الخميس ٢٨ أيار (مايو) ٢٠٢٠
مساقات
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

«الثَّورة»، حينما تكون: بنت الثَّور!

ثَمَّةَ مثلٌ شَعبيٌّ يضربونه في (جبال فَيْفاء) لمَن يُعرِض عن أمرٍ لذِكرَى سيِّئةٍ مرَّت به فيه، يشبِّهونه بثورٍ خُصِيَ على "حَياد". والحَياد: بطنٌ من الأرض يحير فيه الماء، قد يكون واسعًا، تستقي منه المواشي، ويسبح فيه الناس. فلم يَعُد الثور يذهب إلى ذلك الحَياد، ولو مات ظمأً، بسبب تلك الذِّكرى! يقولون: «فُلان مِهْل امثَور ذي خُسْتْيَ على امْحَياد»! أي: «فُلان مِثْل الثَّور الذي خُصِيَ على الحَياد.»

قال صاحبي: لذلك تفتَّق الذهن الفرنسي عن خطوةٍ تاريخيَّةٍ لا رجعة فيها، وهي أنْ قرَّر، وهو بكامل قواه الإديولوجيَّة، أنَّ الباب الذي جاءه منه الرِّيح يومًا- ولو من جهة هبوب غير إسلاميَّة- عليه أن يَسُدُّه ويستريح، منه ومن أهله، إلى أبد الآبدين!

 والمعنى؟

 (فرنسا) كثيرًا ما تبدو فعلًا كالثَّور الذي خُصِيَ على الحَياد!

 دعنا من الثَّور الآن، وحدثنا عن الثَّورة!

 ما مَنْعها النِّقاب إلا قِمَّة الحزم "الثَّوريِّ" في ممارسة "الإرهاب الثقافي"، خشيةَ أنْ تتعرَّض لخِصاء علمانيَّتها مرَّة أخرى.

 يا للعقلانيَّة والحضاريَّة...!

 أجل، يا للعلمانيَّة المسكينة، ويا للتنويريَّة المريضة والبدائيَّة جدًّا!

 وأيُّ فرقٍ، إذن، بين هذا الضرب من العلمانيَّة، اللا علمانيِّ، وبين أيِّ ثقافةٍ دِينيَّةٍ متطرِّفةٍ أخرى، تبقَى حبيسة ذاكرتها الثَّوريَّة وعُقَدها التاريخيَّة؟!

 إنَّها بهذا محض أُصوليَّةٍ دِينيَّةٍ جديدة، بالغة الانغلاق والانحباس التاريخيِّ والتعصُّب! تحوَّلت من المؤسَّسة إلى المجتمع، كما حدثَ من تلك العجوز الفرنسيَّة (مارلين روبي)، التي لاحقت سيِّدةً إماراتيَّةً في أحد أسواق (عاصمة النور: باريس!)، واعتدت عليها، ومزَّقت نقابها، حسب صحيفة (الغارديان).

 على أنَّ كُلَّ هذا يسوِّقه علينا الخِطاب الإعلامي، المؤدلَج في مناوأة الثقافات والشعوب، على أنه لدواعٍ أمنيَّة. وكأنَّ الدواعي الأمنيَّة المزعومة لم تظهر إلَّا في بعض الدول التي تحكمها تلك الإديولوجيَّات، وذلك الرُّهاب القديم من الآخَر (الموت) ومن ثقافته.

 ذلك الرُّهاب طالما فلسفوه لنا ونظَّروا له قبل الحادي عشر من سبتمبر، ثمَّ آنَ التطبيق بتلك المناسبة.

 طبعًا، ببديهة الحال ليس ثَمَّةَ خِطابٌ محايد، أو فِكرٌ محايد، أو سياسةٌ محايدة؛ لأن الحِياد نفسه غير حِيادي، بل هو إديولوجيا، ولو مدَّعاة. الحِياد هنا كـ"الحَياد" الذي خُصِيَ عليه الثَّور، في المثل الشَّعبي المشار إليه!

 صحيح، غير أن الموقف حينما يصل إلى مأزق الرفض لحُريَّات الآخَرين، والنظر إلى الشأن الثقافيِّ والإنسانيِّ من زاوية معتقَدٍ واحدٍ، واقتناعاتٍ نمطيَّة، فإنه يتحوَّل إلى "دُغمة" إديولوجيَّة، ويُرهِص بإرهابٍ ثقافي.

 وذلك ما حدث!

 لكن لم تظهر هذه العنصريَّات في (الولايات المتحدة الأميركيَّة)، مثلًا، كما ظهرت في فرنسا، أو كما ظهرت في (بلجيكا)، أو (إيطاليا)!

 لأن بين تلك الدول فروقًا تاريخيَّة وثقافيَّة ومؤسَّسيَّة.

 لكأنَّ العالَم في غفلةٍ مطبقةٍ عن الوسائل الأمنيَّة الحديثة للتحقُّق من الشخصيَّة.

 لو كان ذلك هو السبب الحقيقي!

 حتى في نقاط التفتيش الأمنيَّة، لم يَعُد الأمر يستدعي بالضرورة كشف سحنة الإنسان لتفحُّص أنفه أو شفتيه أو شعره.

 إنَّما هو الدجل المفضوح باسم "العلمانيَّة" لتبرير "الجهلانيَّة"، وفرض التحكُّم في حياة البشر، لإجبارهم على الرضوخ لمعتقدات المجتمع البالية، وتسليمه بالانسلاخ من ثقافته، واستذلاله ليُصبِح تَبَعًا مقلِّدًا للأوصياء البِيض.

 ربما. أمَّا الحِكمة الذاهبة إلى: أنَّ أوَّل أبجديَّات التعايش أنْ لا يُسمَح بوجود فروقٍ بين ثقافات الناس في المجتمع الذي يعيشون فيه(1)، فهي أوَّل أبجديَّات العبوديَّة، والانسلاخ من الهويَّة الثقافيَّة، والاستسلام لإلغاء الاختلاف الطبيعي، وإنكار الفروق الحيويَّة بين الثقافات والشعوب، واستنساخ شتاتها عن نمطٍ واحد. وتلك، في حقيقتها، أُولَى أبجديَّات التخلُّف القديم، والعُنصريَّة البدائيَّة، ورفض التنوُّع والتعدُّديَّة.

 هو نزوعٌ غير طبيعي ولا حضاري. التسليم به لا ينشأ إلَّا عن ذهنيَّة تربَّت على الإذعان لهيمنة الآخَر الأقوى، ولو ملكتْ الأمرَ (تلك الذهنيَّة نفسها) لكانت بدورها مهيمنةً مصادرةً لحُرِّيَّات الآخَرين واختلافاتهم.

 وممَّا يؤكِّد هذا البُعد العُنصري أنَّ قضيَّة الحِجاب- على سبيل النموذج- قد أصبحت هناك قضيَّة اجتماعيَّة وشوارعيَّة، تُستغَلُّ أحيانًا للتنفيس عن الحِقد الدَّفين على الشعوب الأخرى، وتُؤجِّج لدَى الأُصوليِّين الأوربيِّين شراستهم في ملاحقة الخارجين عن ذلك الأسلوب الاستعبادي، والاعتداء عليهم تحت ذريعته، وإنْ كان أولئك الملاحِقون المعتدون من عامَّة المجتمع، كالسيِّدة (مارلين روبي)، وليسوا من المخوَّلين قانونًا لتطبيق التعليمات الاستبداديَّة العُليا. تلك هي الحُرِّيَّة، إذن، وإلَّا فلا! وذاك هو النُّور المنشود!

 بل قل: تلكم بعض مظاهر "الحِسبة" الأوربيَّة المنفلتة من عِقالها!

(1) إلى هذا يذهب مثلًا: (جمال البنَّا)، في كتابه "مسؤوليَّة الدولة الإسلاميَّة في العصر الحديث"، (القاهرة: دار الفكر الإسلامي، 1994).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى