اشتدي أزمةُ تنفرجي
ما أكثر الحديث عن موضوع الفرَج بعد الشِّدة، بل هناك كتب بهذا العنوان وضعها القاضي التنوخي وابن أبي الدنيا وعمر عبد الكافي وغيرهم.
من الأبيات التي تتردد على ألسنتنا في هذا الباب:
ضاقت فلما استحكمتْ حلقاتُهافُرجت وكنتُ أظنُّها لا تُفرجُ
مع أني وجدت البيت في ديوان الشافعي (ت. 820 م)، كما وجدته من شعر محمد بن يسير (البكري: اللآلي في شرح أمالي القالي) إلا أنني أرجح أن القائل هو إبراهيم بن العباس الصُّولي (ت. 857 م)، لأن عددًا كبيرًا من المصادر تنسبه إليه.
فقد ورد في (البداية والنهاية ج15، حوادث سنة 243 هـ) لابن كَثير:
"ولإبراهيم بن العباس هذا ديوان شعر ذكره ابن خَلِّكان واستجاد من شعره أشياء، منها قوله:
ولربَّ نازلة يضيق بها الفتىذَرعًا وعند الله منها مخرجضاقت فلما استحكمت حلقاتُهافُرجتْ وكان يظنها لا تفرج
(ترد " كنت أظنها"، وفي رواية أخرى "وكان يظنها")
وقد ذكر الأبشيهي في (المستطرَف) أن الشعر لإبراهيم بن العباس (ص 404)- الباب السابع والخمسون. وانظر كذلك التنوخي (الفرَج بعد الشدة)، ج1، ص 363. باب ما اختير من مُلح الأشعار في أكثر ما تقدم من الأمثال والأخبار، وغيرهم.
قيل إن إبراهيم قال البيت بعد أن سمع بيت أُميّة بن أبي الصَّلْت:
ربما تكره النفوسُ من الأمــر له فََرْجة كحلّ العِقال
وإليك ما قرأته في كتاب البغدادي (خِزانة الأدب) الشاهد 437، ج6، ص 119:
روى السيّد المرتضَى: في أماليه -غُُرر الفوائد ودُرر القلائد- عن الصولي أن منشدًا أنشد إبراهيم بن العباس، وهو في مجلسه في ديوان الضِّياع:
ربما تكره النفوس من الأمر.... البيت
قال: فنكت بقلمه ساعة، ثم قال:
ولرب نازلة يضيق بها الفتىذرعًا وعند الله منها المخرجكمَُلت فلما استحكمت حلقاتهافرجت وكان يظنها لا تفرجفعجب من جودة بديهته."
(لاحظ أنها ترد أحيانًا- "كملت فلما استكملت" في عدد من المصادر، كما وردت "ضاقت فلما استحكمت")
وعلى هذا البيت قصة أوردها ابن أبي الدنيا في كتابه (الفرج بعد الشدة)، ج1، ص 75:
"حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمنِ ابْنُ أَخِي الْأَصْمَعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَ: هَرَبْتُ مِنَ الْحَجَّاجِ، وَكُنْتُ بِالْيَمنِ عَلَى سَطْحٍ يَوْمًا، فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ:
رُبَّمَا تَكْرَهُ النُّفُوسُ مِنَ الْأَمْــرِ لَهُ فَرْجَةٌ كَحَلِّ الْعِقَالِ
قَالَ: فَخَرَجْتُ فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: مَاتَ الْحَجَّاجُ، فَمَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا كُنْتُ أَشَدَّ فَرَحًا، بِفَرَجِهِ أَوْ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ؟
قَالَ عَمِّي: وَالْفَرْجَةُ، بِالْفَتْحِ: مِنَ الْفَرَجِ، وَالْفُرْجَةُ: فُرْجَةُ الْحَائِطِ.
نلاحظ أن المعنى لا يتضح في هذه الرواية، ولكنا نقرأ القصة في (خزانة الأدب)- م.ن، ص 118 مع الشرح والإبانة:
قال أبو عمرو بن العلاء: "هربت إلى اليمن خوفا من شر الحجاج، فمكثت هناك وأنا إمام يُرجَع إلي في المسائل، عشر سنين، فخرجت ذات يوم إلى ظاهر الصحراء فرأيت أعرابيًا يقول لآخر: ألا أبشّرك؟ قال: بلى. قال: مات الحجاج! فأنشده:
ربما تكره النفوس من الأمـ ...ر فَرْجة كحلِّ العقالوأنشده بفتح الفاء من فَرجة.
قال أبو عمرو: لا أدري بأي الشيئين أفرح، أبموت الحجاج أم بقوله فَرجة بفتح الفاء، ونحن نقول فُرجة بضمها، وهو خطأ. وتطلبت ذلك زمانا في استعمالاتهم.
قال أبو عمرو: وكنت بقوله: فرجة أشد مني فرحًا بقوله: مات الحجاج."
وقد ورد في الباب الرابع عشر من (الفرج بعد الشدة) للتنوخي:
ربّ أمر تزهق النفس لهجاءها من خلل اليأس الفَرجْلا تكن من وجه رَوحٍ آيسًاربّما قد فرجت تلك الفِرج (الرتج)بينما المرء كئيبٌ موجعٌجاءه اللّه برَوحٍ فابتهجربّ أمر قد تضايقت لهفأتاك اللّه منه بالفرج
وقال عُبيد الله الحارثي:
اصبر على الدهر إن أصبحت منغمسًابالضيق في لـُجج تهوي الى لـُـججِفإن تضايق بابٌ عنك مرتَـتِجٌفاطلب لنفسك بابًا غيرَ مرتَـتِجلا تيأسَنَّ إذا ما ضقت من فــــرجيأتي به الله في الرَّوحــــات والدلَجِفما تجرّع كــــأسَ الصبر معتصمٌبالله إلا أتـــاه الله بالفـــــرج
ومن شعر اليسر بعد العسر ما قاله أبو علي الأنباري:
إذا اشتد عسرٌ فارجُ يســـرًا فإنهقضى الله أن العسرَ يتبعُه يســـرإذا ما ألمّت شِدة فاصطبر لهـــافخيرُ سلاح المرء في الشدة الصبروإني لأستحــيي من الله أن أُرىإلى غيره أشكو إذا مسني الضرعسى فرَج يـــأتي به الله إنهله كل يوم في خليقته أمــــرفكن عندما يأتي به الدهر حازمًاصبورًا فإن الخير مِفتاحُه صبرفكم من هموم بعد طول تكشفتوآخر معسورُ الأمور له يسر
وفي تنقيبي عن هذا المعنى قرأت لأحمد بن عاصم الأنطاكي:
هوّن عليك فكل الأمر ينقطعوخلّ عنك ضباب الهمّ يندفعفكلّ همٍّ له من بعـده فـرجوكلّ كرب إذا ضاق يتّسـعإنّ البلاء وإن طال الزّمان بهالموت يقطعه أو سوف ينقطع
ولمدرِك الشيباني:
فاصبر أدِم واقرع الباب الّذي طلعتمنه المطالع فالمغرَى به يلجبقدرة الله فارج الله وارضَ بهفعن إرادته الغمّاء تنفرج
وأختم بقول شاعر:
رويدك فالهموم لها رِتاجُوعن كثبٍ يكون لها انفراجُألم تر أن طول الليل لماتناهى حان للصبح انبلاجُ
أما المثل- عنوان هذه الصفحة - "اشتدي أزمة تنفرجي" فهو من قصيدة نسبت إلى محمد بن يوسف التوزَري المعروف بابن النحْوي (ت. 1119م)، وهو من شعراء الأندلس، ومطلعها:
اشتَدَّي أزمَةُ تَنفَرِجيقَد آذَنَ لَيلُكِ بِالبَلَجِ
وهذا المعنى كان الميداني أورده في (مجمع الأمثال، رقم 626) بصيغة:
– تشددي تنفرجي!
الخطاب للداهية: أي تناهَي في العظم والشدة تذهبي.
يضرب عند اشتداد الأمر.