاستفادة من ممكنات الحياة بحسابات العقل فقط الذي يأخذ الحياة إلى برود مدمر يخسر فيه ملامحه ويتستر وراء حضور اجتماعي ونجاح مادي ظاهري الجوف..
فهل يعيش الموت قبل الموت؟!أم ينهض من جديد!!
وهنا تظهر براعة الكاتبة التي انزاحت إلى فضاء أبعد من الهم الفردي لسبر أغوار الحالة في ما هو جمعي من خلال الرجوع إلى مكونات البنية "الاجتماعية النفسية" للإنسان العربي في البيئات العربية قاومت قوى الهدم .. ولعل ذلك باستدعاء حضور الدكتور سيد أحمد صديق ناصر في لحظة ما قبل الانهيار ليأخذ القص إلى فضاءات أخرى..
أسئلة ما قبل الرواية
ما الذي تريده جميلة طلباوي في هذه الرواية النازفة الموجعة؟!
هل هو الوقوف على فشل علاقة زوجية صدَّعت كيان البطل حيث كادت أن تصيبه بالشلل وتفقده القدرة على النهوض من جديد، أم هو فتح جرح الطفلة آية الضحية ثمرة الخطأ الذي حدث؟
في اعتقادي أن هذه الأسئلة وعلى أهميتها ليست هي الهدف النهائي للرواية، وإنما هو الغوص قي فسيفساء العلاقات الاجتماعية والبنى النفسية في البيئات الجزائرية المحافظة، والتي تمارس الحياة بقوة دفع تاريخها ومواريثها ومعتقداتها الغيبية والدينية والشعبية التي تراكمت منذ آماد ضاربة في القدم, شكلت وحدة الإنسان مع ما يحيط به من موجودات في جبلة متينة راسخة كانت النافذة التي عبر منها صديق البطل في اللحظة المناسبة، والذي قد يبدو للبعض محض صدفة ولكني أراه ضرورة حتمية لخدمة سؤال الرواية لأن، سيد أحمد هو نموذج لجبلة متماسكة خرجت من بيئتها لتعود إليها تنهل منها لاستعادة توازنها، فسيد أحمد صاحب تجربة موازية, تقوم على إدراك قدرات الذات، وعمق الانتماء للجماعة، ما يمكنه من التواصل الايجابي مع الحياة بحسابات لا تقوم على حصاد المغانم والخسائر، بقدر ما تقوم على التوازن بين الانتصارات والانكسارات، من منطلق أن احترام وحب النفس يجب أن يؤدي إلى احترام وحب الآخرين، فمن لا يحب نفسه لا يستطيع حب الآخرين وتقديم المبادرات الايجابية لإسعادهم, لذلك كانت الرحلة الى الشوابين مرورا بالقنادسة والبادية والعودة إلى بشار، للاطلاع على الحياة الأرحب ليرى ناصر حقيقته بوضوح، وليتاح له اكتشاف ذاته من جديد بعيدا عن المدينة الصاخبة بعلاقاتها المتشابكة، فهل كانت رحلة عودة الوعي, باستلهام الأمكنة والأزمنة والعودة إلى الجذور الساكنة فينا، ففي القنادسة تلك البلدة العجيبة يستقبله ذلك التمثال يدق على يافوخه مذكرا بمعاناة عمال مناجم الفحم في الماضي القريب إبان الاستعمار الفرنسي, والقصر القديم وباحاته الرحبة، والخزانة القندوسية الربانية وزاوية الولي الصالح "سيدي محمد بوزيان" فيعيش ناصر ذلك الصمت الرهيب، وتتداخل أمامه هندسة القصر مع روح وصوفية بوزيان النقية، وهو يستمع لشرح حافظ الأمانة الأستاذ سلطاني مختار الذي يرافق السياح ويلقنهم تاريخ الخلود دون تزييف أو تشويه،ويريهم الأهرامات الصغيرة, التي كانت تستخدم مدافن للموتى, التي بدون أبواب للعامة، وذات أبواب للخاصة، حيث كان يسود الاعتقاد بحياة ثانية بعد الموت..
في القصر يقف ناصر صغيرا أمام الاستاذ سلطاني الذي يعيش من أجل الآخرين، ويأخذ على عاتقه مساعدة الطلاب لاجتياز الاختبارات والالتحاق بالجامعات لإكمال دراستهم والعودة نخب اجتماعية منتمية فاعلة!!
أي ثقافة تنمو باستلهام المواريث والتواريخ الحقيقية، وأي طاقة يملكها الفرد بالتفاعل الايجابي مع بيئته، وأي خبرات يتعلمها من مدرسة الحياة، ما يجعله يستحضر سيرة أمه الفقيرة الصابرة ابنة "تبلبالة" مدينة البحيرة المتحجرة التي كانت ذات زمن سحيق مغمورة تحت البحر، والشجرة العجيبة التي تحل لعنتها على كل من يجرؤ على النيل من حطبها، فتحضره أغاني "الفقارات" مع "مانه بادي " ورفيقاتها..
أي نسيج الذي يجمع بين سلطاني وأم ناصر والخالة "يطو" والملوخية الطازجة التي تنتظر قدوم سيد أحمد المفاجئ في أي لحظة، هذه الخالة التي تمثل له ولزوجته أما ثانية، ويمثل هو لها ابنا يقوم على رعايتها وعلاجها، ويمارس التكافل الاجتماعي سلوكا يوميا، لذلك نراه يقدم الطعام لدرويش دق بابه وكأنه يقدم واجبا من واجبات الحياة..
في هذا الفضاء الإنساني الرحب، يلمس الحياة في البادية عن قرب، ويرى كيف يعيش أهل البادية بالبسيط من الوسائل حالة توحد مع الموجودات، تجعل الإنسان متصالحا مع نفسه مؤمنا بالمقدر والمكتوب!!
هل كانت الرحلة كشفا جديدا لناصر، وسؤالا محيرا أمام شخصية سيد أحمد المتصالحة مع نفسها والمحيط، وهو سليل الأشراف في بلدة "الشوابين" الريفية الزاحفة نحو المدينة، كيف يتعايش مع الأسرة/العشيرة المحافظة التي ترفض استقلال أبنائها عنها إلا بعد أن يتناسلوا أبناء وأحفاد يضيق بهم المكان،ولا تؤمن بدور المرأة وحقها في التعليم والعمل، قدرها البقاء حبيسة البيت حتى تنتقل إلى سجن بيت الزوجية، فيحق للزوج استعبادها داخل البيت وترويضها بالضرب والعنف، واللهو مع غيرها خارج البيت..
هل حققت الرحلة أهدافها مع ناصر ابن المدينة الصغيرة "بشار" ودفيئة حضن العائلة وحضور البتول بضفيرتها الطويلة التي تقوم بكل شئ من أجله،وتجد سعادتها في نجاحه وسعادته.
الشخصيات في الرواية
قد يبدو للبعض أن الكاتبة قد حصرت الفضاء الروائي بأحداث وقعت بالفعل، وقد يكون الحدث الواقعي هو ما فجر شهوة الكتابة، ولكن الرواية أعادت إنتاج الواقع فنيا وحملته أسئلة أكثر عمقا سبرت ما هو أبعد من الظاهر، بتقديم شخصيات تحمل دلالاتها وأفكارها تتماثل وتتصارع وتأتي بأفعال أخرى لتخلق حياة أخرى تنال مصادقة القارئ، وتزيح الواقع الروائي الى واقع فني يرتفع عن الحياة قليلا حتى يراها بوضوح من خلال أدوار جديدة للشخصيات في الرواية..
1 - الدكتور ناصر
الطموح الذي نشأ في دفيئة أسرة فقيرة،غنية بقناعاتها، ممتثلة لأقدارها، يقع فريسة الانبهار بحياة المدينة الصاخبة القائمة على المنافع المادية، فيدير ظهره للبتول حبيبته وأمه الثانية، ويتبع سراب ناديه زميلته في الدراسة، ظنا منه أن البتول بحنانها وفطرتها الرقيقة ستزيد ضعفه ضعفا، بينما تشكل نادية جدار حماية بشخصيتها القوية واندفاعها اللافت نحو تحقيق الأهداف على الرغم من جمود عواطفها، فيدفع ثمنا لخياره فقدان خصائصه الأولى ويتحول إلى ظل تابع لشخصية زوجته ما يحيل الحياة معها إلى جحيم يؤدي إلى الانفصال..
فهل يمثل ناصر الجيل الطالع في الجزائر، الموزع بين الاندفاع نحو حياه أمثل والمشدود إلى بيئات محلية محكومة بمواريثها وثقافتها التي عصمتها من الذوبان والتلاشي على مدى عقود طويلة تحت نير الاستعمار الفرنسي، وبين البحث عن دروب التواصل مع حضارة العصر التي تتسارع بسرعة فلكية، تدك رواسي اليقين في الأجيال الجديدة على امتداد المعمورة.
2 – الزوجة ناديه
الصارمة الجامدة التي تتجمل بمظهرية عصرية خادعة تخفي روحا شريرة مدمرة هي نتاج بيئة أسرية مضطربة وعلاقات مشوهة بين أم ضحية وأب لا يتقيد بأعراف أو ضوابط خلقية، لذلك تأخذ أقرب الناس لها مطايا للوصول إلى أهدافها بصرامة، وبرود عاطفي قاتلة، وثقة عمياء بأنها المتحكم والصانع لمصائر الآخرين, وأنها القادرة على رد زوجها إلى بيت طاعتها بالمشروع وغير المشروع من الوسائل والتصرفات تارة، أو الخروج من الباب والعودة المتسللة من النافذة، لمعاودة التسلط من جديد تارة أخرى..
فهل تعكس نادية باطن الحياة المعقدة في المدن الجزائرية الكبرى، أم تعكس نخب معينة تسحب الحياة الى جحيم محقق، أم هي إفراز منطقي للحياة المعقدة بعد عقود من الاضطهاد والانغلاق والتغريب
في كل الحالات هي نموذج لوهم تضخم الذات والاستخفاف بمصائر الآخرين والميكيافلية المدمرة!!
3 - البتول
التي في اسمها مفتاح حقيقتها " مريم البتول" المرأة المدينة الزاخرة بالعطف والحنان وشفافية الروح, التي يسكن ضفيرتها شموخ لا تنال منه الصعاب والنوائب, تتلقى ضربات الأيام بصمت, تعاني اليتم والفقد وصلف زوجة الأب، تلوذ بخالتها وتمارس فيضها إلى أبعد الحدود لإسعاد ناصر والآخرين, فتصبح الحبيبة والأم الثانية, والطيف المشع الذي لا يفارقه، تمتثل لخياره مع نادية بحزن مكتوم، وتستجيب للزواج من مدمن يسومها العذاب، وتتحرر منه وهي أكثر تصميما واندفاعا نحو الحياة، تقف مع ناصر في محنته، تتفتح نوارة القلب ثانية فتأتيها الضربة من حيث لا تحتسب، لتقف عند جرف ذهول جديد، أمام حق الطفلة آية في أمها وأبيها، ما يعيد النزف من جديد، ويضع الحياة عند اختبارات جديدة!!
ولعلي أتساءل:
هل البتول تحمل أبعد من لحمها ودمها لتصبح المرأة الوطن/ الجزائر الذي يعض على النواجذ بفعل أخطاء أبنائه، وكأنها العذراء التي ستلد المخلص يوما؟؟
4 – الدكتور سيد أحمد
فليسوف من نمط خاص، شديد الالتصاق بالمجموع، شديد الحذر من السقوط والفشل، يستلهم الايجابي من المواريث والتواريخ والعادات والقيم، ويشحذ العقل عند تحليل الظواهر، يكيف رغباته المادية بقدر المتاح والممكن، أما فضاءه الروحي فلا يحد، يكبح جماح القلب ويقتات علة الألم بصمت، وسطي النظرة للحياة، تعادلي بين المتناقضات، يعطي الكثير، لينال الكثير من القناعة والرضا, يستوعب روج العشيرة, ويلتف حول السلبي تفاديا للانفجار الذي يؤدي الى قطيعة لا عودة بعدها، يخسر الجولة مع أهله في موقفهم الرافض لزواجه من زميلته في الجامعة، ويكسب نصف انتصار بالزواج من امرأة متعلمة لا تعمل، فهو يؤمن بمرحله الاندفاع نحو المستقبل..
فهل هذا النموذج الذي تقترحه الروائية للرجل الجزائري في هذه المرحلة، للعبور إلى المستقبل بدون القطيعة مع المواريث والمعتقدات الإيجابية التي تمثل صمام أمان من حضارة مادية تعصف بالعالم من حولنا، قد تأخذنا الى شروطها، أو تدفعنا إلى عنف أصولي غير مبرر كالذي عصف بالجزائر وما زالت آثاره بادية للعيان..
وتقنيات السرد أيضا
حققت رواية أوجاع الذاكرة شروط الرواية القصيرة، وقدمت مساحة من السرد المترابط، عن حكاية لاهثة الأحداث والتداعيات، بتدفق سيال ووعي فاض على جانبي المجرى واستدعى الظاهر، واقتلع الباطن غير المعلن ليطفو على السطح عند مكاشفة الذات، الأمر الذي أخذ الرواية إلى سرد متواصل لا يتوقف عند فصول، وذلك بالاستفادة الواضحة من توترات القصة القصيرة فالبوح يعود باللحظة إلى منابعها فيتمدد الزمن إلى أزمنة، ويستدعي المكان أمكنة لغايات محدودة، من خلال جديلة زمكانية مترابطة تظهر سيطرة الكاتبة على عالم الرواية بتسللها الذكي إلى ذات الراوي /البطل، وتنثر على لسانه أفكارها وأسئلتها، المحمولة على لغة شاعرة، تجنح نحو التأمل العميق، وترتفع فوق الحياة لتسبر أغوارها وترى بشفافية تفاعل مكوناتها من خلال كيمياء صراع الطموحات والرغبات والممكن المتاح، وتطرح دون قصد جدوى اللغة الشاعرة في السرد الروائي، وإلى أي مدى يمكن توظيف التداعيات والرجوعيات وسيال الوعي والشعر في رواية حديثة، لا تنفصل عن بيئتها، ولا تفقد ملامحها تحت دعاوى التحديث؟
أعتقد أن جميلة طلباوي كانت في منتهى اليقظة والحذر عند رسم الأفعال وتدفق السرد وتقنين التداعيات على عبارات محسوبة تتطلب قدرا كبيرا من التهويم تحت رقابة فنية صارمة، فنجحت وإلى حد كبير في رسم لوحة تدعو إلى التأمل بقدر ما تثير الدهشة والأسئلة
أما بعد
فقد تمكنت الروائية/ المرأة الدخول إلى وعي البطل/ الرجل، وتنطقه بما تريد دون أن يعلو صوتها على صوته باستثناء حالات قليلة، وتلك مغامرة تتطلب الكثير من الاستعداد والمعرفة وسعة الأفق، وقد نجحت كاتبتنا في الاختبار في مغامرتها الروائية ، وقدمت رواية تضاف الى السرد العربي، وتبشر بروائية واعدة لها مذاق خاص.