الأربعاء ٥ نيسان (أبريل) ٢٠٠٦

الأديب والدكتور عبد السلام العجيلي في ذمة الله

ماهر منصور

رغم الأربعين كتابا، ما زلت اعتبر نفسي أديباً هاوياً ولست محترفاً
العلم، الأدب، السياسة، والحرب مرافىء للذاكرة ترسو عندها مراكب بحار عجوز اسمه في الحياة الأدبية والعامة عبد السلام العجيلي، وتضيق المرافىء بالأحداث والصور والأقوال وحكايات كثيرة تتزاحم في الذاكرة، فتحار إلى أين تمضي ...

 (أبحرت إلى كل الموانىء...)

يكتب عبد السلام العجيلي في إحدى الدوريات العربية، ولكنه في اللقاء معنا يؤثر الإبحار نحو ميناء الشهادة، تلك الشهادة التي لم تستطع سنوات عمره التي تقترب من التسعين أن تفك سحرها عنه، منذ كان طفلا ابن أعوام أربعة يتتبع بعينين مشدوهتين طائرة فرنسية ترمي قنابلها على بلدته الرقة – رقاه- حتى الساعة التي حدقت ذات العينين بطائرة أمريكية ترمي حممها على العراق...
ونبدأ الإبحار في ذاكرة عبد السلام المحارب والإنسان...

 (سأتحدث عن الشهداء الذين سمعت وقرأت عنهم، أو شهدت استشهادهم بعيني...) هكذا يعلن الربان بدء رحلته. يمضي عبد السلام العجيلي إلى حرب فلسطين طبيباً ومقاتلاً، فهو لا يعرف الفصل بينهما، ولا يقوى على التفريق بين واجبه الوطني، وواجبه الإنساني. يتذكر الشهيد (عبد العزيز السلات) بطل من حرب فلسطين إذ يبتسم له:
 (معليش يا دكتور، كله فدا الوطن).... يخفت صوت الدكتور العجيلي وهو يذكر الحادثة، يخفت كما لو إنه ينحني لذكراه...
يتذكر الشهيد (عبد الله رجب) ذاك الرجل الذي أوقف بمفرده كتيبة للدبابات كانت تزحف صوب دمشق في حرب 1973، يخفت صوته أيضاً لم يكن (عبد العزيز السلات)، و(عبد الله رجب) البطلين الوحيدين في ذاكرة العجيلي، هناك كان أبطال آخرون، لم ينل النسيان منهم في ذاكرته...

 (هناك كثيرون ممن أستطيع أن أروي حكاياتهم- يعلق عبد السلام العجيلي- كنا نحارب أقوى دولتين خرجتا من الحرب العالمية مظفرتين وتملكان الدنيا، كنا نُغلب، ولكن كان الغالبون أقوياء، ومع ذلك لم نحني رأساً ولا تنازلنا، كنا دائماً رافعين الرأس). يصمت الرجل قليلا، يستعير من الذاكرة صورة لم تغادره، صورة المجاهد إبراهيم هنانو يتقدم مظاهرة للكتلة الوطنية وهي تشق طريقها وسط جنود الاحتلال الفرنسي بعزة وكبرياء كما لو أنهم ذاهبون إلى عرس ...
 (لم يطالبوا بشيء لأنفسهم - يعلن الربان عبد السلام نهاية إبحاره الأول- كانوا يقاسون السجن والمنفى والإعدام والتشرد ولا يتهاونون، وما كان نضالهم من أجل مصلحة شخصية ...الآن تغيرت الأحوال).

وتمضي السفينة، ومرساها هذه المرة مدينة حلب...
 (حلب بلدتي الثانية - يقول عبد السلام العجيلي- عشت فيها الفترة المؤهلة البانية للشخصية، دائما يسألونني: إنك تكتب كثيرا عن حلب... أقول: نعم اكتب، هذا طبيعي، مكاسب كثيرة في حياتي نلتها في هذا المدينة، فلا يستغرب أحدا إذا وضعت حلب في الدرجة التي أضعها في كتاباتي، وفي شعوري، حلب وأهل حلب)...
أثر انتهاء فترة دراسته الأولى ينتقل الطفل عبد السلام إلى حلب لمتابعة تعليمه لأن الرقة لم تكن تحتوي عندئذ مدرسة ثانوية، وهناك كان الأصغر بين أنداده من الطلاب، الأمر الذي جعله ضعيفاً في البنية والاستعداد للتعلم بينهم.

سرعان ما يصاب الطفل بمرض يمنعه عن المدرسة عاماً بأكمله، ويتبعه الأب بعامين اثنين ليعينه بإدارة أعماله وأملاكه، وخلال الأعوام الثلاثة ينفتح عقل الطفل عبد السلام على أفكار مدرسة أخرى أكبر وأشمل إنها مدرسة الحياة، وينكب على القراءة بنهم على نحو يبدو الطفل فيه متفوقا على أقرانه في المدرسة التي عاد إليها بعد تلك الفترة، بل ومتفوقا أيضا على أساتذته في بعض العلوم .
في الحديث عن تجربته في الحياة البرلمانية، وعمله السياسي كوزير للثقافة فالخارجية فالإعلام، آثر عبد السلام العجيلي الحديث بعيدا عن السياسة وهمومها
 (السياسة ومصائبها التي نعيشها اليوم تكفينا، وأفضل أن أروي لكم كل ما يبعد عنكم الأسى والحزن وأن كان لابد للإنسان أن يحزن )..

يروي العجيلي عن محطات طريفة شهدها في منتدى (حلقة الزهراء) بدمشق عن أحمد الصافي النجفي، وبدوي الجبل، وإيليا أبو ماضي. وبعيداً عن منتدى الزهراء يستطرد بالحديث عن ذكرياته مع الشاعرين عمر أبو ريشة ونزار قباني في محطات طريفة أيضاَ. وعن الأدب وتجربته الإبداعية يقول:

 (رغم أربعين كتابا ظهرت لي، ما زلت اعتبر نفسي أديباً هاوياً ولست محترفاً).

يبدأ عبد السلام العجيلي الكتابة منذ دراسته الابتدائية، ولكنها تترسخ في مدرسته الثانوية في حلب، بعد أن يكلف بمحاضرة فيها بعنوان (السرعة في زمن السرعة)، والتي تنال إعجاب الحضور وفي مقدمتهم الأمير مصطفى الشهابي وكان محافظا للمدينة، وتنشر المقالة في مجلة (عبد الله يوركي الحلاق)، لتبدأ مسيرة عبد السلام العجيلي الروائي المبدع، وتبدأ مرحلة جديدة يمهر فيها عبد السلام في كل مرة إنتاجه الإبداعي باسم مستعار، ويتنقل من اسم إلى آخر، في تلك الفترة ينشر العجيلي أول قصة له في مجلة الرسالة لأحمد حسن الزيات إلى جانب أسماء كبيرة في الأدب والإبداع.

وعن علاقته كطبيب وإنسان بكتاباته يقول عبد السلام العجيلي:
 (يسألونني دائما عن كتاباتي ومقدار علاقتي الشخصية بما اكتب، الكاتب لابد أن يضع مقدار من نفسه فيما يكتبه، ما يضعه أحيانا يكون ضعيفاً، وأحيانا تكون رواية لأحداث واقعة...في روايتي (باسمة بين الدموع) بدأتها بتدهور سيارات، هذا ما حدث حقا، وضعتها كنقطة بداية ثم بعدها أدخلت الخيال وما جرى لي وما جرى لغيري)..
يسألونه: هل يفضل عبد السلام لونا من الألوان، يجده قريبا من نفسه، وقد تنقلت بين الرواية والقصة والمحاضرات و....؟
 (الفكرة أو الحدث أو الواقعة هي التي تفرض عليّ الشكل الذي أكتبه - يجيب العجيلي- أحيانا أكتب حكاية، أحيانا ألقي محاضرة، وأحيانا أعمل رواية، اذكر أني كتبت قصة قصيرة (حمى) وحين ألقيتها في الإذاعة كتبتها بطريقة أخرى لأن المستمع غير القارىء. لا أفضل لون على لون ولكن القص عندي هو الغالب على السرد العادي، إنه طبيعة عندي، وكل شيء أضرب فيه مثلا أو حكاية.
وعن شهادته على هذا العصر وهو واحد ممن عايش أحداثه كما لو لم يعشها أحد، وتحسس جرح الوطن فيه وآلمه. استذكر الدكتور عبد السلام العجيلي مقالة بعنوان (حصاد الفساد) كان قد كتبها في صحيفة الكفاح العربي 17/4/2003، لعل فيها ما يريد أن يقوله حقا... يقول الدكتور عبد السلام:

 (لم ينته الأمر بعد، وأن انتهت واحدة من أهم مراحله، أما الأمر نفسه فهو لم يزل في بدايته، الأمر الذي أعنيه هو الحكم على حالنا وعلى مصيرنا نحن العرب في هذه الأرض العربية والمرحلة التي أعنيها هي سقوط بغداد... أن نصب جام غضبنا على العدوان وحده ونلعنه ونغض النظر عن أسبابه ودوافعه وما ساقه، أن نفعل ذلك وحده فسيكون ذلك قصر نظر ونقص إدراك وجهل، بل أن اقتصرنا على الوقوف عند العدوان وشكونا منه سيحرمنا ذلك من كل أمل مهما بلغ من الضآلة بتخفيف أثر كل ما أنزله بنا من فواجع... لابد من العودة إلى الوراء لتتبين العوامل التي أدت بنا بأن نكون ضحايا العدوان وفريسته، لابد من العودة لأن ما يمر بنا ونمر به ليس إلا حصاد زرع نثرناه منذ خمسين عاما على الأقل ونما وترعرع في خلال السنين الفائتة وكان حصاده اليوم، إنه حصاد الفساد الذي خاضت شعوبنا في مستنقعاته خلال نصف القرن الماضي بعد أن انتزع أبناؤه الأوائل حرية أوطانهم من مستعمريها المختلفين، فساد متعدد الوجوه، تولت عبره قيادات رفعت شعارات أيديولوجية متباعدة ومتقاربة ولكن كان أغلبها عند التطبيق كاذب.

شعارات عن الديمقراطية والحرية والوحدة، أين هي من الواقع الذي فرضته على شعوبنا قيادات كان بعض رؤوسها سفاح وبعضها مجنون وبعضها ذليلا، يتلقى الصفعة ويقبل يد الصافع كل رأس من هذه الرؤوس له عاهة تختلف عن عاهة زميله ولكنهم متشابهون في حرصهم على الكرسي والسلط...).

ويتابع عبد السلام العجيلي شهادته على العصر، يتابع العزف على أوجاعنا، لم يكن يرغب الرجل بالحديث عن ما يعكر صفو لقاءنا معه، لكن الحزن داهمنا، وداهمه ...يبدو أن لا بديل لنا عن الأحزان أيها الحكيم العجيل

عن التجديد العربي

ماهر منصور

العجيلي، عبد السلام (1918-): أديب سوري، عمل أيضاً في الطب والسياسة. ولد في الرقة. درس في الرقة وحلب وجامعة دمشق، وتخرج منها طبيباً عام 1945. انتخب نائباً عن الرقة عام 1947. تولى عدداً من المناصب الوزارية في وزارات الثقافة والخارجية والإعلام عام 1962. أصدر أول مجموعاته القصصية عام 1948 بعنوان بنت الساحرة. كتب العجيلي القصة والرواية والشعر والمقالة. بلغ عدد أعماله حتى 1995 ثلاثة وثلاثين كتاباً، من أهمها الليالي والنجوم (شعر 1951)، باسمة بين الدموع (رواية 1958)، الحب والنفس (قصص 1959)، فارس مدينة القنطرة (قصص 1971)، أزاهير تشرين المدماة (قصص 1974)، في كل واد عصا (مقالات 1984). ومن أعماله الحديثة أحاديث الطبيب (قصص 1997)، و مجهولة على الطريق (قصص 1997). يعد أحد أهم أعلام القصة والرواية المعاصرين في سوريا والعالم العربي. تبدو المدرسة الواقعية في الكثير من أعماله.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى