أيتها الاستعارة الزائغة.. انتظري!!
في أفق خطوة جديدة للاحتجاج على الصمت الأبله:
فعل الاحتجاج ليس استعارة خارج السطر في جملة زائغة ستخبو بعد قليل.. ولكنه جمر يعلو ويزداد اشتهاءً ليُنير طريقنا الطويل، ويُدفئ أركان بيتنا الذي لم يعد له سقف.
الاحتجاج ليس اختيارا، بل آلية ديمقراطية للتنبيه إلى مخاطر تتهدد الوطن، وحق مشروع يسمح برفض تدبير غير عقلاني لقضايا الشأن العام، وتمرين لاختبار المواقف وردود الأفعال...هي معادلات لا يستوعبها إلا من تمرس بالأفق الديمقراطي، ومن له دراية بكبير الفوائد التي تجنيها الأوطان من الحركية المجتمعية التي تؤكد أن القيم النبيلة فيه حية ومستدامة.
لذلك سعدنا عندما تواصلَ معنا أدباء من مصر وتونس والجزائر ولبنان وفلسطين والعراق، ومن دول إفريقية، وجغرافيات أخرى، يشيدون بحيوية الجسم الثقافي المغربي، ويغبطوننا على هامش الحرية الذي نقف فيه برؤوس عارية، نمارس حريتنا دفاعا عن أصواتنا وكلامنا وأصوات شعبنا ومجازاته الساخنة. وقد جاء تواصلهم ذاك، إثر انخراط عدد من المثقفين المغاربة في إعلان محبتهم لفلسطين، أو في الإعلان الشجاع عن مبادرة الاحتجاج على ما تتعرض له ثقافتنا من تبخيس وتجاهل وتمييع، وألمحوا إلى أنهم لا يملكون هذه المساحة السحرية التي نقف عليها، نحن هنا، تحت الشمس، وبوجوه مكشوفة، ومواقف لا تزايد على أحد، ولا تطمع في عطاء.
فعلا، ندركُ هذا، وللأسف لا يدركه المسؤولون عن قطاع الثقافة الذين يعفسون عفْسا وعسْفا على كل جميل، فيسيئون إلى صورتنا الجماعية، وإلى ثقافتنا الممتدة على خط عشرات القرون، يحمل جيناتها كل مغربي نبيل في دمه وجلده وملامحه وفي غضبه أيضا.
نحن لسنا في جزيرة معزولة، داخل هذه المساحة العربية في أقصى الغرب حيث تُبلل أجسامنا مياه الأطلسي هادئا أو غاضبا، كما تُبلل أرواحنا كتابات ومواقف نساء ورجال هذا البلد، ممن دافعوا عن كلماتنا ووجودها الرمزي والجمالي وسط القبح والتوحّش، في صراع طويل ومرير ورائع، منذ فجر الاستقلال مرورا بالعقود التي تلته ساخنة ورصاصية اللون، دون أن يستسلموا أو يبحثوا عن هُدنة رخيصة، فأسسوا لقيم ما زالت حيّة ومشتعلة في نفوس وكتابات ومواقف المثقفين المغاربة، وهم يرفعون شعار الاحتجاج وتفعيل دور المثقف داخل المجتمع؛ لأنهم على اقتناع تام بأن:
– الثقافة جبل أشم فوق أرض واسعة تحميها من العواصف والحرارة المتطرفة؛
– الثقافة نهر انطلقت ينابيعه الكثيرة منذ آلاف السنوات... وما زال يجري ويروي الجميع بكرم وسخاء؛
– المفارقة الصادمة وغير المفهومة هي أننا حققنا دستورا متقدما في سنة 2011، وأن الشعب المغربي، نساءً ورجالا من الشعوب التي تمتلك حسا وطنيا عاليا بمشاعر وذكاء وطموح لا حدود لهما. لكن في المقابل، ومنذ تلك السنة تعاقبت علينا حكومات تجيد خرق هذا الدستور وتعطل الدينامية التي رأينا ملامحها مثل طيف خاطف !! فهل الرحم المغربي عقيم عن إيجاد مسؤولين في حجم طموحات المجتمع، ومستوعبين جيدا لفلسفة الدستور؟
– العقم ليس مجتمعيا أو جماعيا ؛ففي وسط كل هذا الوحل يوجد مسؤولون وطنيون ، وتوجد وزيرات ووزراء لهم من الكفاءة العالية ما يجعلنا نحترمهم، ونقدرهم. وفي وزارة الثقافة، نفسها، هناك موظفات وموظفون نزهاء ولطفاء وجديون، غيرتهم على الثقافة لا تنضب، لكن القرار ليس بأيديهم، وليسوا مسؤولين عن تدبير السياسة الثقافية بالبلاد؛
– العطب فينا جميعا ... فكلٌّ واحد يتحمل نصيبه منه: الصمت العاجز- الفعل المنقطع - زواج المال والسياسة- عدم ربط المسؤولية بالمحاسبة- الانتظارية القاتلة- الانتهازية التافهة- الحوار الانتقائي –المساهمة في تعميم ثقافة التمييع والتفاهة – عدم تقدير الكفاءات – التجاهل ...
– إن ما عبّر عنه بعض المثقفين النزهاء، والغيورين على وطنهم، والمقتنعين بقيمه التي رسخت منذ قرون، وما أكدته رسائل ومواقف المثقفين العرب، وما يعبّر عنه مثقفون مغاربة... إن هي إلا مشاعر نبيلة وصادقة ندركها ونصونها كما صُنا أصواتنا وسط نقاش مسؤول يتخذ لون النقد والاختلاف، ولكنه لا يفترق أبدا في طريق نسير فيها ضد الباب المسدود أو غرفة الانتظار المظلمة. نقاشاتنا التي تأتي إبداعا أو مقالا أو تدوينة كانت وما زالت وقودا يقوي الحذر فينا، ويجعل الرؤية تصفو وتنظر إلى المستقبل والقضايا الكبرى التي تجمعنا- جميعا وبلا استثناء- بأملٍ واستشراف إيجابي يتجاوز الأفراد ليعانق أحلام الوطن، يؤطرها الوعي والفكر والحداثة والمجتمع والإنسان. إنها هويتنا التي لن يشرخها بؤس السياسي المستلب والعاجز والمغرض... والذي يحيَا خارج روح المجتمع وثقافاته المتعددة والمتناغمة.
نخوض احتجاجنا لحماية هويتنا من الخدش والتبعية والأمر الواقع، ونقوي استعارتنا المضادة التي نشيّدها بأحلامنا الصغرى والكبرى .. ضد كل مسؤول فقدَ ذاكرته وملأها بشريحة غريبة ونشاز، ضد كل مسؤول يشتغل كأنه قنصل من قناصلة دولة أجنبية في قطاع حيوي ببلدنا. ولن نحيدَ عن قرار نتحمل مسؤوليته وسندافع عنه لاقتناعنا أن ذلك ما يقتضيه السياق، وما تستوجبه قيم المواطنة، لأن دورنا أن نصدح بموازاة الكتابة، بانتقاد الأعطاب التي تكرس الجهل وتُقزّم المعرفة. ورغم وعينا بأن هناك من لا يتفق مع قرار المقاطعة مادام الأمر يهم الشأن العام فإننا نشكره على قوله الذي يخفي الخوف من اتخاذ الموقف، ولا يرى باب الوزارة الموصد في وجه كل المبادرات الجادة، والذي لا يحاور إلا نفسه، أو من يسمعه صوته بلغته، وأن الوطنية الصادقة علمتنا أننا لا نخاصم الأشخاص، وإنما طرق تدبيرهم، وأن ما يعطينا هذا الحق هو الغيرة الصادقة على الثقافة؛ فنحن لا نصارع في الظلام، بل نصارع في مساحة من الوضوح والمسؤولية والأمل في ثقافة ترفض تبخيس كل الإيجابيات التي رسختها الأجيال السابقة، والإيمان بحقوق الأجيال القادمة علينا كي لا يرثوا الغبار والرماد.