الثلاثاء ٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم حمدي كوكب

الجانب الموسيقى في هتافات الثورة

الهتافات لا تتعدى عشر كلمات

ولم يدون المؤرخون هتافات الثورات عبر التاريخ

هتافات الثورة، تلك الكلمات الموجزة المعبرة عن الإحساس الداخلي لما يشعر به المواطن تجاه النظام السائد، والملخصة لكم الكلمات التي يريد أن يذيعها الناطق بها، لإيصال مطالبه إلى المسئولين.

وتمتاز الهتافات الثورية بالجزالة والإتقان في اختيار الألفاظ المؤدية لأكثر من معنى بعيد، مع أنها تحمل نفس المعنى القريب، فلكمة (ارحل) تعني المعنى القريب أي: اترك البلد وهاجر إلى أخرى، وفي نفس الوقت تحمل المعنى البعيد المقصود وهو: ارحل أي: اترك المنصب الذي تتولاه الآن.

ومع ذلك فإن الهتافات الثورية ترتبط بألفاظ وكلمات عامية دراجة شائعة الاستعمال ، خفيفة النطق ، موجودة في ثقافة وكيان المجتمع، ولا توجد هناك هتافات تلتزم اللغة العربية الفصحى قصداً وعمداً ، ولكن ما جاء بلغة فصحى فهو أقل القليل ومع ذلك فهو غير مقصود لأن يخرج بصورة لغوية فصيحة؛ بكل كان الهدف هو مسايرة مشاعر المواطنين بما تحمله الألفاظ مهما كانت سواء أكانت كلمات عامية أم كلمات لغوية فصيحة .

كما تمتاز الهتافات الثورية بجانب بلاغي سائد في جميعها هو السجع المقصود لذاته، والذي يختتم به المؤلف شطري مقطوعته الهتافية، وهو لا يلتزم لحناً أو موسيقى بحد ذاتها بقدر ما يهمه أن تكون الألفاظ سلسة في النطق والمخرج الصوتي الموحد لنهاية الشطرتين.

وتتوارد الهتافات الثورية في ذهن المواطن أثناء ذوبانه وسط الجماهير التي تنادي وتهتف بأصواتها العالية فتعطيه القريحة الذهنية شعارات وهتافات مماثلة على نفس النمط الهتافي وعلى نفس الموسيقى ، فيبدأ المواطن العادي في تأليف هتاف يساير نفس الهتاف الذي يشعل من حماس المتظاهرين، ومن ثم تتارد إلى الآخرين هتافات بكلمات أخرى ومعان متعددة، وأوازان موسيقية تختلف قليلاً عن مثيلاتها.

ومنه هنا فإن معظم الهتافات الثورية تخرج أثناء الانغماس والانصهار الوجداني داخل الثائرين، فتظهر إبداعات تقتصر على إنشاء جملة هتافية مسجوعة الشطرين بكلمات قليلة تعبر عن اللحظة الحالية التي يعيشها المواطن.
هذا عن اللحظة الموسيقية الهتافية التي يندمج فيها المتظاهرين بصوت موحد في ندائهم عن مطالبهم بهتاف يرددونه خلف واحد منهم . أما الهتافات المُعدة سبقاً قبل يوم التظاهر فهي هتافات سرعان ما تختفي وتتلاشى بعد أن يزيد حماس الفئة المتظاهرة، حيث أن تلك الهتافات المعدة سبقاً لا تمتاز بنفس الشورية الوجدانية المتأثرة بالأوضاع التي يشعر بها الجميع، ولأنها خرجت من ذات واحدة أجبرت الذهن والعقل والمشاعر على تأليف ما يسمى بالهتافات الثورية.

بذلك فإن الهتافات الثورية المعدة سلفاً لا تدوم كثيراً وإن كانت هي التي يبدأ بها المستعدون فيزيد الحماس فتظهر نداءات وقتية أقوى في التأثير والانفعال.

وهو قول الشاعر معروف الرصافي:

ورُحنا نَشاوىَ العِزّ يَهتف بعضنا
ببعضٍ هتافاً يُصعِق الظلم والحَيْفا

وكلما خفتت وتيرة التأليف، وكلما توقفت الذاكرة المؤقتة عن الاتيان بجديد في نفس اللحظة يعود الثوار إلى هتافاتهم السابقة فيختارون أقواها ويعيدون ترديده والانفعال به من جدي والتأثر بكلماته والنداء به لمطالبهم إلى حين ظهور هتافات أخرى أوقدتها الثورة في أذهان المواطنين فخرجت عبارة عن كلمات يهتفون بها لتلبية مطالبهم والاستجابة لها.

ولا تتحدث الهتافات عن موضوع بعينه بل تنادي بالمطالب بصور متعددة ،فهي غير موحدة الموضوع، بل تجدها تارة تتحدث عن أشخاص وأخرى تهتف ضد مسئولين، وتارة تنادي بمطالب الشعب، ولكن يبقى في قلب وعقل المتظاهر هو تحقيق أهدافه، وما الشعارات والهتافات إلا تعبير عما يجيش بداخله وتنفيس عن كربته، وخرج من الصمت الأزلي الذي كان يعيش فيه.

وبحثت كثيراً عن الهتافات عبر العصور القديمة، ولكن لم تصلنا أخبار الهتافات الثورية أثناء تلك العصور البعيدة، ولم يدون المؤرخون هتافات الثورات عبر التاريخ؛ ولكن تحمل كتب السابقين بعض الكلمات التي تنبيء على أن هناك كانت هتافات ثورية قصيرة ومسجوعة وذات شطرين أيضاً، وإن لم يذكر الكاتب ذلك بل ذكر كم من التعبيرات التي تنتهج نفس نهج الهتافات ولكن بأسلوب لغوي فصيح، فنجد الثعالبي: (عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي) المتوفى سنة 429هجرية، يقول في كتابه (سحر البلاغة وسر البراعة) تحت باب: في ذكر الظلم وسوء آثارهم على العباد والبلاد، يقول ما يشبه الهتافات الثورية المسجوعة القصيرة المعبرة ذات الوزن الموسيقي، والتي تحذر الظالم من ظلمه ، يقول:

ظلم صريح، وجور فسيح، واعتداء قبيح.
رعية مدفوعون إلى فقد الرياش، وضيق المعاش.
أداهم الغلاء إلى البلاء، والبلاء إلى الجلاء
وصارت الخصاصة فوضى بين العامة والخاصة
بلاد معالم الحق فيها درست، وألسنة العدل بينها خرست
الأموال مجتاحة، والديار مستباحة

فالاهتمام الأول لمؤلف الهتاف الثوري هو السجع ثم السلاسة في النطق، مع وجود نوع من الموسيقى السماعي، دون اللجوء إلى الاكتمال الوزني العروضي، ومن ثم التعبير عن موقف والنداء بمطلب شعبي كل ذلك في جملة قصيرة لا تتعدى عشر كلمات، بل قد تكون الجملة الهتافية كلمة واحدة موجزة يكررها الشعب، أو تكتب فوق اللافتات ، مثل كلمة (ارحل) فهي تحمل ما يريده المواطن من المسئول بتعبير مفهوم في رسالة تلغرافية موجزة ومعبرة لا تحمل الكثير من الألفاظ والكلمات حتى لا تشوش على عقل المتلقي أو السامع أو المندي بها، وليفهمها المسئول بسرعة البرق.

الهتافات لا تتعدى عشر كلمات

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى