البداية والربيع
تذكرت هادي العلوي، في مطلع العام الجديد. مرّ هذا العراقي اليساري المتصوف في حياتنا مثل نسمة خجولة. معرفته الموسوعية، وولعه بتأليف القواميس، وانغراسه العميق في التراث العربي، لم تدفع به الي صخب الحياة الثقافية. كان نباتيا مثل معلمه شاعر المعرة، رفيقا بالآخرين، لا تفارقه مسحة الحزن العراقية، ولا يهمه من مظاهر الحياة الدنيا سوي صدق المعشر، وقبس المعرفة. يحتقر المجد الباطل، باحثا لنفسه عن مكان في ارض الكلمات الشاسعة.
تذكرت هذا الرجل الذي جمعتني به صداقة خفرة، في المطلع الحزين لهذا العام. شربت مثلما يفعل جميع الناس، لكن النبيذ الأحمر لم يأخذني الي فرح البداية. كنت اشعر بالنهاية تحاصرني من كلّ الجهات. هذه بيروت التي يلتبس فيها كلّ شيء. اعتقدنا في آذار- مارس ان زمن الالتباس ولّي، واننا امام بداية آن لها ان تبدأ. غير ان مسلسل الاغتيالات الوحشي، غطي عيوننا بالدماء، ثمّ انهالت علينا لغة الانحطاط العربي، كي تثبت لنا ان الاستبداد لم يكتفِ بقتل الناس، بل يحاول قتل لغة العرب ايضا.
كان عاما يمتزج فيه الأمل بالرعب، واللغة الميتة بلغة تحاول ان تبث الحياة في كلماتها. هكذا بيروت، مزيج غريب بدأ مع بداية حلم التغيير، حين جاءت مجموعة صغيرة من الفدائيين الي خراج قرية كفرشوبا في العرقوب، ومعهم دخلنا عالم امتزاج الواقع بالأسطورة، ورحلة تيه لا نهاية لها.
لكن بيروت عام 2005، كانت مرآة العرب، وهذا حالها دائما. لكن المرآة حاولت هذه المرة ان تصنع صورتها. خرجت من الاطار الذي حاصرها ثلاثين عاما، وبدأت رحلتها الي فضاء الحرية.
غير ان الفضاء كان مسوّرا بالموت، والبداية كانت محاصرة بالخوف، والحكاية لم تجد راويها بعد.
بداية العام لم تكن تشبه البدايات، كان طعم الحزن في كل شيء.
حاولت ان ابحث عن سبب هذا الشعور الذي جعل من ليل اليوم الأخير من السنة أليل بالعتمة. وقلت من غير المعقول ان يكون سبب هذه العتمة الموت. فنحن نعيش مع الموت منذ ثلاثين عاما، الي درجة صرنا معها لا نصدق الموت، بل نعتبره مجرد استعارة للحياة. لماذا هذا الحزن اذا؟ ولماذا هذا الشعور بالاختناق؟
وسمعت هادي العلوي. الحقيقة انني لم اسمعه لأن الذاكرة لا تخون الا اصوات الموتي. استحضار صوت صديق غيبه الموت هو من اكثر الأشياء صعوبة، لا يأتي من الصوت سوي صداه، كأن الموت هو موت الصوت. تذكرت رأي هادي العلوي بعيد رأس السنة، ووجدت السبب. ربما جاء هذا الحزن من التقويم الغربي الذي جعل رأس السنة في الأول من كانون الثاني (يناير). السنة تبدأ مع البرد والشتاء واليباب الذي يضرب الأرض. دعا هادي العلوي الي العودة الي التقويم القديم. كان قدماء المصريين والعراقيين والسوريين يحتفلون برأس السنة مع بداية الربيع. لا شيء يجعل من تكرار دورة الحياة والموت مقبولا الا حين ترتبط هذه الدورة بالحياة. لذا كان شم النسيم المصري ولا يزال احتفاء بانبعاث الارض والزرع. ولذا ارتبطت بداية السنة في التراث الكنعاني بأساطير الانبعاث والقيامة، وجعلت الحضارة الانسانية الموت جزءا من دورة الحياة، كي يستطيع الانسان تقبّل فكرة الموت.
تدثرت بيروت في نهاية العام بالبرد، وعاشت في ضبابين، ضباب الشتاء الذي يغطي سماءها، وضباب الالتباس السياسي الذي استولي علي لغتها.
كيف نحتفل بالبداية بين شتاءين؟
لماذا لا ننتظر الربيع، معيدين السنة الي حيث يجب ان تبدأ؟
لا ادري ما كان سيكون رأي هادي العلوي بهذا الزمن، فلقد غيبه الموت قبل ان يري كيف قاد ديكتاتور العراق بلاده الي هاوية الاحتلال. كما مات قبل ان يصاب الحكم البعثي في سورية بعمي الألوان، فيراكم اخطاءه ويراكم خساراته، ويحول ارض لبنان ملعبا للموت.
لكن ما اعرفه عن صاحب المستطرف الجديد ، انه كان سيبدأ حواره معي بتأكيد رأيه عن عامية الف ليلة وليلة المفصحة مثلما اسمي كتابا متميزا نشره علي حلقات في جريدة السفير البيروتية، ولم يصدر للأسف في كتاب، قبل ان يروي كيف نجح ابو العلاء المعري في صدّ جيش كامل، اراد اجتياح المعرة، عندما خرج اليه اعزل ووحيدا، وامره بالتراجع عن ابواب المدينة.
سوف اجيبه بأنهم يقتلون الأدباء اليوم، وبأنهم لو وجدوا المعري لقتلوه.
وسوف يجيبني ان كاتبا من قامة المعري كفيل بأن يعيد الأمور الي نصابها.
سوف اقول له انه يعيش في وهم قوة الكلمات.
وسوف يجيبني بأنني اسير احزان اللحظة، وانني لا اعي بأن جبال الحزن العربي سوف تنشق عن بداية نهضة آتية، وان علينا ان نصبر.
ثمّ سيلتفت اليّ كي يقول انه علي حقّ، يجب ان تبدأ السنة بالربيع، امنا الأرض تعرف ان سنتها تبدأ في آذار- مارس، وعلينا ان ننتظر آذار من جديد.
الحقيقة اننا كنا نعتقد ان ربيعنا البيروتي بدأ في الرابع عشر من آذار ـ مارس 2005، ففي ذلك اليوم انشقت الأرض وفتحت ذراعيها للناس. لكن الحكاية لا تزال في بداياتها، كما يبدو، والأرض العربية لا تزال في انتظار ربيعها.