ابتسامة بلا وجه
ما كنت أعرف متى بدأ كل شيء. ربما حين انطفأ الضوء للمرة الأولى، أو عندما ابتلع صدى خطواتي نفسه داخل الغرفة. لكني متأكد من شيء واحد: الزاوية كانت أول من تحرّك.
الغرفة ساكنة… ساكنة بدرجة تُربك الروح، كأن الهواء يخشى المرور بي. كنت أراقب الجدار الفارغ قبل أن أشعر بوخزة خفيفة في عمودي الفقري… كأن أصابع مترددة تتحسس جلدي من الداخل.
في أبعد زاوية، حدث انحناء بالكاد يُرى، لكنه كان أوضح من كل شيء آخر. بدا وكأن المساحة تتنفس… نبض خفيف يهزّ الهواء ويثقل صدري. شعرت بأن الغرفة تنكمش حولي، ليس لأنها ضيقة، بل لأن شيئًا ما يمدّ وجوده نحوي، يزحف بلا خطوات.
ثم سمعت ضحكة صغيرة، تتلعثم وترتجف، قبل أن تختفي، تاركة خلفها ريحًا باردة تمر على كتفي.
حين التفت، رأيت قوسًا صغيرًا في الهواء… ابتسامة بلا وجه، بلا شفاه أو أسنان… مجرد انحناءة في الفراغ تتحرك وتتمدد، كأنها تتذوق خوفي.
الأرضية تحت قدمي تلين… تتحرك وكأنها جلد حي، وبدأت قدمي تنغرس في الأثر، مادة باردة تشبه الطين، تجرّني نحو مكان لا أستطيع تخيله.
كل محاولة لأخذ نفس كامل بدت كخطيئة. أردت الصراخ، لكن الصوت تشظّى: جزء مني، وجزء يشبهه لكنه ليس أنا.
«ماذا تريد؟»
الابتسامة لم تتحرك، لكنها ارتجفت. ثم جاء الجواب كفكرة تسللت إلى رأسي: «ما جئت… كنت هنا طوال الوقت.»
ارتجف قلبي. شعرت أن المكان يبتلعني… ليس لأن الزاوية تريد ذلك، بل لأنني كنت أهرب من جزء مني.
حين رمشت، اختفت الابتسامة… لكن أثرها بقي، رعشة ساخنة تحت جلدي، كسطر أول من كابوس لم ينته.
شيء آخر بدأ يزحف في الغرفة: أعمق، أبطأ، وأكثر صمتًا. الهواء صار ثقيلًا، يحمل همسات بعيدة، كأن الجدران تتحدث خلف ظهري بلا فم.
جلست على الأرض، أصابعي تغوص في السطح البارد، وكأن الغرفة نفسها ترفض وجودي… تهمس: هذا ليس مكانك بعد الآن.
ثم جاء الصوت، واضحًا بلا فم: «أنت تعرفني…»
أغمضت عينيّ، شعرت بوجوده داخلي، يتنفس في خافقي وذكرياتي. استدرت فجأة، فرأيت هيئة غامضة تتلوّى بلا جسد، تفتح وتغلق المسافات في الهواء كأبواب لا أعرفها.
«لماذا أنا هنا؟» همست…
الجواب جاء بهدوء مرعب: «لأنك لم تختر شيئًا من البداية. كل خطواتك وأنفاسك كانت تحت نظري. كنت تشاهد نفسك… وتشاهدني.»
ارتجفت عظامي. كل شك وكل تردد أصبح جزءًا من هذا الكائن، من الزاوية المتحركة، من ابتسامة لا تُرى إلا حين يكتمل الظلام.
ظهرت وجوه مبعثرة على الجدار، لحظات وأخطاء صغيرة تضيق بي، وكل ما أعرفه عن نفسي يتبخر. ثم همس: «الزاوية ليست هنا… أنت هنا. وكل ما رأيته كنت أنت. أنا أنت، وأنت أنا.»
ارتجف جسدي. لم أعد أميّز بين نفسي والأثر، ولا بين الخوف والواقع. صرخت… لكن الصرخة صارت هيئة غامضة تتغذى على خوفي.
عاد الضوء… لكن كان وهجًا باهتًا يضخم كل شيء. الزاوية—الكائن—لم تعد أثرًا أو ابتسامة، بل امتدت في كل شيء، في كل نفس، في أدق ارتجافة.
وقفت لأهرب… لكن الأرضية تحولت إلى سائل أسود يغرسني فيه: مزيج من العتمة والعجز والذكريات.
ثم جاء الصوت: «كنت هنا منذ البداية، وما كنت تدري. كل خوف زرعته… كل أثر لاحقك صنعته… وأنا رأيتك.»
المكان يتمدد وينهار في الوقت نفسه، الزمن يطول، اللحظات تصبح سنوات… الغرفة تتنفس من جديد، بل تبتلع الزمن نفسه.
ابتسم الكائن… ابتسامة بلا حدود: «أنا كل ما كنت تعرفه عن نفسك… أنا خوفك، وندمك، ورغبتك، وصمتك.»
اقترب ببطء… كل خطوة تعيد تشكيل الغرفة. ثم همس: «الزاوية ليست خارجك… أنت الزاوية.»
رأيت نفسي من الخارج، أصرخ وأخلق خوفًا يلتف حولي، وابتسامات تكاثرت، تسللت إلى كل زاوية في جسدي وروحي.
أدركت الحقيقة: لا مهرب. لا ضوء. لا أنا بلا أثر، ولا أثر بلاي.
ارتفعت الابتسامات مثل انفجار داخلي… واختفى كل شيء. وبقي الصمت… بداية أن أكون كل الآثار في كل الزوايا… إلى الأبد.
حين عاد الهدوء، لم أكن متأكدًا إن خرجت من الغرفة… أم أن الغرفة خرجت مني.
نظرت إلى يديّ، نظيفتين، لكن ارتجافة خفيفة تعيد لي كل ما حدث. خطوة على الأرض، وصوت خفيف يكشف سرًا: كل تلك الآثار والابتسامات لم تحاول قتلي، بل كانت تحاول أن تجعلني أنظر.
نظرت للزاوية. بسيطة جدًا، عادية… ومع ذلك شعرت بأنها تنظر إليّ، بنظرة معرفة: الخوف لم يأتِ من الخارج… بل من داخلي.
خرجت من الغرفة ببطء، لم ألتفت. فالزاوية لم تكن يومًا خارج جسدي. وحين أغلقت الباب، سمعت النبض الخفيف… نبضي أنا، يعود إليّ بعد أن عرف طريقه.
