إشكالية المنهج أم إشكالية السلطوية؟
الملخص
في طرفي معادلة العنوان الفرعي "إشكالية المنهج أم إشكالية السلطوية؟" تضاد جدلي منظوماتي، إذ و لا بد من أن يستويان معا أو ينتفيان معا، بل أن حضور أحدهما و غياب الآخر لهو بمثابة المؤشر على وجود خللا ما على مستوى تلك المنظومة، بل إن ذلك إنما يعني ضمور الطرف الأول في مقابل انتعاش الطرف الثاني و العكس بالعكس أمر مستحيل عمليا، و هو ما يشي بكل اعتباطية عن سريرة هذا البحث، الذي يجمع بين النقد الأدبي المعاصر و نظرية الأدب أي "الأبستمولوجيا" بالمفهوم الفلسفي، فكيف إذا لم تطرح إشكالية المنهج في سياقه الغربي الذي أنتجه بالحدة التي تطرح في السياق العربي لولا مدنيته وإنسانيته؟ الأمر في حقيقته يطرح ارتباط إشكالية المنهج بإشكالية القيم المدنية و الإنسانية في المجتمعات المتخلفة، المجتمعات التي يعترض سبيل تطبيق المنهج بحلته الغربية لديها قيم المجتمع الديني، كما في سياقات العالم الثالث الأخرى، لكن تبني السلطوية في السياق العربي الدفاع عن قيم المجتمع الديني هو الذي جعلنا نستبدلها بإشكالية السلطوية، لقد تحول المنهج الما بعد حداثي في جامعات المجتمعات السلطوية و مراكزه البحثية إلى بحث مزمن في المنهج تبجحا على العقول و تصبيرا لها في الوقت ذاته (إلى خضوعه لعملية تبيئ كما يقول محمد أركون، و قد اخترنا كعادتنا عبارة "البحث المزمن في المنهج" تقليلا من اجترار مصطلحات بعينها يكون قد ملّها القارئ العربي كالتنظير و الإشكالية و الاتساق و الانزياح و التقليد و التأصيل.. بمحاولتنا انتهاج أسلوب مختلف بقدر الإمكان عن أسلوب المغاربة في هذا الشأن حيث: الانحياز، الحياد، الظاهرة، الانحراف ، التوازي، التطفل، التوليف .. مفردات لها دلالات شعبية لكن عملية و أقل ديماغوجية).
توطئة (مناهج ما بعد الحداثة و ظاهرة "البحث في المنهج")
نود في هذا البحث تناول موضوع أصبح يطرح كثيرا في الملتقيات الفكرية و الدراسات الأكاديمية، بخاصة تلكم الندوات و الملتقيات والبحوث الأكاديمية، التي تعنى بدراسات التراث و الميثولوجيا و علم الأديان و الأساطير و الأنثروبولوجيا، بحيث تكون موضوعات بعينها، سواء كانت أنطولوجية أو أبستمولوجية أحوج ما تكون إلى المناهج العلمية الغربية في تقصي حقيقتها الكامنة، لكن يُعزى إلى تلك المناهج قصور بشكل أو آخر في الانسجام مع تطرحه الديانات التوحيدية بخاصة الإسلام و الديانة اليهودية و حتى الزراديشتية و الأرثذوكسية، و من طرف العلماء الباحثين في التراث و الدراسات الإسلامية الذين اتفقوا أن تلكم المناهج إنما ابتكرت كي تطبق ضمن سياقات علمانية إلحادية لا غير، إذن سيكون فكر و علوم المسلمين براء منها براءة الذئب من دم يوسف، تختصر في مناهج ما بعد الحداثة، طُرحت خصيصا لدراسة الظواهر الإنسانية و الاجتماعية لكن وجدت إشكالية تطبيقها ضمن السياقات غير العلمانية، تقارب الخمس مناهج إذا ما ألحقنا نظرية التلقي/ القراءة بالهيرمينوطيقا، نتناول بالتحليل المستفيض لاثنين منها و هي: علم التأويل Hermeneutics، المنهج الأسطوري أو الأنثربولوجي، المنهج التفكيكي ، دراسات ما بعد الاستعمار أو نقد ما بعد الاستعمار، النقد الثقافي (يوظف شقه الخاص بكشف المضمرات المسكوت عنها / الأخلاقية، الباحثون ذوي الميولات التراثية و يوظف شقه الخاص بالنقد النسوي و تحليل الخطاب في نقد ميشيل فوكو لسلطة المعرفة العلمانيون ). حيث تتفاوت نسبة الرفض [1]، ليتحول المنهج إلى نظرية في النقد مستعصية على التطبيق إلا نسبياً (أو إلى تبيئ المنهج كما يقول محمد أركون ، وقد اخترنا كعهدنا عبارة "البحث الدائم في المنهج" حتى لا نقع في اجترار مصطلحات بعينها قد ملها القارئ العربي كالتنظير و الإشكالية و السياق و الاتساق و الانزياح و التقليد و التأصيل.. ناهيك عن محاولتنا انتهاج أسلوب مختلف بقدر الإمكان عن أسلوب المغاربة حيث: الانحياز، الحياد، الظاهرة، الانحراف، التوازي، التطفل..
مفردات لها دلالات شعبية عملية أقل ديماغوجية) ، في الفضاءات العربية الإسلامية، خاصة الشديدة الانغلاق منها، و هي المناهج التي مضى على نشأتها في الغرب من العشرين حتى الستين سنة، أي أصبحت قديمة، لكنها مازالت في بيئتنا تُعامل كأنها جديدة! كالنقد النسوي و التفكيكية و علم التأويل أو التأويل العقلي و نقد ما بعد الكولونيالية و تحلل بها النصوص و تنجز بها البحوث تحت مسميات، على غرار: "المنهج الفلاني بين الممارسة و التطبيق" بالرغم من أن في هذين اللفظين ( الممارسة و التطبيق) تعسف كأنه يريد بهما القول: المنهج برغم علميته ليس جديرا بالتطبيق و المراد أنه مشكوك في موضوعيته، فاقد لمصداقيته البحثية، لكن هامش المناورة ــــــ النسبي ـــــ متروك وحصافة الباحث، إذا ما حاولت الجرأة البحثية عندنا اعتماد هذه المناهج فإنها عبثا تحاول، بل قبل أن يكفّر أصحابها ربّما سينتهي بهم الأمر إلى التقوقع في اللاجدوى، ثم في التهميش التعسفي والدوران في حلقة مفرغة فينحرفون ببحوثهم بداهة إلى "البحث المزمن في المنهج"، و لا نريد ابدال تسمية "الظاهرة" بتسمية "المصطلح" حتى لا نرهق كاهل أزمة المصطلح في الثقافة العربية بمصطلح جديد آخر جديد. ولا نود تسمية مناهج بعينها بالمناهج الذاتية و الأخرى بالمناهج الموضوعية، فهذه مغالطة و ذر للرماد في العيون من قبل النزعة ذات الميولات التراثية، التي تضع نفسها ضد سلطة أقوى بمكان هي سلطة العلم بل سلطة الحضارة نفسها، التي أوجدت تلكم المناهج عندما تقول: « المشهد النقدي الذي شهدته الساحة النقدية يشير إلى موقفين متنافرين: الأول يتمثل بالارتماء في دائرة الموضوعية المتطرفة، و الثاني يتمثل بالنزعة الذاتية المتطرفة، و ترمي النزعة الموضوعية إلى التركيز على النص الشعري/ أو الأدبي وحده، بوصفه بنية لغوية وإشارية محايثة و مكتفية بذاتها (..) أما النزعة الثانية فتعمل في دائرة تسعى إلى نزع سلاح النص و محو سلطته المطلقة، ومنح هذه السلطة للقارئ، بوصفه مبدعا للمعنى و تتمثل هذه النزعة بما سمي بما بعد البنيوية» [2] فتقع أول ما تقع في مناقضة العقل أي النهج منهج العقل ثم القول باللاعقل في الوقت ذاته! كما أن المنهج علم و العلم موضوعي دائما، أما نسبة تلك الموضوعية حري بها علم الأبستمولوجيا. فالمنهج التجريبي مثلاً في دراسة الظاهرة التاريخية و التأويل العقلي في دراسة النصوص بما فيها الدينية، مجال الذاتية فيهما مقيد، مجال محصور و مغلق بالتجاوز، لأن البديل هو الانكفاء والجمود.
1 ــــ ما المنهج؟
ليت شعري، أوَيستطيع الناقد الباحث أن يوصل سيارته إلى بيته الريفي دونما أن يشق طريقا معبدة يوصلها بالطريق العامة؟ نخشى أن في الأمر مشابهة فبالنسبة للوصول الى النتائج العلمية، سواء في ضروبها الثلاث: علوم الماديات والكون (الفيزياء و الفلك و الطب..)، وعلوم الإنسان والمجتمع بما فيها الفلسفة و علوم الخيال والابداع و الفنون، الأمر كله خليق بالطريق أي بالمنهج أو النهج، يقال نهج في الأمر أي أوضحه. والمنهاج غير البرنامج الدراسي كما يخلط الكثيرون في عد البرنامج الدراسي المعد للتعليم الابتدائي منهاجا، وهذا خطأ فادح بل المنهاج هو المنهج: الطريق و الجمع المناهج.
«كلمة منهج في اللغة الفرنسية مشتقة من لفظ يوناني: بمعنى بعد، و من Hodos: الطريق. و المعنى العام للمقطعين هو: التزام الطريق أو Méthodos مكون منMéta السير في طريق محدد » [3] و المنهج مناهج عدة، ففي المناهج المنضوية تحت مشروع الحداثة نلفي: منهج استنباطي استدلالي صالح للبحوث التي تتناول لموضوعات الفلسفية و علم المنطق. كما نلفي المنهج العلمي التجريبي الاستقرائي يعتمد على عمل الحواس، مواتي لعلوم المادة و الرياضيات و منهج علمي يجمع بين الاستقراء و التجريب (النسبيين) صالح لعلوم الإنسان و المجتمع، كالمناهج التالية المستعملة بكثرة في دراسة الظواهر الإنسانية و الاجتماعية وإنجاز البحوث العلمية بما فيها الأدب [ المنهج الوصفي، التحليلي، التاريخي، الاجتماعي، المنهج الإمبريقي، دراسة الحالة، المنهج النفسي، الانطباعي.. ]، يصبح المنهج في مثل هذه الحالة الأخيرة مثل الطريق الليلية المحتاجة إلى إشارات ضوئية، كما هناك إمكانية لشق طريق الغير معبدة / ترابية للجرار إلى المنزل الريفي، هناك إمكانية لشق طريق معبدة بالزفت للسيارة الفاخرة و أخرى بالحجارة للعربات التي تجرها الخيول ، أما مناهج ما بعد الحداثة فهي مناهج إشكالية معظمها في سياق المجتمع الإسلامي وجلها تحولت فيه من أداة إجرائية للدراسة و التنقيب العلمي إلى موضوع للدراسة البحثية نفسها، تحت مسمى "البحث في المنهج" تحت ذريعة تسرب الذاتية إليها.
«أول من استعمل كلمة منهج أفلاطون و أرسطو. و قد استعملاها بمعنى البحث أو النظر أو المعرفة، تطور معنى كلمة منهج في عصر النهضة. ففي هذه الفترة نجد أن طائفة من المناطقة قد اصطلحت على قسم من أقسام علم المنطق بلفظ منهج. قسم راموس (1572 Ramus (1515- المنطق إلى أربعة أقسام: التصور، الحكم، البرهان، المنهج. وأدرج القسم الرابع ضمن علم البلاغة.
تطور معنى كلمة منهج في القرن السابع عشر :صاغ فرانس بيكون Francis Bacon (1561-1626) في كتابه Organum Novum (1620) قواعد المنهج التجريبي ، اكتشف رينه ديكارت (1596-1650) في كتابه (مقال في المنهج) (1637) المنهج العقلي الذي يؤدي إلى معرفة حقيقة العلوم .
حدد أصحاب منطق بور رويال المنهج تحديداً دقيقا، وجعلوه القسم الرابع من علم المنطق.عرفوه بأنه: فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة، من أجل الكشف عن الحقيقة حين نكون جاهلين بها، أو من أجل البرهنة عليها للآخرين لما نكون عارفين بها. أصبح منهج الوسيلة المؤدية إلى الهدف المطلوب، والتي يتبعها الباحث في دراسته للمشكلة كشفاً عن الحقيقة بوساطة طائفة من القواعد العامة، تهيمن على سير العقل و تحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة معلومة » [4]
كما يحصل أنه بعد مدة لا يصل مستعمل الطريق إلى نتيجة مع بدء بروز تشققات في الطريق، نتيجة السيول وعوامل الطبيعة المختلف، يحصل نفس الشيء على مستوى الباحث وهو ما يطلق عليه الإشكالية الأبستمولوجيا في فهم العلم / المنهج أو عسر الموائمة بين النظرية و التطبيق، فالمنهج كنظرية هو صالح بآلياته و قوانينه لدراسة الظاهرة العلمية أو الإنسانية، و هو في ذلك مكتشف لهذا الغرض، لكن الواقع قد يأتي بأمور بعكس ما كنا نتوقع، تشي أن العيب في التطبيق وليس في الآلية المنهجية و المثال الأوضح هو في نقد الأديان، نقد النص المقدس القديم و الجديد بالمنهج الهيرمينوطيقي داخليا و خارجيا من قبل الغربيين، مستبعدين القرآن، إما تحت طائلة أنه نص غير مقدس أي غير سماوي، أو أنهم علموا مسبقا أن تلك الدراسات غير مرغوب فيها من لدن المسلمين، ولما كنا بصدد العوائق الأبستمولوجيا، استبعدنا في هذا البحث العوائق البيولوجية التي تقوم بين النظرية و التطبيق في ميدان علوم المادة، لأنه ليس للإنسان و لا المنهج دور فيها وإنما الصعوبات متأتية من طبيعة المادة المدروسة نفسها وهي المادة العضوية.
وفيما يلي عينة عن لا حيادية الباحث العربي وفق ترسيمة معينة من المناهج، حتى أنه يسعى سعيه إلى محاولة قلبها رأسا على عقب ثم إفراغها من محتواها بكل ما أوتي من جهد و قوة، بخاصة تلكم البحوث التفكيكية التي درجت عليها الأبحاث النقدية الأدبية في المملكة العربية السعودية و المملكة المغربية، بتحويرها إلى دراسات لا تنقضي في المنهج أي "البحث الدائم في المنهج" ومن تلكم النقود التنظيرية التي تشبهها لدينا في الجزائر التأصيل لتفكيكية من نوع خاص مع عبد الملك مرتاض و لنقد ما بعد الاستعمار ، و الذي فاق اعتماده في الجامعات الجزائرية حدود التصور، بشقيه الجدليين، الموقف المناهض لخطاب ما بعد الاستعمار و خير من مثله جزائريا الطاهر وطار رواية و نقدا، و الموقف الجزائري المناقض لخطابها ألا و هو خطاب العولمة أو الكولونيالية الجديدة خير من مثله رشيد بوجدرة.
2 ـــ البحث عن المنهج التكاملي
وفي الحقيقة لو صنفت مناهج البحث العلمية ضمن سياقها الذي خرجت منه لصنفت صنوف عدة، تبع موضوع الدراسة : مناهج بحث علوم الطبيعة، ومناهج بحث علوم الاجتماع، ومناهج بحث علوم الإنسان بما فيها الفلسفة و الآداب و الفنون، و حتما لا يطرح مشكل عسر التطبيق بالمرة، كون المجتمعات الغربية مجتمعات علمانية. أما تصنيف تلكم المناهج على مستوانا العربي فيطرح إشكالية مستقطبة لا ترتجي حلولا في الوقت الحالي على الأقل، لا ضير من أن يجد البحاثة المتأملون لشؤون التقدم و التخلف من أن يصنفوها في سياقنا إلى صنفين فقط: تلكم المناهج التي تحافظ على حياد الباحث و روحه العلمية إلى حد ما، كونها لا تدخل العوامل الخارجية ولا تعتني بالمضمون، وهي المناهج البنيوية، وتلكم المناهج المتبقية التي لا يحافظ فيها الباحث على حياديته، بل يستغلها لتزييف الحقيقة العلمية. أما على مستوى العلوم الإنسانية فالمناهج المستخدمة في إنجاز البحوث و الدراسات الأدبية، هما تلك التي تنعت بالتقليدية و التي تنعت ﺒ الما بعد حداثية و هما اللتان تستأثران بالمضمون أكثر من الشكل، كالمنهج التاريخي و الانطباعي و النفسي و المنهج الاجتماعي بشقيه السوسيوـــ نقد و النظرية الجدلية و المنهج التفكيكي و المنهج التأويلي / الهيرمينوطيقا و نظرية التلقي و النقد الثقافي و نقد ما بعد الاستعمار، و هي التي تستهوي المشتغلين على قضايا الأدب (لارتباطها بالمضمون: بالفكر ) و تنام معهم على نوايا مسبقة تحتمل تبييت الحسن و السوء معا، تماما كما يحتمل التأويل المعنيين الباطن و الظاهر، فإذا كان الباحث علماني مثلا لكنه حوصر أو هُمش ـــ سواء في الجزائر أو في الوطن العربي والإسلامي قاطبة ــــ فسيجتهد للإلمام بقدر كاف بالمعارف المتعلقة بالتراث الإسلامي و المنهج التأويلي و التاريخي أو المنهج الاجتماعي/ الماركسي و التفكيكية جيدا، كي يعمل معاول النقد و البحث العلمي بها. لعلّ النموذج الأبرز هنا هو نصر حامد أبو زيد و محمد أركون، بل سيشيّد عالمه النقدي الخاص كما هو حال عبد المالك مرتاض و تلميذه يوسف وغليسي واللذين استحدثا منهجا أسمياه المنهج التكاملي! هنا ستبدو الطريق التي تمثلنها أعلاه ممسوخة، سائرة في كل حدب وصوب. تأثرا لا واعي بالدرس الفلسفي والاجتماعي ومرحلة النقد الواقعي في المشرق العربي، المتخلّف عما يجري حوله من تسارع حالي، و الحاصل في المسألة أن كل من سيد قطب و أحمد كمال زكي و بعدهما عبد الكريم اليافي و شوقي ضيف أرادوا التجريب في البحث عن المنهج و ليس البحث في المنهج، كما سنرى مع المناهج الما بعد حداثية بعد 1967 ، في مرحلة كان النقاد فيه متأثرين جدا بالحياة العلمية لذلك العصر بخاصة العلوم التجريبية و البحث في علوم اللسان و علم الكلام ـــــ الذي يعتمد فيه عادة على المنهج العقلي، قد تعتمد بعض المدارس الكلامية أو الباحثين الكلاميين المنهج التكاملي المؤلف ــــــ بالتالي خضوع كل ناقد متأتي من فروع فقهية و فلسفية كسيد قطب و عبد الرحمن بدوي للجانب الذي يجيده ويبرز فيه، و لهذا يصعب عليه التعامل بنفس الكفاءة مع الجوانب الأخرى التي قد لا يكون يجيدها أو لا يعرفها، و قد تخلى هؤلاء النقاد تدريجيا عن فكرة المنهج التكاملي مع بروز النقد الما بعد حداثي بداية الستينيات، و تبلور حركة النقد الأيديولوجي بشكل جلي في مصر و الوطن العربي ككل. أما يوسف وغليسي عندنا، في نهاية التسعينيات، فيستعير و يستعيد تجارب: أحمد هيكل و حسام الخطيب محمد صادق عفيفي و محمد مصطفى هدارة و شوقي ضيف في "البحث عن المنهج" و لعل أقل ما يقال عن هؤلاء النقاد الرواد الذين يستعير تجاربهم الناقد الجزائري الشاب يوسف وغليسي، أنهم مثل عبد الملك مرتاض نهلوا و ينهلون كذا من فرع معرفي ، و حلمهم هو البحث عن منهج يأخذ من كذا من علم صفاته و خصائصه كذلك! ولعلّ محاولة خلق ثم التنظير له، أي البحث في المنهج عن المنهج ومدى ملائمته إن صح التعبير في مرحلة حساسة مر بها الوطن العربي ماجت بانعطافات سياسية و فكرية عميقة هزت كيانه. و هي حتما غير مرحلة العولمة و ما بعد الحداثة.
ولم يحرّك هذا "الإثم" أحدا من النقاد المعاصرين بل أن وغليسي أراد بكتابه إشباعا، حتى يخرج به من صفة الكتيب إلى صفة الكتاب المتجاوز ﻠ 125 صفحة لا غير! وللأسف وغليسي هاهنا يقارب كلام الباحث اللبناني سامي سويدان حتى لا نقول يحرّفه بالكاد أو يستغله لمآرب أخرى فسامي سويدان يقول : «.. قصور المنهج الواحد عن الاحاطة بالمعطيات الكلية للنص، لأن تعدد أبعاد النص وتنوعها يقتضي مساهمة أكثر من منهج في استقصائها، هذا المنهج المشترك يولد "منهجا مركبا" أو "متعددا" مع ضرورة تغليب منهج ما، يتفق و غلبة المستوى المناظر له في النص (..) انطلاقا من أن كل منهج يسمح بتناول النص في جانب من جوانبه وفي وجه من أوجهه، غير أنه يظل قاصرا على الاستحواذ على أوجه الابداع المختلفة في النص المدروس (..) لكن كعادته في غمرة هذه المنهجية المتعددة يعطي السيادة للمنهج البنيوي.. » [5]
فيوسف وغليسي أراد هنا مقاربة مخاض الباحثين العرب لاستنباط المنهج على غرار الباحثين الغربيين في سنوات الستينيات، لكن بحث عن المنهج شكاً و شدا و جذبا، دون أن يقفوا على الحسم النهائي كما ظهر من كلام يوسف وغليسي نفسه، اقتباسا عن عبد الكريم اليافي في دعوته لمنهج تكاملي لدراسة المعارف عامة بخاصة تلك المرتبطة مثنى مثنى كنظرية الأدب و فلسفة الفن، دراسة علمية و فلسفية و اجتماعية و ليس دراسة النصوص الأدبية فقط، و كما تجلى من كلامه عن الباحث العربي سامي سويدان، و حتى عن الباحث العربي الآخر المذكور و هو محمد القعود حين يقول: « .. لم تكن عندي حساسية اتجاه أي منهج أو مذهب (..) و لهذا وظّفت مقولات بنيوية و أسلوبية و سيميائية و تفكيكية و نصية و تأويلية و نظرية التلقي، كما وظّفت مقولات من النقد العربي القديم، أي أنّ ما نهجته هو منهج مركب من عدة مناهج، تتسق جميعها في الأساسيات و الركائز المعرفية، و هو اتساق يجعل التركيب بين عناصرها أو بعضها أمرا مشروعا من الوجهة المنهجية » [6] والكلام واضح يمكن أن ينتهي عنده يوسف وغليسي بالقطع، وهو أن التركيب المشار إليه هو توليفة بين المناهج المتقاربة جدا مع بعضها البعض، كالانطباعي مع النفسي، أو كالمنهج الوصفي مع المنهج الأسلوبي، أو كالمنهح البنيوي مع المنهج السيميائي، بدل أن يستغل تنظيرات الباحثين الذين عرض لكتبهم مع ما تعرضوا له من نقد [7] وهم جلهم متأتين إما من تخصصات فقهية و فلسفية و ألسنية و إما هي معا ــــــ كما أسلفنا متخمين بالتجارب و ما زالوا في أثر البحث و التجريب كعبد المالك مرتاض و العالم السوري الموسوعي عبد الكريم اليافي رحمه الله ــــــــ بكذا من عشر صفحات، نسخ، لإخراج الكتاب للطلبة الجزائريين و سد النقص في المراجع الجزائرية في هذا التخصص ليس إلا و اثباتا طبعا لوجود منهج لا وجود له، إبان نهاية التسعينيات إلى أيامنا على الأقل اسمه "المنهج التكاملي"، و ليضعه إلى جانب المنهج البنيوي و التفكيكي و غيرهم بل ولو تريّث قليلا إلى ما بعد العشرية الأولى (2010) لما جاء بسيرة المنهج التكاملي أصلا، بل لكان جاءنا بمناهج ما بعد بنيوية جديدة بدأت تأخذ لها أبعادا تطبيقية مهمة في مشرق الوطن العربي و المغرب الأقصى، على غرار النقد الأسطوري و النقد النسوي و المنهج الأركيولوجى (الحفري)، لكنه التسُّرع الذي يُظهر الباحث الفحل في مناهج النقد الأدبي المعاصر!! مع أن المتخصصين في مجال علوم اللغة و الأدب يحددون بداية التأريخ للعصر المعاصر، من حدود بداية السبعينيات، منذ 15 تموز 1972 فصاعدا، عكس حقل العلوم الاجتماعية و الفلسفة الذي يحدد معهم من 1945 فصاعدا، بهذا كان حري على الكاتب على الأقل عنونة كتابه بمناهج النقد الأدبي الحديث بدل المعاصر.
أما إذا كان الناقد و الباحث ذو ميولات إسلامية فإنه ما لم يخضع هو الآخر للضغوطات والمزايدات من قبل السلطة العلمانية في الإدارات العربية منها الجامعات و المعاهد البحثية، سيجتهد في دراسة اللغات الأجنبية ونهل نصيبا معتبرا من الثقافة، ثم الالمام بالدراسات الثقافية، ثم اختيار منهج، كمنهج نقد ما بعد الاستعمار أو النقد الثقافي معتقدا أنه يمارس بحثا علميا تفاعليا، عندما يدافع على الهوية وقضاياها ضد أحداق العولمة و تجارب الآخر غير المسلم معها (الآخر الاستعماري) و معتقدا أيضا أنه لا يريد بعلومنا تقوقعا، يريدون بحثا في المنهج بعبارة أوجز مخالفة لمنهج العلمانيين ـــــ التجريب فيه ـــــ مستعملين مصطلح موازي هو "بين الممارسة و التطبيق" و "بين التأصيل و التجريب" كما يقول وليد قصاب « ان هذا النقد الغربي مستمد من الأدب الغربي، وهو أدب ذو نكهة و رؤية مضمونية و فنية يخالف كثير منها ما هو معروف في أدبنا العربي و الإسلامي (..) إن العيش على مائدة الآخر هو نوع من التلاشي فيه (..) الاكتفاء بمجرد اجتراره أو محاكاته هو قتل لروح الابداع فينا ،..ولن تشرق شمس الحضارة الإسلامية من جديد إلا اذا خلعت ثياب الغرباء و ارتدت عباءة الأباء » [8] ، و لعلّ النموذجان اللذان لا تخطئهما العين في مثل هذه الحالة هما إدوارد سعيد و زبانيته من غير الفلسطينيين و عبد الله الغذامي و زبانيته في الدول العربية الاشتراكية أو التي كانت اشتراكية و ضاقت ذرعا من ويلات الاستعمار، إن ثقافة أو اقتصادا كالجزائر، وهذه الحال مخالفة لتصور العلمانيين في سياقهم الغربي للبحث في المنهج و هي معايشة التجريب كما يقول « استخدام المصدر من كلمة منهج اليونانية، وهي الجري أو المشي عبر طريق ما currere لتأكيد أهمية الشخص وعملية المشي ـو الجري عبر الطريق، و هي هنا التجربة أو الخبرة التي يعيشها الفرد في التعلم (..) تشمل هذه النظرة المحتوى و العملية، حيث يكون المحتوى ضمن العملية. هذا التكامل غير موجود في الفصل التقليدي بين المنهج و الاشراف، الذي يستخدم سلسلة الغاية و الوسيلة، اختيار النهايات أولا ثم تبني الوسائل،.. في التعريف العملياتي للمنهج » [9] فقد كان ديكارت من خلال منهج الكوجيتو (أنا أشك إذا أنا موجود) بصدد الانتقال من الجانب الأنطولوجي ــــــ وجود العالم، وجود الذات ــــ إلى جانب الأبستمولوجي و المتمثل في البحث عن معيار الصدق و المنهج الواجب اتباعه.
أما الباحثون و العلماء المعتدلون الذين يرمون إلى النزاهة و الروح العلمية، الذين لا هم محسوبين لا على العلمانيين و لا على الإسلاميين، فكذلك سنجدهم ينقسمون إلى قسمين: من يطبقون المناهج البنيوية عن حسن نية و يستأثرون بها لأنفسهم و لا يتوخون غير المهنية و خدمة العلم و الأدب، و ستجدهم هم من ليسوا متطفلين على الميدان بينما القسم الثاني مِنهم، فهم المتطفلون الدخلاء نجد أكثرهم من المغرب العربي ممّن تحدوهم إرادة الاستفادة الذاتية و التكسب. أما أفضل الباحثين على الإطلاق عربيا، هم الباحثين عن جماليات الأدب في ذاته و لذاته، الذين لا يرتجى منهم انحيازا و لا نقصا معرفيا و لا تطفلا ـــــ وهم قليلون جدا، لا يكاد يعرف لهم غاية غير غاية الرقي بأدبهم عبر الذوقية ـــــ فهم الذين يسعون إلى دراسة الأدب شكلاً و مضمونا بانتهاح المناهج الأسلوبية و البلاغية، تجد أغلبهم في القطر العراقي من أحفاد مدرسة التجديد الشعري و بعضا آخر في مضارب المدارس الشعرية و السردية العربية بمصر و لبنان. هؤلاء النقاد المتمكنون ستعجزهم حتما أشعار الجزائريين مفدي زكريا و محمد العيد آل خليفة و الربيع بوشامة لو أنهم أطلوا عليها، مثلما أعجزت مقالة محمود أمين العالم طه حسين فيقفون حيارى مشدوهين حيالها!
I ــــ انتهاء نقد خطاب ما بعد الاستعمار إلى خطاب متجدد في الأبستمولوجيا
نظريات الما بعد أو نقود الما بعد تعطي أولوية لجمالية المضمون إن صح التعبير، يرى رواد نقاد هذا التيار الفكري الفلسفي، أن "ما بعد" المستعملة في نظرية ما بعد الحداثة أو ما بعد البنيوية، أي اﻠ post هي كلمة مضللة ومراوغة بل سلبية ، موهمة أننا دخلنا في حضارة الما بعديات الى غير رجعة حضارة بعد ما كنا في الما قبليات/التراث، كأنها تود خداعنا بإخفاء شيء ما و هو أنه توجد مرجعية تعقلن العقلانية و الحداثة أو الاستنارة المظلمة في المشروع الحداثي [10] ، الفلسفة العدمية و نهاية التاريخ، للانتظام وللانسجام، منطوية كلها على محاولة القبض على معرفة كاملة و كلية، بالتالي موت نهائي للإله في مقابل سيطرة كلية للإنسان كوجود مادي، من خلاله يصل إلى مرتبة التألّه.
لمّا لمسنا علاقة الذات بالآخر في كتابات جبران عن الشرق و الغرب في أكثر من قصة و قصة مطولة، كيوحنا المجنون و العواصف و النبي، و كنا قد مضينا في قراءة أدبه قراءة شغف لِما رأينا فيه منذ نعومة أظافرنا من تجسيد فظيع لنظرة المجتمع الجزائري للذات و الآخر، فوثقنا بالخصب في أنفسنا منذ ذلك الحين، و نوينا أن نجعل من هذا الموضوع موضوع بحث الدكتوراه، أو أن نشتغل عليه كأحد مصنفاتنا لِما بعد الدكتوراه، بخاصة بعدما تبين لنا أنه ما لم يكن بمقدور جبران خليل جبران، الذي عاش و تعلم في الغرب، قوله على لسان بعض أبطال قصته دمعة وابتسامة التي تقارب السيرة الذاتية، عن الذات و الآخر، قد قاله بالفعل على لسان قصصه الأخرى و هو بالذات ما اكتشفه إدوارد سعيد صاحب منهج نقد خطاب ما بعد الاستعمار الذي نحن بصدده، عند دراسته لنظرة الغرب للشرق في رواية "قلب الظلام" (1889) للبولندي Joseph Conrad
بعنوان "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية" ، صحيح أن البطل في الرواية ما هو إلا عنصر فني ــ بنيوي ــ لا يختلف عن المتلازمة الرياضية (س) محتوى في مجموعة (ص): س ⊃ ص، فهو من إبداع مخيلة الروائي لتشكيل عالمه السردي، لكن في نفس الوقت يعتبر المعادل الموضوعي أيضا المحاكي للواقع بكل تعقيداته و تشعباته السياسية و الثقافية، و هنا بالذات تكمن أهمية البطل في الرواية بعامة، و صورته في رواية ما بعد الاستعمار بخاصة، كصوت و محور فكرة رئيسة، لا تنفصم عن شخصية الراوي و الشخصية الثانوية و العرضية كمُحاور بنيوي لها، عندما يرى فيها انعكاس لصورة الذات و الهوية أو صورة الاغتراب و العولمة ، إذ لم تقل السردية المعاصرة أن " الرواية هي فن الشخصية " إلاّ بعد أخذها باعتبار يميل إلى اليقين، أنه من تلك الشخصيات لا ريب تبرز لا محال شخصية البطل متمخضة عن صراع الواقع مع ذاته أو مع الآخر المختلف، عاكسا وعيا بالتاريخ المتأزم من وجهة نظر صاحب الرواية، مرتكزا على فلسفة التشكيك في المسلمات وإعادة النظر في المقولات المركزية التي شكلت حداثة حضارة الآخر.
فالبطل ليس خاصية روائية تنتعش لفترة و تذوي لأخرى، بل هو كذلك تجلٍ لخطاب عبر الفكر الفلسفي و النقد و الأدب (شكل و مضمون)، لا مناص إذن من يعبّر البطل عن فلسفة الفرد شكلا و محتوى، أي اسما و مظهرا و أفكارا و أيديولوجيا، فكما كان هاجس الرواية هو التساؤل الدائم عن هذا الفرد، أي عن البطل الذي يمكن أن يجسّد نظرة الروائي المتفردة للوجود تساءل نقد ما بعد الاستعمار Critisism Postcolonialism متمحورا حول الخطاب بوصفه فعلا متخيلا إنشائيا، بدوره عن وعي فردي لمشكلات غير فردية، كتلك التي تجلّت منذ نشأته سنوات الستينيات من القرن الماضي بعد نشر كتاب " بشرة سوداء أقنعة بيضاء Peau noire, masques blancs " لفرانز فانون الصادر في 1952 و كتاب " موقع الثقافة Location of The Culture" لهومي بابا الصادر سنة 1994، ثم الكتاب الذي كان له أثر قوي في انتشار نقد أو أدب أو دراسات ما بعد الاستعمار ألا و هو كتاب "الاستشراق" المفاهيم الغربية للشرق لإدوارد سعيد العام 1978 ، و" الثقافة و الإمبريالية " 1993 و "العالم و النص و الناقد" كمتممان لكتاب الاستشراق، و ثلاثتها وضعت أسس نقد ما بعد الاستعمار، و عزيز الماضي لا يريد التفصيل أكثر و هو ينقل وصف المترجم محمد عناني له، بأن كتاب الاستشراق لا ينتقد الاستشراق و لا يصف عيوب وإنما هو بحث في المنهج، مع ذلك هو تركة مهمة كونه يفتتح حقلا من البحث الأكاديمي هو الخطاب الاستعماري [11]، وقد نشأت هذه النظرية أولا في إطار صيغة تمثيل باتجاه واحد، و هي صيغة مقاومة، كآداب تتبع بلاد مستعمَرة عانت من ويلات المستعمِر، في ثقافتها وهويتها تمثلت في الكشف عن تركته الظاهرة و الباطنة للسيطرة و الهيمنة بالثقافة، وقد استندت عليها الحكومات المستعمَرة لبناء الأيديولوجية القومية و الاشتراكية. لكن مع تطور الاهتمامات وصولا إلى العولمة، برزت صيغة تمثيل مضادة وإن لم تكن في إطار المتخيل دائما، لتلفت الأنظار إلى الإيحاء الإيجابي للفظة "الاستعمار" كانت في إطار الفنون كالمقالات الأدبية و الصحفية و الرسم التشكيلي و الموسيقى.. هذا التمثيل ـــ الموازي ــ له خلفيته التأسيسية في نقد خطابات ما بعد الاستعمار، عند الناقد الهندي هومي بابا، الذي خالف إدوراد سعيد بتوليد مفهوم "الهجونة الثقافية" في سياق تطور نقد خطاب ما بعد الاستعمار، بخاصة عندما عجزت الدولة العربية الحديثة عن الخروج من مأزق التخلف دوم مساعدة من الغرب (المستعمِر السابق)، يرى هومي بابا باختصار أن الاشتباك بين المستعمِر و المستعمَر لم يخلُ من تلاقح، أي أن المتسعمِر تأثر به كما تأثر به المستعمَر، بل إن الاستعمار بوصفه تجربة جوهرية و قلقة قد خلقت ذاتا جديدة للمستعمِر، تعتمد في جانب كبير منها على خطابه اتجاه المستمعَر و علاقته به. و بعيدا عن صيغ التمثيل المؤتلفة و الموازية / المضادة، لا بد من التوقف عند أسس هلامية ما فتئ يذكرها الناقد الأردني عزيز الماضي مارا أمامها وفي كل مرة، مرور الكرام، بل و يجعل من هذا المنهج إطار أكاديمي مشروع و خاص بدول الجنوب بما فيهم العرب لنقد الآخر، لكن أليس ذلك المنهج منهجا مشيدا على قاعدة هلامية عندما تقول: « أن نقاد خطاب ما بعد الاستعمار الرواد كلهم باحثين تعلموا في جامعات الغرب و مؤسساته الثقافية ممّن تعرضت بلادهم الاصلية للاستعمار» [12] ماذا لو قلبنا الآية فاحتلينا نحن الشرق موضع الغرب؟ أوكنا لنتركهم و بكل ديمقراطية يتعلمون في جامعاتنا ومؤسساتنا الثقافية، ليأسسوا لمنهج يهاجموننا فيه و يصفوننا على ما دار أكثر من نصف قرن بأوصاف ليست موجودة فينا أصلا؟ أكنا نقبل بذلك؟ ثم كيف تنقل الحضارة و التنوير إلى الشرق، المستمر في سباته هذا إن لم تكن قد نقلتها فعلا بدءً من حملة نابليون على مصر عام 1798 ـــــــ هذه الحملة الاستشراقية التي أيدها المثقفون المصريون المستنيرين بثقافة الفكر التنويري الذي حملت لوائه فرنسا ، و رأوا فيها تأثيراً ايجابيا على أحوال الشرق العربي عموما، أدى إلى انقلاب حقيقي ونهضة فعلية. فيما عارضها التيار السلفي رافضا أية آثار إيجابية لها ، جازما بأنها حملة عسكرية استعمارية مقرونة بحكم الغالب للمغلوب بالمدافع و الأسلحة الفتاكة التي لا قبل للمصريين بها، رافضين مطبعة نابليون لأنها تطبع بالحبر المصنوع من مادة تنجس حروف القرآن [13] ــــــ و الجزائر عام 1830 ، دونما التركيز على نشر التعليم و المعرفة، أي الثقافة! بل فسيظهر نقد خطاب ما بعد الاستعمار القائل بتوظيف الاستشراق للمعرفة و القوة و السلطة لإخضاع الشرق، كأنه خطابا جدليا، هذا كله إن لم ينسف منهج نقد خطاب ما بعد الاستعمار من جذوره فإنه حينئذ سيضعه في موقع ضيق من النسبية، إن لم يكشف زيفه، بكشف أداته المراوغة بالثقافة (الهوية) الموازية أيضا الناقد و الروائي و الباحث الهجين الثقافة، كشف عن بطلان نظرية نقد خطاب ما بعد الاستعمار التخلف السياسي، أي الأنظمة السلطوية لبلدان العالم الثالث ــــ تلك المنومة لشعوبها ضد ما يأتيها من تنوير ثقافي غربي ـــ بسلاح الشيوعية و الدكتاتورية و القومية المعادية للإمبريالية..
صحيح أن نقطة بدء منهج نقد ما بعد الاستعمار قد تكون محايدة موضوعية، لكن مع الاستمرار و التطور، خضع الخطاب أحيانا دون وعي إلى غصب وعي الآخر، حينما يتكلم بطل الرواية عن وعي الشرق مثلا أو الغرب ــ أحيانا ــ و اخضاعه لفكرته الأساسية ممثلا له باستمرار كمن له عليه سلطة، ثم إعادة تقديم الأشياء بأيقونة تلخصه في عبارة، لتشكّل الفكرة الحسنة أو السيئة عنه. هذا ما صنعه علماء وكتّاب الغرب عامة بالشرق، استعارة وصورة مكثفة تنقل فحوى ما يريدون قوله، من جملتها أن البلاد المتقدمة الحضارة تمثل ذات و البلاد المتخلفة تمثل آخر أقل منها دينا و دنيا. و هو ما فتحت أبوابا للمناقشة حوله، أفضت إلى مرحلة العولمة، إقرار حق التعدد والاختلاف الثقافي اعطى مشروعية لخطاب الآخر المستعمِر و قلل من أهمية خطاب الأنا و الهوية، بخاصة في ظل تزامن التحول المفهومي لهذا المنهج أبستمولوجيا مع شبكات الإرهاب المنتسبة للإسلام.
بحق لقد توقع كثير من الباحثين و المفكرين انتهاء الشكل التقليدي للاستعمار و الأبـحـاث المتعلقة بـه، و الـظـروف المحيطة، لكن الواقع السياسي و الثقافي اليوم يوحي بالعكس، حيث أصبح هذا الحقل لا يُعنى فحسب بالموقف المضاد أو المواقف الانفعالية المتحمسة كالهامش و المركز و التاريخ و التهجين و المستعمَر و المستعمِر بل يعنى المواقف التفاعلية، و بتلك الحقبة بصفتها مرحلة مـرت بها البشرية و تركت أثرها الكبير في الـمـرحـلـة الـحـالـيـة كـذلـك، عـلـى مـسـتـويـات عـدة، أبــرزهــا: الـعلاقـة مــع الآخـــر، و الـهــويــة و العولمة، و الــوعــي ، و مفاهيم التحرر و الديمقراطية و العدل. و مباشرة الآلية المضادة أي الاستغراب على يد شكيب أرسلان و عبد الوهاب المسيري و حسن حنفي والطيب صالح مرتكزين على إيديولوجياتهم الماركسية و القومية. والحقيقة أن نظرية ما بعد الاستعمار التي هي نظرية في نقد سياسة و ثقافة الاستعمار أثناء مرحلة الاستعمار و بعده، أي أنه نشاطها ممتد لا نهائي، بدليل بلوغها لمرحلة العولمة و الهوية (الغزو الثقافي)، تبلورت من هذه النظرية مدرسة نقدية بدأت بالتركيز على نقد الخطاب الكولونيالي الحديث المنتج و المتمركز في الغرب، ثم امتد بعد ذلك بسبب الطفرة المعرفية والمنهجية التي أحدثها ليشمل أوضاعا أخرى مثل دراسات التابع وغيرها، حتى توقف الآن عند مفهوم الاستعمار الثقافي أو الكولونيالية الجديدة.
لهذا الفكر النظري ما يقابله على مستوى العملي ــــ الأدبي ــــ حيث ما فتئ تيار الرواية الجديدة يجهز على البطل غير ما مر، تفكيكا لبورجوازية المجتمع الرأسمالي في شقها الماركسي و تمهيدا لسيادته المعرفية على الطبيعة في شقه البروتستانتي، أي أن يصبح الإنسان شيء و سلعة فاقد لخصوصيته الروحية يوظف كما توظف، موت البطل هو تعبير عن افتقاد الإنسان المعاصر لمعالمه الفردية و الروحية الحيوية، لكن هل مات البطل فعلا؟ الحقيقة أنه تحول من دور إلى دور في كنف المجتمع ، مختزلا في وظيفتي المتعة وملء الفراغ. وقد أدى هذا الوضع إلى ظهور الروايات الجديدة التي صدرت في السنوات الأخيرة في المشرق العربي بالخصوص اهتماما لتصوير أبطالها تصويرا ملحميا، على خلاف ما درجت عليه العادة في الرواية العربية الكلاسيكية، و على غرار تصوير البطل في الروايات الأوروبية إذا ما وضعنا خلفية التنوع وغزارة التأليف لديهم بالحسبان. البطل في الروايات العربية بحكم نظرة المبدع المسبقة، نحى بالاتجاه نحو تشكيل السرد أو تبنيه إن صح التعبير، أصبح عنصر فني مختفي و منتهي، فالروايات العربية لم تكتب رواية البطل الروائي، الذي يمكن أن يضاهي في خلوده دون كيشوت أو روبنسون كروزو أو زوربا اليوناني لدى الأجيال، لعل للاستعمار دورا غير مباشر في ذلك، باستثناء شخصيات مهمة وقليلة جدا في الروايات العربية الحديثة على مستوا واسع مثل: الجبلاوي في رواية " أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، أو مصطفى سعيد في "موسم الهجرة الى الشمال" للطيب صالح أو وليد مسعود في "رحلة البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا، أو مستوى ضيق ﻛيونس مارينا في رواية " أصابع لوليتا" ﻠ و. أعرج و الولي الطاهر في "رواية الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي".
سيكون البطل العربي نتاجا لخيبات الواقع العربي ، عند إجراء مقابلة الشرق بالغرب و الديمقراطية بالاستبداد و الحرية بالاستعباد " و هذا الواقع قد عجّل بتفتيت صورة البطل كمفهوم أنطولوجي، لكن ليس إلغائه أو اختفائه اختفاء فنيا كليا، فما اختفي في الحقيقة هو مفهوم البطولة ذاتها، التي احتكرها القائد السياسي أو الحاكم" [14] يمكن أن نعتبر البطل في الرواية العربية المعاصرة هو بطل مضاد للصورة المبجلة للبطل القائد كما صنعته الايديولوجيات السياسية المستغلة للدين استغلالا سيئا. كالبطل القومي الاشتراكي وهو يقف ضد الآخر المتطور، موقفا أخلاقيا، حفاظا على أصالته، وهو بطل ارتدى رداء الديني الصوفي لذات الغرض، كأنما ما يريد قوله هذا البطل للبطل المقابل له، هو أنه بالرغم من أنك تمثل بؤرة الوجود، ومركز التاريخ، والمنافح عن قيم الحرية و الديموقراطية وحقوق الشعوب مع ذلك سأهزمك! كما هزم أجدادي في سياق حركات التحرر أقوى الجيوش الاستعمارية، فالولي الطاهر بطل رواية الطاهر و طار هو بطل بشّر بإنسان خارق، يستطيع تجاوز حدود عصره و التعجيل ببزوغ فجر جديد للبشرية كما بشر به نتشة Nitzsche ، كما أن البطل يونس مارينا بطل رواية " أصابع لوليتا " ترعرع منذ صباه في سياق الخطابات ما بعد الكولونيالية المناهضة، ملاحظا أن السلطة الاشتراكية تغير خطابها ناحية الانحياز للإسلاميين ضد اليساريين و العلمانيين، في شكل احتكار سلطة المعرفة احتكارا لا ديمقراطيا يتكأ على العنصرية، وبدون اشراك المجتمع المدني (تعالي السلطة في التصور الماركسي) وهي في نفس الوقت كانت تشكو من وقوعها ضحية تهميش المركزية الاستعمارية! هذا المفهوم المتغير للهامش و المركز الذي بشر به ميشيل فوكو M.Foukault من موقع مثقف أكاديمي لا منحاز، قائلا أن السلطة مبدعة في نشر المعرفة و هذه المعرفة قد تكون معرفة خاطئة من خلال ما يسميه بالخطاب. و الخطاب يوجد في تحول، السلطة عندما تحاول أن تنشر فكر معين تنشره بأدوات القمع والتمويه والخداع، وأن هذه الأدوات تتغير بطريقة خفية أو عن طريق الاعلام كترويج معلومات خاطئة و لكن يقنعون الجماهير أنها معلومات صحيحة [15] هذا ما سيجعل من البطل:يونس مارينا" يحمل عبء مناوئة الخطاب المناهض للإمبريالية محليا منذ شبابه ويجعله يسوغ خطاب العولمة في مقابل الهوية الثقافية (اللغة و الأصالة) لا حقا عند ما يتحول الى المنفى/ الغرب لاجئا، مساهما كبطل رومانسي مثالي حامل مشعل المهمشين، مضاد لخطاب السلطة في بلده الأصلي بخاصة عندما تندلع أعمال العنف ، وهذا ما يسمى بجدلية المركز والهامش في نظرية ما بعد الكولونيالية، منذ وضع نفسه مهمش في مقابل مركز لم يبرح يناضل لصالح المهمشين ضد القهر السياسي و الثقافي بما فيه الحريات الفردية. يعني ضد سلطة المعرفة مجسدا مقولة فوكو، في تحوّل الخطاب عندما يكون بيد السلطة إلى خطاب جدلي بين مركز و هامش بغض النظر عن التأويلات السياسية له كونه بحث في أبستمولوجية المنهج (منهج نقد ما بعد الاستعمار) ، و البطل يونس مارينا هاهنا ينطبق عليه مصطلح الهجونة الثقافية مثله مثل ميشيل فوكو نفسه، بين واقع السلطة في الثقافة الفرانكوـــ اشتراكية و واقعها في الثقافة الأنجلوـــ أمريكية الأكثر محايثة للمجال الذي تمارس فيه. وهذا كله في إطار نقد ما بعد الاستعمار.
II ـــ انتهاء الهير مينوطيقا إلى "البحث المزمن في المنهج"
لعلّ حالة العرب اليوم مع مناهج بعينها كعلم التأويل أشبه ما تكون لبدايتها في القرن السابع عشر، مع ارهاصات الحضارة الغربية التي اتكأت على المنهج أول ما اتكأت، مع فرنسيس بيكون Francis Bacon في المنهج التجريبي و منهج العقل / الشك اللذين تم تجديدهما كمنهجين واحد تجريبي و الآخر عقلي حدسي بتجاوز القياس الأرسطوطاليسي ، قامت بفضلهما و ازدهرت علوم الطبيعة و الفلسفة الديكارتية و العوائق الأبستمولوجية هي نفسها التي واجهت تلك البداية و هي معترك المذاهب الفلسفية مع العقائد الدينية أي اخضاع العقل للإيمان والفلسفة للدين [16] مازالت تواجه اليوم العرب و تشدهم إلى الانكفاء وهم على أعتاب نهاية التاريخ! ولعلّ السؤال الذي ما انفك المفكر و الناقد الراحل نصر حامد أبو زيد يطرحه، محاولة التعريف بمشروعه النقدي على خلفية استقطاب الواقع و اتساع الهوة بين المعرفة الإيمانية و المعرفة العقلية و بين القانون النظري الوضعي المجرد و الواقع العملي الحسي، الداعية للتأمل: « كيف جمعنا قوة العقل و قوة التجربة و قوة التدين؟» [17] ماضيا في شرحه « التجربة كجزء من تحويل العقل إلى تجربة شخصية وليس إلى أفق مجرد من القواعد، لو بحثت على تقدم البشرية و أخذت نيوتن مثلاﹰ ستجده خليط من العقل والتجربة و نسق ما من أنساق التدين، يمكن أن يكون الإيمان بقيمة العلم إحداها، ولدينا في تراثنا قيمة من هذا الشكل هو ابن رشد الذي جمع بين العقلانية و التجربة، ومن كليهما ينبثق التدين(..) » لا يأتي إذن الحديث عن تجربة الباحث الباحث عن المعرفة العقلية بمعزل عن طموحه النقدي، باعتبار أن للأديب شاعرا كان أو روائيا هدف يضاهي الهدف الذي يصبو إليه الناقد المفكر، متمثلا في ممارسة المدينية، بل درجة من الوعي تسمو حتى عن ما يهدف إليه الطب من تبرئة للأجساد، إعلاءً للقيم الإنسانية كالحرية و العدالة الاجتماعية.. لذلكم فإن المفكر الناقد هو بمثابة الطبيب الذي يعالج الروح.
لعلّ السؤال الذي يطرح نفسه في خضم الحديث عن حركية المنهج النقدي العربي الآخذة في التبدل لتتناسب مع التيارات الفكرية المتواترة ونظرياتها الخالقة لها تمحيصا وتدقيقا، فمن تيار الحداثة إلى ما بعد الحداثة، التي ما إن يذوي منهجا من مناهجها حتى تمدنا بآخر جديد، مبشرين نحن بتيار يسمى ما بعد بعد الحداثة، و السؤال هو: فيما يكمن الإشكال ـــــ الذي يفسره تخلفنا ــــــ أفي المنهج النقدي المستعار علم التأويل أو الهيرمينوطيقا أم في أيديولوجية من تستعد ذاته أو تكون قد استعدّت فعلا، مُحاوِلة خدمة حداثتها الخاصة متوسلة بذلك المنهج؟
1.2ـــــ إشكالية المنهج أم إشكالية أيديولوجية الخطاب الديني؟
الإشكالية مطروحة بقوة لِأن أصحاب تلك المناهج ليسوا هم اليابانيين ولا الروس ولا حتى الصينيين، بل هم الغربيون بكل ما ترسب في ذاكرة العرب من صراعات معهم بحكم التاريخ والقرب الجغرافي أولا، وبحكم الاصطفاء بحمل الرسالة السماوية إن صح التعبير ثانيا، فحينما حطت جيوش نابليون رحالها الاستشراقية على أرض الكنانة طرح ذلك شكاً و ارتيابا حقيقيا هو الأعقد مرارة، بعد ذلك الذي انجرت عنه الحروب الصليبية بين الحضارتين العربية الاسلامية و الغربية المسيحية، الأخيرة تكون تمسكت حينها بحجة حماية و تأمين الطرق إلى المقدسات المسيحية الواقعة على أراض عربية، بينما رأى فيها العرب أنها نية مبيتة للانتقام والنيل من الحضارة الإسلامية على يد رتشارد قلب الأسد، قبل تبلور النزعة الإنسانية في فلورنسا التي مهدت للتنوير و الحداثة، أملاﹰ في تراجعها و تقوقعها، غير أنها وجدت من يرفع الشبهة عن تلك الفرضية في شخص صلاح الدين الأيوبي، لكن بعد سبع قرون ونيّف عن تلكم الحروب الصليبية تُحمل "الحضارة" فعلا إلى العرب حملاﹰ مع حملة نابليون على مصر عام 1798! في الوقت الذي كان من المفروض أنّ الحضارة تحملها أفلاك مكتظة بالعلماء و النخبة و لا يحملها سيل عرمرم مدجّج بأفتك و أحدث الأسلحة، في هذا النموذج يتبين أن سوء النية و عقلية الاستعداء و تجذرها تاريخيا بين الإسلام و المسيحية يغذّيها الاختلاف العقدي المبني على أحقية كل منهما بالخلافة على الأرض و عدم تقدير كل طرف للآخر بل و عدم استئمانه أيضا زاد لهيبها الاستشراق، يقول الدكتور محمد أركون في كتابه "الدين والنص والحقيقة" أن الغرب هو الآخر لم يلين جانبه للإسلام تاريخيا فكيف يطمع أن يُحظى بقبوله والتبعية له؟ فما ضر حملة نابليون لو هي قدّمت الحضارة للعرب على طبق من سلم و سلام، عوض طبق من صفيح، لعلّ تلك أولى إرهاصات القطيعة والعداء الحضاري المستحكم بحكم تشدد الفكر الديني، كممارسة عملية وتجربة روحية، وليس تشدد الدين كنص أو كقانون نظري، أي وجود أرضية السلطة التي تتكأ عليه في غلوّها، و إلى أيامنا مازال السبب الرئيس يعود إلى فهم و تأويل النصوص الدينية و الانتاجات الفكرية والأدبية فهما فسلفيا، يجعل من الحوار و التقارب ممكنا، واضعا في الحسبان منفعته الأيديولوجية السياسية و المذهبية في الاعتبار، مع العلم أن حادثة اكتساح أفلاك نابليون المدججة بالأسلحة لمصر من خليج أبي قير كانت بداية البداية لصراع جدلي بين فريقين من المصريين، وهما التنويرين والسلفية المتعهدين برد المعتدين، ورد معه ادّعاءات الغزاة في نحورهم إلى أيامنا! و نقطة التقائهم و تحالفهم التاريخي مع السلطوية هم "اليهود" دائما و أبدا، ولكن الثابت من كل ذلك هو سؤال اتباع المنهج، الذي بوأ الفرنسيين العلوم في صورة تصدير المطبعة إلى مصر ﻔ « سؤال النهضة بقدوم الجيوش الفرنسية جعله مثقلا بالتهم، فهل كانت النهضة المنشودة نهضة صادقة أم غلاف للتبعية اتجاه الغرب المستعمر» [18] ، لعلّ تبلور خطاب تهيّب الإسلام من الآخر تهيبا تاريخيا نكوسيا مازال مستمرا، يبرره في أحيانا كثيرة سلطة الهيمنة التي تحدثنا عنها أعلاه، فعندما احتفل الأمريكان و حلفائهم بنقل سفارتهم إلى القدس قامت قيامة العالم الإسلامي ولم تقعد، فكيف نتحدث إذّاك عن حوار الأديان والحضارات؟، بل و صفاء مجتمعاتنا من الأنساق المتطرفة التي تقف ضد التقدم العلمي، التي يمثلها الفكر الديني المغالي في الحذر من التعامل مع الغرب و مع مناهجه، ومن صميم هذه النزعة التي تجذّرت تاريخيا في المجتمعات العربية والإسلامية على السواء، في مصر، الجزائر، أفغانستان، تركيا.. عن طريق خدمة المصالح والمنافع الذاتية، حيث تدعم المؤسسة الدينية و تؤازر الحكم الاستبدادي و تضع السلطوية، مؤسسة الأزهر و جمعية العلماء المسلمين و.. تحت حمايتها و دستوريا أيضا، فتتحول الإيديولوجيا إلى دين وخطاب سري " غير رسمي" بيد الأقوياء و تُعزل نخبة المنهج أو تحيد ممارسة و تطبيقا، حتى لو شكلت الأغلبية، حتى هناك من الأيديولوجيات السياسية من تناصر الفكر الديني المتطرف الذي يقف حجر عثرة أمام التقدم العلمي عندما يتعلق الأمر بمصالحه العليا كالشيوعية مثلا، حتى أضحت ساحة المعركة التي من أجلها يُراد من العلمانيين و النخب المثقفة و الأكاديمية الاجتهاد، أخذا لناصية العلم ومناهجه الما بعد حداثية عن الغرب، قصد الخروج من التخلف الحضاري لا تخرج عن بؤر ثلاث أو لاعبين أساسيين ثلاث وهم: النص و مؤلف النص ومدى قربه أو بعده عن المنهج النقدي الغربي في أخذ العلم، في هذا الاطار ما فتأ المفكرون الذين اشتغلوا على التأويل كثيرا من المشرق العربي، أمثال زكي نجيب محمود و حسن حنفي و الطيب تيزيني و نصر حامد أبو زيد يلحون على ضرورة الاجتهاد، لأنه السبيل الوحيد للخروج من التخلف بأن يؤجر المجتهد إن أصاب و لا يحاسب إن أخطأ، بينما يرى بعض النقاد المغاربة (المغرب و الجزائر) الذين تسببوا في غموض مناهج و نظريات عدة، حتى تعاليها عن ساحة التطبيق بسبب ترجماتهم الاغترابية كالناقد السعيد بنكراد، أن المنهج النقدي الغربي " كل ما نجح في تحقيقه هو إغراق السوق النقدية بترسانة هائلة من المصطلحات و المفاهيم، التي تحولت مع مرور الزمن إلى أدوات صماء رعناء لا تحيل سوى على ذاتها، بعيدا عن غنى النص وإحالاته الدلالية المتنوعة" [19] ولعلّ خاصية الانتساب إلى الله أو إلى سماوية الحضارة من عدمها هو جوهر الصراع التاريخي للخطاب الديني الإسلامي مع عِلمانية الغرب و تحرزه منها بنوع من الندية المتلحفة بالغيرة، و التي سعت مناهج ما بعد حداثتها المستوردة كالهيرمنوطيقا إلى ترويضها بها!، إذا ما وضعنا في الاعتبار من أن العلمانية ما هي في حقيقتها إلا ثورة دينية بروتستانتية كالفينية تحررت من سلطة الكنيسة. كما يقول المفكر ماركس فيبر: « الثورة الرأسمالية الحديثة المنجزة في الغرب هي ثورة ثقافية قبل كل شيء، ومصادرها قيم أخلاقية ودينية انبثقت عن المسيحية البروتستانتية الكالفينية » [20] بينما تنتفي تلك الندية والغيرة مع البوذية و الكنفوشيسية، لأنهما لا تنتسبان إلى السماء (إلى وحي إلهي).
هكذا يُضفي الفكر الديني على النص شرعية بالقداسة والكلية و بالقرف من المنهج الذي يمس بتلك القداسة، من دون أن ينظر حوله إلى سنة الاختلاف الكونية، إلى الشرق العظيم مثلا، اليابان الصين و الهند لماذا تقدموا و لماذا تأخر؟ أليس وراء ذلك غير التهيّب من الآخر الغربي و التعالي
عن الآخر" العملاق الشرقي" واضع في مخيلته عنه ما و ضعه الغرب عنه ـــــ لا دينيون، مجموعة مذاهب لا تمت بصلة بالسماء ، همج و غير متحضرون اجتماعيا ــــ فلو أننا فقط قُمنا بنقد أنفسنا عندما ركب اليابان موجة الحضارة بداية القرن و تبعته الهند مؤخرا فقط، و سعينا مثل ما سعيا، ربما لا كانت أحوال منظومتنا الفكرية-الدينية و السياسية على غير ما هي عليه. لكنه وقْع خطاب السلطوية كان أقوى، استثمر ولا زال يستثمر أواصر ارتباط الشعوب العربية بالدين الإسلامي "الحنيف" ولعل الحالة الأكثر تجليا هي حالة السلطوية [21] في الجزائر، التي لعبت على قيم الدين سياسيا منذ انقلاب 1965 للبقاء في السلطة، تلك السلطة التي تحولت إلى إيقونة تُمثّل القيم الدينية الايجابية في مقابل قيم الآخر الكافر/الاستعمار كل ما لزم الأمر، بخاصة عند دنو موعد الانتخابات، فوقعت "الأمة" أول ما وقعت في رفض المنهج العلمي و النقدي الغربي، أو تقم في أسوأ الأحوال باصطفاء منها التي تناسب المقاس، فعندما أوّل نصر حامد أبو زيد الخطاب القرآني و خطاب احتكار السلطة له ــــــ اللتين منهما حاك الإمام الشافعي ثوبا له بل و قاسه على المقاس بشكل عجيب! ــــــ و مختلف النصوص التي أخذت لها نوع من القداسة في تراثنا الديني، أعني الموطأ وصحيح البخاري و تفسير الطبري و ابن كثير و غيرها كثير، المحاكية لقداسة النص القرآني. فمحاولة استباحة دم الإمام الشافعي، الذي كُفر الباحث الفذ نصر حامد أبو زيد بسببه كأنها محاولة سفك دم منهج علم التأويل / الهيرمنوطيقا نفسه، الذي له أصول فلسفية ألمانية، و الفلسفة الغربية مستندة على العقلانية و التجربة معا، تجرف كل ما هو نظري قطعي كالفكر اليقيني لدى الأصوليين، المنهج الذي له « فعل محكوم باستراتيجية، تسعى إلى تحديد الطرق التي يتم بها تشكيل المعنى، وتنظيمه داخل وقائع مادية قصد تداوله وتصريفه في أفعال وممارســات وسلوكيات معينة » [22] ، فالنشاط التأويلي كهذا يكاد يكون رديف تعددية المعنى الذي أوصل أبو زيد إلى نتائج عقلية محل فخر التيار العقلي و محل بُغض التيارات الأيديولوجية و الأصولية و النفعية، و بخاصة اهتدائه كما اهتدى طه حسين قبله مستنيرا بمنهج الشك، إلى أن الأحاديث المسنودة برواية صحيحة قد تحمل تحريف و انتحال و ما بالك بالروايات الضعيفة السند، ما يعني أن السلطة التي وضعها الشافعي لنفسه سلطة وهمية راجعة لتغييب النقد و الاجتهاد، و بعد المعتزلة لم تقوى الجهود العقلانية الفردية على نقد تلكم السلطة، إذ يقول: « الخطاب الديني حينما يرفع في وجه العقل والاجتهاد مبدأ لا اجتهاد فيما فيه نص إنما يقوم بعملية خداع أيديولوجي، لأن ما كان يعنيه القدماء بالنص هو الواضح القاطع الذي لا يحتمل إلاّ معنى واحدا، والنص بهذا المفهوم في القرآن الكريم نادر، لأن معظم الاحاديث النبوية نقلت بمعانيها لا بألفاظها، بالإضافة إلى ما دخل من التزييف و الانتحال » [23] بقيت اجتهادات زمرة نصر أبو زيد العقلية المستنير ة بالمنهج العلمي و كأنها معزولة أمام خطاب النقل، الواقف على دلالة التأويل كما وقف عند المفسرون والفقهاء و الفـرق الكلامية و جمهور المتصوفة، و هو الذي لخصه شيخ الإسلام ابن تيمية « التأويل هو حرف اللفظ من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به » [24] مسنود بنخب واسعة مشبعة بثقافة تراثية كانت أو وطنية لكن منتمية إلى قطاعات الطبقات الاجتماعية الكادحة التي تأكل عيشها من يد السلطوية.
2.2ـــــ إشكالية المنهج أم إشكالية الخطاب السلطوي؟
لا مراء في اتكاء بل توظيف الخطاب السياسي العربي المعاصر لسلطة قوية هي سلطة المجتمع الديني، سلطة التقاليد و علومها الشرعية إلى درجة لا تماثله فيه أي سلطة، فإذا كانت الديكتاتوريات الأمريكو ـــ لاتينية وظفت الجريمة المنظمة و باروناتها خاصة المتاجرة بالمخدرات وما شابهها للبقاء في الحكم واضطهاد شعوبها، فإن النظام السلطوي/ الدكتاتورية العربية قد وظف خطاب الدين بما يخدم مصالحه السياسية، وله في ذلك شرف السبق تلهية لأهل الحجاز عن الانشغال بالسياسة في العهد الأموي، ثم في حسن التصرف مع التيار العقلي / المعتزلة، بالسرعة التي جعلها الخليفة المأمون مذهب الدولة جعلها المعتصم تمحى من التاريخ في طرفة عين، ففي فترة الستينات و السبعينات كان الفكر الشمولي هو الذي روج لمقولة أن الإسلام هو دين العدالة الاجتماعية و الاشتراكية وفي فترة التسعينات أصبح يروج للإسلام كدين الحرية والديمقراطية الذاتية/الشورى، وفي العشريتين الأخيرتين بدأ يقال أن الإسلام هو دين السلام والأمن و الحوار مع الآخر المختلف.. وهكذا. و في الجزائر تتغير المرجعية الدينية للجزائريين بين المدرسة الباديسية الإصلاحية و المدرسة الصوفية التيجانية بتغير رئيس الدولة!
ولعلّ تأويل النص الديني الذي هو نص لغوي مجازي ــــــ التأويل في أدق معانيه هو تحديد المعاني اللغوية في العمل الأدبي من خلال التحليل وإعادة صياغة المفردات والتراكيب ومن خلال التعليق على النص (..) أما في أوسع معانيه فهو توضيح مرامي العمل الفني ككل ومقاصده باستخدام و سيلة اللغة [25] ـــــــ حسب أهواء الفرق الكلامية تبعاﹰ للقاموس السياسي، الاختلاف بالشورى، مثل ما أوُّل قبلها من قِبل المعتزلة / العقليين و معشر الصوفية المرتبطين بالسلطة السياسية العباسية و خصومهم جماعة أهل الحديث/ النقليين تأويلات متناقضة، لدليل قطعي على نجاح منهج علم التأويل في الوصول الى نتائج مهمة، أو لم يجزل الوالي و الأمير و الخليفة للشعراء و العلماء و المناطقة و علماء الكلام و البهاليل و الدراويش حتى، بعطاياهم وبسخاء في التراث العربي من خزائن الدولة؟ إلى أن ترسخت ثقافة احتكارية، شراء سلطة الفقيه و المثقف و الفنان و السياسي المعارض، التي هي سلطة مدنية ذاتية بالمال، مؤديا إلى تبلور فكر الخوارج ثم هجومهم على الزنادقة و المرتدين ـــــ هؤلاء الزنادقة الملتمسين انحياز القضاء، قضاء الخلافة و الولاية و الإمارة، لمشروع تطويع المجتمع الديني لخدمة السلطان يماثلونهم العلمانيين في زماننا ــــــ فما برح ذلك المجتمع يتغير أو يتبدل في العصور اللاحقة برغم قوافل العلوم و المناهج الغربية السديدة. يُحسب للمعتزلة منهجهم العقلي الذي ربما أدى إلى نتائج فكرية نيّرة لو قدّر له أن يستمر، كما استمر الدرس النقدي البلاغي عند الجاحظ و أبي هلال العسكري و عبد القاهر الجرجاني وغيرهم. فيُحسب لنا اليوم كأمة تراثية، روح النقد وإن كان نقدا أيديولوجيا، نقدا غير بناء كالنقد الغربي الموصوف بالعلمية، و الدليل على ذلك هو أن جميع الحكام العرب تقريبا بعد النكسة العام 1967 ، أعطوا أهمية قصوى للعلم: مرتبة ثانية بعد التسلح، و أرسلوا ألوف من الباحثين الشباب للغرب لتعلُّم شتى تقنيات الحداثة الغربية، و لما رجع هؤلاء الباحثين خاصة من هم في مجال علوم الانسان والمجتمع وجدوا مقاومة شديدة في تطبيق ما تعلموه، من لدن السياسي و الحاكم مدفوع من التيارات السلفية و النخبة الداعية إلى التروي في تطبيق المناهج العلمية الغربية! و لعلّ هذا الفهم يكشف إذا ما كشف عن شيء الطابع النفعي للأيديولوجيا و افتقارها إلى البعد الأخلاقي بحكم ارتباطها بالسلطة وإرادة القوة. فالسياسة إذن هي الوجه الآخر لمصطلح الأيديولوجيا. و يمكن استخدام أحدهما بدل الآخر. و إذا كانت الأيديولوجيا [26] مضمونة تدخل ضمن الحق في التعددية و حرية الفكر، فإن لها ضررا بليغا لا يمكن نكرانه إن تركت دونما مراقبة من المواطنين، الذين هم الجهة الوحيدة التي بإمكانها و عبر الممارسة الواعية لحق الانتخاب، أن تقلل من أضرار الممارسة الأيديولوجية السيئة، و تمنع من تحولها إلى الدكتاتورية [27]
هل كان بإمكان المثقف و الناقد الباحث ولوج المعترك الفكري دون سلاح النقد؟ فإذا تخيّلنا في أيامنا مثقفا غير نقدي فإننا سنسلخ عنه أي صفة أنطولوجية فضلا عن الثقافة، في مثل هكذا حال سيكون المواطن العادي أيضا غير قادر على تمييز الصواب من الخطأ في مجتمعه فتحوم الشكوك حول مواطنيته. فالعقلية النقدية المتراوحة بين شك إلى يقين فشك ثم يقين و هكذا دواليك جزء من هوية الإنسان في التعاطي مع بنية العقل و الوجود. إذا افتقدت افتقد معها عناصر كثيرة جدا من هويته الإنسانية، لا مراء في أن مجتمعاتنا العربية مجتمعات سلطوية و أبوية و مجتمعات قبلية ورثت جيناتها القابلية للهيمنة و الاخضاع ، وفي القبيلة تكون أهمية الدفاع عن القبيلة أهم من صواب الفكرة، إذ النقد فعالية عقلية وذوقية، تتلو الفعالية الأدبية التي هي فعالية إنسانية ، " فالناقد يقوم بعمليات القراءة والتحليل والتأويل والفهم والحكم، وهي عمليات ذهنية وذوقية تتدخل فيها القدرات العقلية والكفاءات الفنية عند الناقد. وبالنظر إلى هذه الأصول التي يعول عليها في كل عمل نقدي، تتأكد الصفة الإنسانية في هذا العلم أكثر فاكثر" [28]، لعلّ في ظل هذه المنظومة غير الطبيعية، تصبح العلمانية و هي المجال الخصب الحيوي لتطبيق المنهج العلمي الغربي دون سواها عصية إلى حد الخرافة، لأنه سنكون عندئذ أمام فصل الدين عن السياسة بإزاء فصل له عن المجتمع و هذا أمر مستحيل، من شأن منظومة " حاكمية الله " هاته البحث عن ذريعة للتسلّط فحال الحاكم المستبد الاشتراكي في فترتي الستينات والسبعينات كما في العشريتين الأخيريتين في أغلب الدول العربية كحال الباحث الدائم في المنهج الما بعد حداثي (أبستمولوجياً)، العصي عن التبيئ و عن التطويع المنهجي! و قد نجد بعضا من النخبة الأكاديمية الماركسية، التي يعوزها عمق التجربة حتى لا قول عمق الروح العلمية اليوم، تتبع نفس الأسلوب الذي نهجته المؤسسة الدينية اتجاه المناهج النقدية الغربية، في تكريس الطابع الأحادي (التراثي) للفكر و الثقافة مستغلة رسوخها اللاشعوري في دواليب فضاء السلطة العربية المعاصرة ــــــ ادعاء عدم قابلية قراءة التراث سواء كان بلاغيا أو دينيا قراءة ما بعد حداثية ـــــــ بل يفعلون ذلك بمكر و خبث سنوات الحرب الباردة بإيعاز المنفعة المادية تحت تأثير مشترك للثالوث: الحاكم والمثقف النخبوي و الفقيه صاحب السلطة الدينية المطلقة بحسب عبد الله العروي، و حتى أحيانا بمشاركة الولّي عندما يعتبر نفسه خليفة الرسول (ص) أو وسيط بين الله والمجتمع، لعلّ خلاصة هذا التكتل المحكم الحبك، ذو الصبغة النفعية القروسطية (القوي يأكل الضعيف ) هو أن يستمر تصور العوام أن إشكالية المنهج لا صلة لها بأيديولوجية بعينها وإنما هي في صلة تاريخية بمنبعه الغربي المختلف.
خاتمة
لا يمكن لغير جاحد في أيامنا أن يدعي مهما كانت اتجاهاته الفكرية أن تاريخ النقد الأدبي قد عرف أكثر من نقدين. بل هما نقدان ، واحد حداثي، نعني به النقد السياقي، و هو الذي أصبح يوصف في عصرنا بالتقليدي بالتقادم نجد منه: المنهج التاريخي و المنهج الانطباعي و المنهج النفسي و المناهج اللغوية كالمنهج الوصفي و المعياري و المقارن و هذا النقد يسقط ما يقع خارج النص على النص و نقد ما بعد حداثي، شقه الأول هو ذلك النقد الذي يوصف بالجدة و المعاصرة و النسقية، هو نقد نصاني يبحث في النص عن هندسته الجمالية شكلا و محايثة و لا ينبثق مضمونه إلا كتتمة لحلّته و تجلى في المدرسة الشكلانية ثم المدرسة البنيوية في شقها الفرنسي و في شقها الأمريكي (النقد الجديد). و شقه الآخر عُني بالمضمون الذي يفرزه النص أكثر من عنايته بالشكل، عرف بالنقد الما بعد البنيوي كالتأويلية و نظرية التلقي و نظرية ما بعد الكولونيالية و بعض الاتجاهات في النقد الثقافي، تهتم كلها بالمضامين المتبلورة ضمن بنية الخطاب. و الحقيقة أن المناهج البنيوية النسقية و المناهج اللغوية البلاغية و الأسلوبية، في الثقافة العربية الإسلامية بقيت بعيدة عن انحيازات الناقد لا لاعتبارات المحايثة فقط، بل كذلك لأصالة مادتها التي هي من أصالة الذوق و الابداع المقترن بروح أخلاقية علمية لمن يهتدون إليها، بينما دخلت مناهج السياقية ومناهج ما بعد البنيوية مجال تكريس الأمر الواقع، إما شدا عصبيا متزمتا أحيانا باتجاه التراث الديني، وإما العكس اتجاه النبش في ذلك التراث قصد تعريته. فظاهرة البحث في المنهج في حالة الممارسة النقدية الأكاديمية العربية المعاصرة و كجزء لا تتجزأ من الشرق، أدت إلى حالة من التوافق على هوية ثقافية إنسانية كونية، انطلاقا من الهجنة الثقافية التي تمخض عنها منهج نقد أدب ما بعد الاستعمار ، و إلى حالة من التقويمات الاستباقية و الاجتهادات الغير مسبوقة لملأ الفراغات و سد الثغرات المعرفية و معالجة كدمات الاصطدام بالحداثة ثم ما بعد الحداثة في تراث الشرق الإسلامي، أفضت إليها كلها مجرد المناقشات التي دارت حول البحث في علم الهيرمينوطيقا و التفكيكية.