الأشلاء
كان عائدا إلى مدينته الغوطة بعد ثلاثة أيام من رحلته إلى مدينة مجاورة للعمل. قبل بداية الحرب الأهلية، كان يقوم بهذا النوع من الرحلات عدة مرات في شهر ولكنه أصبح أقل من القليل بعد نشوبها...
كان الموت يحوم على رؤوسهم ولا يدري أحد متى تبدأ السماء تقصف بالنار وتحرق حياتهم السعيدة المستبشرة...
كانت عيون زوجته تجود بالدموع المائجة. كانت تلح عليه متضرعة مرة ومشددة مرة أخرى ألا يذهب خارج المدينة. تفزع ابنته التي كانت في السادسة من عمرها للمشاهد المهيبة المتناوبة على شاشة التلفزيون وتقول:
"يا أبتاه! متى نهجر هذه البلاد؟! إني خائفة!"
ضمها إلى صدره وحاول أن يسلي خاطرها. برقت في ذهنه فكرة ليقنع بها زوجته:
"حياتي! يجب علي أن أرحل، لمصلحتنا، ولمصلحة ابنتنا! أرجو أن أكتسب بهذه الرحلة قدر ما يكفي تكلفة للحصول على جوازات لنا وزادا للسفر والإقامة في بلاد أخرى حيث نعيش آمنين سالمين مطمئنين..."
ما كان قلب زوجته ليقتنع بهذا، ولكنها استسلمت كارهة إلى آمال حياة آمنة...وكانت يدها ترتعش حينما كانت تودعه...
حققت رحلته نجاحا أكثر مما كان يتوقع وربحت تجارته ربحا كان باستطاعته الآن أن يحصل به على جواز السفر ويعيش في بلاد غير بلاده...
شعر بحدوث مأساة فور دخوله البلد. كانت داره تبعد عن محطة القطار بثلاثة كيلومترات. في الأيام العادية، كان أصحاب التاكسي يتزاحمون للمسافرين. ولكن اليوم لم يكن هناك أحد...تحت وقع الاضطرار، عزم على قطع هذه المسافة ماشيا على أقدامه وشرع يجر أقدامه نحو بيته......
كانت الشوارع خالية تماما...كان يسودها الصمت المصم...ولكن كان يخترق الأجواء صوت الطائرات القاصفة في حين وآخر ثم يبدو طوفان الدخان يهرع ليبتلع السماء...
جاشت في قلبه المخاوف والهواجس...وخيمت في ذهنه الوساوس...أسرعت قدماه خطاهما... حتى صار يجري طائر اللب مغلوبا على أمره...وصل لاهثا حيثما كان يوجد بيته فوجده أنقاضا وأكماما من الحجارة والطين والأعمدة والأطواب والأخشاب والذكريات والأحلام...خر مغشيا عليه غير متحرك كجثة ميتة... ثم سرى الاهتزاز في جسمه بعد ساعات... وقام منحنى الظهر ليتفقد شيئا ما في الأنقاض...
في الغد، كان يقف في طابور أمام مكتب الجوازات. بعد أن أتى دوره، قدم ثلاث استمارات إلى موظف المكتب... ألقى الموظف نظرة عابرة على الاستمارات وقال مركزا :نظرته الحادة عليه
"عدنان صبحي، العمر خمس و ثلاثون، هذا أنت! ليلى حلقي، العمر ثمان وعشرون...سارة صبحي، العمر ست... من هما؟ ألا تعلم بأن القانون الحكومي يحتم على كل من يتقدم بطلب للجواز أن يكون موجودا بنفسه للتحقق على الهوية...؟ أين هما؟ اذهب وائت بهما...!!!"
أجاب كأنما يتكلم مع نفسه:
" لقد أتيت بهما، يا أفندم! لقد أتيت بكليهما...!!!"
وأفرغ الحقيبتين اللتين حملهما معه على الشباك أمام الموظف مباشرة...كانت الحقيبتان تحويان الأشلاء....
مشاركة منتدى
5 نيسان (أبريل) 2018, 07:13, بقلم محمد حسن
اخي الغالي!
سلام الله عليك وحنانه.
احسنت في هذا المجال!
والله يسلمك!