الأحد ١٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
قصة قصيرة للأسير المحرر : رأفت حمدونة
بقلم رأفت حمدونة

الجوع ولا الركوع

لا تنتهي عنجهية الاحتلال عند أى حد، بل تبدأ من جديد مع رجال المقاومة المعتقلين في سجونهم فالسجن بلا تعريف، معترك عنيف، كقارب في بحر هائج بلا تجريف! في السجون.. يجاهد الأسرى بقلة الإمكان لتحقيق الكرامة والحياة الممكنة.. نزفت دماؤهم وتكسرت عظامهم وذهبت الأرطال من لحم أجسادهم تضحية لتمكين الهواء من الدخول من بين تراكم أثقال الحديد على فوهات زنازينهم واختراق أشعة الشمس لمواصلة حياتهم وتأمين لقمة العيش القليلة ليس حباً في الحياة بل قهراً لأعدائهم وإبقاء الأمل للقاء أحبابهم.

مرت الأيام ببطء على الأسير الفلسطينى (خالد) في سجنه، وأعلن الأسرى إضرابهم المفتوح عن الطعام في كل القلاع.. بدأت الإدارة باستخدام أوراقها لتقويض الإضراب وكسر إرادة الأسرى في معركة الجوع، فقامت بعزل قيادة الأسرى في زنازين انفرادية وقامت بإعادة توزيع للباقين بين الغرف والسجون. أدخلت إدارة السجن نشرة مطبوعة تخذيلية للغرف بتوقيع الطاقم الطبي في مصلحة السجون. أمر (خالد) بوقف توزيعها على الأسرى وبدأ يقرأها: حتماً اعلموا أن الإضراب سيضركم وليس بوسعكم إلا الخسارة ونؤكد أن لا فائدة لإصراركم هذا فإن جميع الامتيازات التي حصلتم عليها كالتلفزيونات ، استقبال الزوار ، فترة الزيارة ، زيارة الأقرباء للممنوعين من الزيارة قد ألغيت.

العشرات من الأسرى تناولوا الطعام ثانية لأنهم استوعبوا الضرر الذي قد يلحق بجسدهم.

إنكم تأخذون على عاتقكم، وعلى صحتكم مسئولية كبيرة من لم يتوقف عن الإضراب فمن الممكن أن يصاب بـ: التهاب رئوي، حم عالي وحالة هذيان، إسهال شديد، أوجاع قوية في البطن، ضعف واكتئاب شديد من شأنه أن يؤدي إلى ارتكاب أعمال غير متزنة ضد أصدقائكم في الخلية، تساقط الشعر من أعضاء الجسم، التوقف عن التبول وإصابة الكلاوي.
كل المؤشرات التي ذكرناها أعلاه قد تتطور بسرعة وتؤدي إلى انهيار الأجهزة وعندها يستعصى توفير العلاج للجسم. ولهذا السبب نوصيكم بالتوقف عن الإضراب عن الطعام وعلى أية حال سنمنحكم العلاج الطبي اللازم من أجل إنقاذ حياتكم بالإضافة لذلك إذا لم تتعاونوا مع الطاقم الطبي وترفضوا العلاج الذي سيعرضونه عليكم فإننا معافون من تحمل أية مسئولية أو ضرر قد يصيب أجسامكم بعد الإضراب اعلموا أن مَنْ تراهنون عليهم في الخارج لنصرتكم يهتمون أكثر لمسابقات الأغاني في الفضائيات والمسابقات الفنية.

انتهى (خالد) من قراءة المنشور فسأل محمود:

 ماذا تحمل هذه النشرة؟

أجابه (خالد) وهو يمزقها على عين الشرطي:

 وماذا تتوقع يا (محمود)، كلام إحباط وتخذيل.. الأصل لا يهم وعلينا تمزيقه.

علمت إدارة السجن وضباطها أن الأسرى مصرون على المواصلة وعليها أن تتخذ إجراءات أكثر حدة وتأثيرًا.

مرت ثلاثة أيام على معركة الجوع دون أية حالة تراجع وبدأ الطاقم الطبي بفحوصات الضغط والنبض والوزن.

 الله يعطيك العافية يا (محمود).. شد حيلك.

 الله يعافيك يا (خالد).. المعنويات كالجبال والصحة حديد يا صديقي فلا تقلق.

خرجت المظاهرات الشعبية وتضامن الأهالي مع أبنائهم في كل مدن وقرى فلسطين وخارجها، وأعلن عشرات الأهالي والأسرى المحررين والمتضامنين الإضراب المفتوح عن الطعام وأقيمت خيام الاعتصام في مراكز المدن.

تأثرت دولة الاحتلال من ضجة الإعلام ومظاهرات التضامن وتدخل الصليب الأحمر والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان على استحياء لحق القضية فأوحت الحكومة بمزيد من الضغط على الأسرى لكسر إضرابهم وعقد وزير الشرطة مؤتمرًا صحفيًا قال فيه:

 لن نتفاوض مع مخربين ولو ماتوا واحدًا تلو الآخر، ولن تستقبل المستشفيات مريضاً واحداً إثر الإضراب.

لم يؤثر التصريح قيد أنملة على معنويات الأسرى وإرادتهم بل زادهم تحديًا وصبرًا وعزيمة على التواصل.

حضرت قوات من الشرطة مدججة بالمعدات وأخرجت الأسرى من غرفهم وقامت بتفتيشهم تفتيشاً عارياً وأخرجتهم في ساحة النزهة (الفورة)، وأمر مدير السجن السجانين بإخراج كل شيء من الغرف.. صادروا كل الأدوات الكهربائية التلفاز والمذياع وسحبوا السجائر والملح والألعاب كالشطرنج والدومنو والنرد والكتب وأبقوا فقط على الفرشة والوسادة والغطاء وبعض الملابس.

انتهى التفتيش وعاد الأسرى إلى غرفهم بالمزيد من الإصرار والتحدي والعزيمة.

قلقت (أم خالد) على ابنها ولم تفوت أي فرصة تضامن معه بالاعتصامات أمام الصليب الأحمر والمسيرات وصلت لله ودعت له بالصبر والنصر مرت عشرة أيام على الأسرى بجوعهم ومع كل يوم كانت تزداد وتيرة التضامن الجماهيري والتركيز الإعلامي.

سأل (خالد) صديقه محمود:

 أي الطعام كنت لا تحب؟

 لا أكره شيئًا خارج السجن وبداخله معظم الطعام سيئ
وأسوأه الزربيحة.

 والآن بعد عشرة أيام؟

ابتسم محمود وقال:

 الآن أعتذر للزربيحة وأعد أنني سأصلح خطأي معها وسآكلها بنهم وقبول.

ضحك مجموع الأسرى وسأل أبو العبد (خالد):

 هل توقعت يوماً أن لا تأكل عشرة أيام؟

ابتسم (خالد) وأجاب:

 كم يا (أبا العبد) توترت علاقتي بأمي على تأخير ساعة أو ساعتين عن ميعاد الوجبة، وهذا ما يجعلني أتذكر معاناتها وهي تفكر بحالي الآن قياساً بما كنت.

تأوه (أبو العبد) وقال:

 نسأل الله النصر لنا والصبر لهم.

أعلن (باسل) الإضراب المفتوح عن الطعام في الخارج تضامناً مع صديقه، وخرجت أخته (تهاني) مع (أم خالد) و(مروة) خطيبته في المسيرات وهي تحمل صورة مكبرة لـ(خالد) وفاءً لوقفته معها وزوجها.
شعرت إدارة مصلحة السجون بالهزيمة أمام عزيمة الأسرى وصلابتهم فأمرت الشرطة بوضع غرفة للمدنيين في منتصف كل قسم وشيّ اللحوم فيه ومنع الخروج للنزهة وفرض تناول الحليب لأي مريض تسوء صحته.

ساءت حالة الأسرى في اليوم الخامس عشر من الإضراب وامتنع المرضى من تناول الحليب في العيادة رغم إغرائهم بوضع أشهى الطعام على الطاولة أمام الطبيب أثناء فحصهم، وحضر طاقم رفيع المستوى من مصلحة السجون للتفاوض مع الأسرى على مطالبهم بعد فقد الأمل من كسر معنويات الأسرى والإضراب.

طلبت إدارة السجن لجنة الحوار البديلة لممثلي الأسرى من كل الفصائل.

قال مسئول المنطقة للسجون:

 إضرابكم لن ينجح وعليكم بفك الإضراب قبل كسره وإعادتكم سنوات للخلف وأعدكم بتقديم الكثير من المنجزات بعد فك الإضراب.
أجابه (خالد):

 مطالبنا عادلة تتعلق بقضايا إنسانية مجردة فنحن لا نطالب بالإفراج عنا وإنما بتحسين ظروفنا المعيشية من تقديم العلاج الطبي للمرضى وتحسين ظروف الزيارات وإدخال الأطفال والتعليم الجامعي وتحسين الطعام كماً ونوعاً وإدخال الهواء للغرف وذلك برفع الكتل الحديدية الزائدة عليها وقضايا خاصة بكل سجين.

 أعيد وأكرر لن نخضع للضغوط فتناولوا طعامكم وأعد بفحص مطالبكم وتحقيق بعضها.

قال (خالد):

 ليس لدينا أي جديد وهذه آخر مقابلة معنا ونفضل الحوار بينكم وبين لجنة الحوار المعزولة.

انتهت المقابلة بلا نتيجة وقام ممثلي لجنة الحوار البديلة بإنزال تعميم وطني على الأسرى يفهمهم بمجريات الجلسة ، كانت تجربة استشهاد الأسرى السابقة كحلاوة والجعفري ومراغة تؤكد على قناعة الأسرى بعدالة قضيتهم ومطالبهم ونذير شؤم على إدارة مصلحة السجون خوفاً من اندلاع انتفاضة للأسرى فأجبرت على التفاوض مع الأسرى لإنهاء الأزمة التي تفاقمت وامتدت على طول الوطن. رفضت لجنة الحوار البديلة الخروج لاجتماع مع قيادة مصلحة السجون مما اضطر الإدارة لإعادة لجنة الحوار من الزنازين الانفرادية.

دامت المفاوضات ست ساعات متتالية تم خلالها توثيق الاتفاق لمطالب الأسرى التي تحققت بعضها بتوفيق الله ثم بصمود وصبر وعزيمة الأسرى فحافظوا على كرامتهم وارتقوا بمكانتهم وحسنوا ظروفهم في كل القضايا الحياتية والمادية، ارتاحت (أم خالد) بنصر الأسرى على سجانيهم وكبروا في أعين شعبهم الذي لم يخذلهم


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى