الحاسّة السّابعة
لم أكن أعلم أنني سأفقد ابنا وحيدا بانتقالي إلى بيتي الجديد، فلو علمتُ لما نزحتُ!
كانت قد وصلتني رسالة من المالك تؤذن لي الإقامة مقابل إيجار باهظ الثمن، مبلغ ضخم بالنسبة للإمتيازات التي يتمتع بها هذا البيت الجميل، المكوّن من طابقين، في حيّ هادىء. أمكنني الخروج يوميا لزيارة الحدائق وبحيرات البجع المجاورة.
– هذا ما نريده يا أماه، لقد أحببتُ هذا البيت والمنطقة خلابة وجميلة وأنتِ تعشقين الطبيعة والهدوء.
قال لي ابني حينها.
لن أعذر القدر الغادر، ولم أكلّ ولن أملّ من البحث عن سبب وفاته. أدركتُ في أعماقي أن للمكان علاقة وثيقة لموته!
تقبلّت المصاب الأليم بهدوء واتزان، فكرت كثيرا وقررتُ البحث عن المجرمين الذين كانوا خلف الحوادث المتكررة التي حصلت لنا بعد استقرارنا في الحي.
كان أحد الجيران يتتبع خطواتنا من بعيد، يراقبنا ويحاول التقرب الينا، لم أسمح إلا بتبادل التحية السريعة ورسم ابتسامة مموهة خفيفة على وجهي.
وماذا بعد؟
شعرتُ ببعض التغييرات غير المعهودة في أحوال ابني الصحية.
فقدَ شهيته، أصرّ الخروج يوميا، ومرات عديدة، من البيت دون أذني أو تعريفي بالمكان الذي كان يقصده بغيابي.
شعرتُ بالقلق، لاحظتُ أمرا خفيا بتصرفاته، لكنه هو نفسه لم يدرك الحاصل، سألتهُ :
– هل تشعر أنكَ تفقد الشهية؟ وأنكَ تمرح في الطرقات دون سبب مقنع، لا تهمك الأحوال الجوية، حتى أنكَ تضطر الخروج أحيانا في منتصف الليل، قل لي أين كنتَ البارحة؟
–
– لقد تجولتُ في الحدائق المحيطة بنا، كيف للمرء إهمال كل هذا الجمال الذي يحيطنا، بربكِ يا أماه، هل تستطيعين مقاومة هذه الروعة؟
–
– أنا التي أسألكَ، أين كنتَ البارحة، لقد خرجت وعدتَ متغير الأحوال؟
أصررتُ على زيارة الأماكن التي زارها، كنتُ كالمخبر، أدقق، ألاحظ الصغيرة والكبيرة، أحاول اكتشاف المكان بجميع حذافيره، أيقنتُ أن للمكان علاقة وثيقة، وهامة في تدهور صحته، لكني وللأسف لم أرَ أي شىء مختلف، أو أي شىء يحفزني على معرفة السبب.
توالت الأيام، وصحته أصبحت في حالة بائسة، لم أستطع السكوت على الوضع، بدأت بتقليب أفكاري داخل رأسي، أردتُ عمل أي شىء كي أعلم سبب انهياره. اخذته الى طبيب العائلة، قال لي ناهرا:
– لا أرى ما ترينه، لا شىء !
–
– متأكدة أنه يعاني من شىء لا أعرف كنهه.
–
– تتكلمين وكأنكِ طبيبة، هل أنتِ الطبيبة أم أنا؟
–
– لا، بل أمّ !
ظهرت نتائج الفحوص التي أجريت له سلبية، انكشف الأمر وبدأ البحث الطبي يأخذ مجراه الصحيح، علمتُ أنه في مأزق لا يحسد عليه، حصل وأدمن على شمّ المخدرات دون أن يدري...
توالت الأيام سريعة، أدخل الى مصح خاص للفطام، وكان أمل الشفاء من الإدمان كبيرا، حددّ له المركز زمنا معينا من أجل اجتياز تمارين رياضية وفعاليات داعمة على شكل دورات إرشادية، تعليمية وتطبيقية.
كان سعيدا بكل هذا، لأنه أراد التخلص من هذه الآفة التي استطاعت تغيير حياته الى الأسوأ، فقد شعر انه يتقدم نحو الموت وأراد الحياة. دأب على اجتياز الاختبارات من أجل الخروج، فالزمان المحدد لانتهاء دورة الفطام كان قد حدّد منذ البداية.
كان مسرورا بنجاحه وتصميمه من أجل التخلص من المخدر الذي سرى في دماغه، والذي سبب في تخلخل جهازه التنفسي والعصبي.
لكن، وفي موعد الخروج !
لم يصل البيت، تأخر... كثيرا، خابرت المصح، أكدوا خروجه قبل ساعات، لم يصل الى البيت...
لم يرد له المجرمون الحياة، لقد حاولوا تخديره مرّة أخرى، نجحوا، ونجحوا كذلك في قتله، بعد ذلك والنيل منه.
عاد متأخرا، كان مسرورا جدا في ذلك اليوم، ترنح وضحك، صخب وصرخ، تمايل وشرب الكثير من الماء، وضع فمه في أنبوب الماء وأخذ يشرب كأنه لم يعهد الماء منذ ولادته.
أصيب بعد ذلك بحالة تشنج خطيرة، تمرغ أرضا، كاد يمزّق نفسه، صاح واستدار على ركبتيه، صاح وهوى أرضا، قام ثم هوى، حاول الاستقامة، لم يفلح، ودون أن يدري أخذ يضرب صدره بقبضة يده ضربا عنيفا، ضرب ناحية القلب، شعر بآلام مبرحة في قلبه، ثم هوى أرضا دون حراك...
وهكذا بدأت دوامة فقدان ولد وحيد عزيز،
لم يرأف بي الحزن، استبد بي القدر استبدادا عنيفا، أخذ مني كل ما أملك!
لكن،
لم أستطع الاستسلام، لم أدع الأمور تتجه نحو الطيّ، فالذي حدث يجب أن يُبحث به، وليس كما نصحني به أحد محققي الشرطة:
– انسي الأمر، فقد كان ابنكِ مدمنا، وها هي النتائج...
لم أنسَ الأمر، فقد بدأت في رحلة البحث الطويلة من حيث انتهت حياة وحيدي، خططتُ لمعرفة السبب وأردت كشف النقاب عن الأشخاص الذين كانوا وراء كل ما حصل، بدأتُ أعدّ العدة، أستجمعت التفاصيل الصغيرة والمملة منها، أعدتُ مذكرة وبدأت أكتب داخلها الملاحظات، وقررتُ أن أبدأ بنفسي.
وضعتُ خطة أبطالها أنا، بطلة وحيدة، رسمتُ لي طريقا ربما تؤدي بي الى اكتشاف الحقيقة أو الانتحار من أجلها.
تقمصت الدور الذي قام به ابني قبل وفاته، حللتُ مكانه بجسده وروحه، وقمتُ بتدوين، ربط، تحليل ومحاولة ايجاد العلاقة لكل عملية أقوم بها يوميا في الدقيقة والساعة، ودونتُ النتائج:
استيقظت في الساعة (كذا)...فركتُ أسناني بمعجون... (كذا)اغتسلت بصابون (كذا)...تنشفتُ بمنشفة نظيفة، أخرجتها من خزانة الحمام، المنشفة غسلت بمسحوق غسيل (كذا)، شربتُ حليبا مع قهوة(كذا)، تناولت قطعة من الخبز مع زبدة(كذا)، تاريخ نفاذ مفعولها (كذا) ومربى(كذا).
لم أملّ من التدوين، فقد أجّلتُ كل التزاماتي من أجل هذه المهمة. أكملتُ :
خرجتُ من البيت الساعة( كذا)، كان الشارع خاليا من المارة، مرّت سيارة ما، بيضاء اللون وتحمل الرقم (كذا)، وأخرى حمراء، تحمل رقم (كذا)...وأخرى...حتى وصلتُ الباب الحديدي للحديقة العامة، لم أتوقف فقد استمررتُ حيث كنا أنا وهو معا في السابق، سرتُ في السبيل المعبد واستمررتُ بالبحث، كان هناك اعدادا متفرقة من السياح الذين أتوا للاستجمام. كم كانت زقزقة الطيور جميلة يومها، فقد كان ربيعيا والسماء صافية. كم تمنيتُ أن أسأل الطيور عن السبب، راقبتها وهي تحلّق وتصفق بأجنحتها مسرورة، راقبتها من بعيد، واحدة تلو الأخرى، وقفتُ مكاني وبدأتُ أحصيها، لا مجال للاحصاء، لقد أحسستُ بالسخافة حينها، هزأتُ من نفسي، خجلتُ وأخذتُ أتتبع عيون الغرباء، أردتُ أن أكون أكيدة من أنهم لم يلحظوا هفوتي وألا لنعتوني بالجنون أو الخرف.
اعتصرني الألم، كلّمتُ نفسي وأنا جالسة في مقعد ما تحت شجرة (كذا)، أحسستُ انه لا جدوى من البحث، على ماذا أبحث في هذا المكان الهادىء الجميل؟ سألتُ نفسي، لماذا أنا هنا، ولماذا اختاره ابني قبل وفاته لتكون نهاية هفواته الأخيرة، ما هو الشىء الخاص في هذه الحديقة بالذات، والمدينة غارقة بالحدائق المليئة بالطيور على جميع أشكالها وأنواعها، ثم بماذا تفيدني كل هذه الطيور، أيعقل أن تكون قد قذفت له المخدر كي تخدره وتدعه يدمن حتى الموت!
يا للسخرية، طيور تخدر انسانا، يا للفضيحة التي أنا بصددها !
قررتُ العودة، عدتُ أدراجي نحو البوابة الحديدية، عادة، تترك مفتوحة طوال أيام السنة، تساءلتُ عن سبب وجودها طالما ستترك مفتوحة، "، لماذا لا تغلق ليلا على الأقل"؟ عذبني التساؤل !
أيقنتُ أن البوابة المفتوحة هي احدى أسباب فقدانه، لو كانت مغلقة لما تجرأ المجرمون الاتجار بالمواد المخدره في الحديقة ليلا ! قررتُ الذهاب الى قسم الشكاوى في البلدية لفتح مذكرة خاصة بالموضوع.
أسرعتُ بالخطوات وكأني بذلك وجدتُ سببا ما يوصلني الى الحقيقة، أو أملا بسيطا ربما يقودني الى دليل ما.
لم أستطع تخطي وردة جورية متفتحة جميلة، غرست على جانب الطريق، دون التمتع برائحتها. وضعت أنفي داخلها وأخذتُ باشتمامها، بحثتُ عن الرائحة، لم أجدها، شممتُ مرة أخرى، لم أفلح بالتقاط الرائحة الذكية، جربتُ مرة أخرى، أحاول بذلك الاكتفاء من رياحينها التي لم تنبعث في الأجواء. اعتقدتُني خسرت حاسة الشم بسبب تأخر سنوات عمري، مع أني كنتُ أتمتع سابقا بحاسة شم رائعة. لم أعلّق على الموضوع واستمريتُ في طريقي نحو مكاتب البلدية في الشارع المقابل.
وجدتُ نفسي في البيت، لا أذكر كيف دخلتُ، وكيف قمتُ بادارة المفتاح بالباب، لم أذكر هذه التفاصيل الصغيرة، مع أني أتمتع بذاكرة حادة! اعتقدتُ أن يكون السبب عقلي المغمور بتفاصيل كثيرة، ولأن العملية نفسها روتينية وتلقائية.
لم يشغلني الأمر كثيرا، ما شغلني هو مرور أحدهم بجانب البيت ولم أستطع تذكره،" يا الهي، كيف دعيته يمرّ دون أن أحفظ شكله" ! شعرتُ بالندم الشديد لهذا الموقف وقررتُ مراقبة جميع الأشخاص الذين يمرون في المكان.
وهكذا كان،
أطفأتُ الكهرباء، أسدلتُ جميع الستائر في الطابق العلوي للبيت، وتركتُ الستائر مفتوحة في الطابق السفلي، وحتى أني تعمّدتُ ترك البوابة الخشبية الصغيرة في مدخل الحديقة مفتوحة، وكأني أستدعي الجانحون الدخول الى صدر بيتي.
جلستُ خلف احدى النوافذ التي كانت تطل على الحيّ بأكمله، ثقبتُ ثقبا صغيرا، بحجم عيني، وعلى مسافة أستطيع فيها تتبع الأحداث وأنا جالسة. تذكرتُ وقتها جارة فضولية قديمة، سكنت الحي، كانت تفعل ما أفعله الآن بالذات، كنتُ صغيرة حينها، تملكتني الدهشة لسلوك جارتنا الغريب،التي كنتُ أمقتها ولم أمرّ من أمام بيتها دون أن أطلق لساني كالصاروخ لها متعمدة، "يا الهي، لقد أصبحتُ مثلها الآن" !
امتلأ سجل الملاحظات دون تقدّم ملحوظ في جمع المعلومات، لم أيأس، بل قرّرت الاستمرار. أخذتُ استذكر بعض الأحاديث التي حصلت بيني وبين ابني سابقا، أتوقف عند الأسماء، الشخصيات، الأماكن والأحداث التي كان يذكرها، أحللها،انتقدها وأحاول خلق علاقة ربط بينها وبين الجريمة، وفي الوقت نفسه كنتُ أعبر ذات الطريق المؤدي الى الحديقة العامة، بل كانت قدماي اللتان تقوداني الى هناك !
ها أنذا أمسكُ بطرف الخيط الآن، نعم، لقد رأيته مجددا، انه ذات الجار الذي يثابر متعمدا على القاء التحية، أجهل اسمه، لكني سأسميه حال معرفتي له،( جار صاحب الابتسامة الصفراء)، لقد مرّ ببطء مشوب بالحذر، دون ابتسام، تفقد المكان واستمر في طريقه، تتبعته من خلف الستارة، ركّزت نظري عليه كي أتأكد من شخصيته، تأكدت، لكني خسرت كثيرا عندما لم أفكر في تصويره، وكيف سيصدقني رجال الشرطة !
في اليوم التالي،
جهّزت آلة التصوير، تركتها في حضني وأنا أنتظر، انتظرتُ كثيرا ولم يمرّ، تعبتُ من الإنتظار وقررتُ القيام بذات الرحلة اليومية التي بدأت تأخذ حيزا كبيرا من تفكيري، أحسستُ أنني لن أستطع الافلات منها، مهما كانت الظروف ومهما كانت حالة الطقس سيئة.
لكن،
ما أن وطأت قدماي أرض الشارع، إذ بالجار (صاحب الابتسامة الصفراء) يقترب مني ويوجه لي التحية! رددتُ عليه بالمثل، ارتعشتُ، فقد فاجأني وجوده بالمكان وكان قريبا جدا مني، كان كمن ينتظر خروجي من البيت. قفز قلبي من مكانه، لم أستطع تمالك نفسي، ارتعدت أطرافي وأحسستُ بدوار مفاجيء، أنّبتُ ضميري كثيرا لأني لم أؤجل خروجي للحظات كي يتسنى لي التقاط صورة له من خلف الستارة!
سبقني الى الحديقة بخطواته الواسعة، استطعتُ جمع معلومات كثيرة عنه، طويل، نحيف، بشرته داكنة، شعره (كذا). لون بنطاله (كذا)، لون قميصه (كذا)، حذاءه (كذا) الخ.
لم أجده داخل الحديقة، بحثتُ عنه كثيرا من بين الزوار الجدد، تحت الأشجار، بجانب جداول المياه، لم يطعم البط في بركها، كان كمن يكون شبحا، يظهر فجأة ويختفي فجأة.
وكعادتي عند العودة، عرجت الى باقات الورود، حيث وردتي الخاصة، قرّبتُ الوردة الزهرية، كانت على مستوى وجهي ومن السهولة الوصول اليها، أخذت عدّة شمات من زهرة الجوري التي أحب، شممتُ واستنشقتُ منها الكثير "يا الهي، كم هي جميلة هذه الوردة، ما زالت تحتفظ بنضارتها، لكنها فاقدة الرائحة، عجيب "!
توالت الأيام وأنا أنقّب، أراقب، أبحث وأتجول في الحديقة، لم يكن لديّ أدنى شك من أنني سأطلع على السرّ، وثقتُ بحاستي السادسة التي كانت دائما تقودني الى المكان الذي أصبح فيما بعد دليلا قاطعا !
استطعتُ التقاط عدّة صور للجار الذي كان يظهر فجأة ويختفي تاركا لي الشكوك، الظنون والهلوسات، سلّمتُ الصور الى الشرطة التي اهتمت هذه المرّة بالموضوع، حال رؤيتها الصور، شجعني الضابط على الكلام، فسألني :
– كيف شككتِ بهذا الرجل بالذات؟
– حاستي قادتني اليه!
– لا أفهم (قال بلهجة حازمة) !
– ما الذي تريد أن تفهمه يا سيدي الضابط؟
– كيف شككتِ بهذا المجرم الخطير، إننا نبحث عليه.
علمتُ أن الرجل مطلوبا للعدالة وأنه مروّج مخدرات، بقي عليّ معرفة كيف استطاع استدراج ابني وابتلائه بهذا البلاء الذي أودى بحياته.
لم أخشَ منه، بل تشجعتُ أكثر لمعرفة الحقيقة، فكرتُ مليا بالخطوة التي ستأتي بعد ذلكَ، وخططتُ أن أخرج خلفه في المرة القادمة عند مروره أمام البيت وتتبعه حيث يذهب، لكن خطواته أوسع وأسرع من خطواتي، لا أستطيع، عدت للتفكير مرة أخرى، هاتفتُ الضابط طالبة مساعدته، قال:
– أرجو ترك الموضوع لنا، لا تتصرفي وحدكِ، إني أحذركِ !
لم أحتمل كلامه، ولم يعد بمقدوري الصبر، ولا أستطيع الانتظار، أردتُ أن أصل للفاعل بأقصى سرعة كانت. استغرقتُ في التفكير مجددا، أصابني صداع لا يحتمل، شعرتُ بالتقيوء، دارت بي الجدران، فقدتُ توازني وداهمتني نوبة اختناق.
أول شىء فعلته هو الخروج من البيت متوجهة الى الحديقة، تركت الباب مفتوحا وأسرعتُ. كانت الحديقة خالية تماما من الزوار، لاح من بين الأشجار الشخص مجهول الاسم، بضحكته الصفراوية، أيقنتُ تماما أنه كان بانتظاري !
لم أرتح إلا عندما شممتُ الزهرة الموعودة، الجميلة جدا، التي كانت خالية تماما من أي أريج.
لم أستسلم للمخدر الذي كان يضعه لي الجار المبتسم قاصدا، بل وجدتُ الدليل الذي كنتُ أبحث عنهُ " يا الهي، لقد عرفتُ أخيرا السبب والطريقة، الله يخرب بيتك يا جاري السىء، ذا الابتسامة الصفراء، سأتمكن منكَ، سأقتلك كما قتلتَ ولدي..."
اشتد اصراري في توقيعه، حدّثت نفسي الهائمة، السابحة، الضائعة، الراضية، الحزينة :
" لقد اقترب موعد الانتقام، لن تفلت مني هذه المرّة، سأقتلكَ انتقاما".
ابتسمتُ له ابتسامة عالية، حيّاني متفاخرا، حييتهُ أيضا معتدّة، تحولت إبتسامته الى ضحكة، ضحكتُ له بالمثل، حاولت إخفاء ظنوني، اتسعت ضحكته الخادعة، خدعتهُ بضحكتي وأسبلتُ له عيني الناعستين اغراء، وأحاول حجب الدموع التي احتبست داخلها. قهقه وقهقهتُ مثله، ارتفع صوتهُ عاليا حتى أن الطيور انتفضت وطارت خوفا، بادلتهُ الضحكة وكأني بذلك أشكره على البودرة التي وضعها لي داخل الوردةّ الجورية الحمراء !
تحادثنا، أراد أن يتقرب منيّ وأن يدعني أثق به، أوهمته بالقبول، سرّ لغبائي ! أراد استدراجي وأردتُ أنا أيضا استدراجه بحكمة دون أن أترك أدنى شكّ داخله يدعه يرتعد مني. سألني :
– أين تقيمين؟
– في هذه الضاحية.
– وحيدة؟
– نعم.
– لكني رأيتُك سابقا مع أحدهم؟
– نعم، ابني رحمه الله.
– آسف جدا، لكنه شاب وقوي.
– نعم، لكن نوبة قلبية أصابته فجأة.
– وما سبب ذلك؟
– لم أدرِ، فقد كان يشكو سابقا من قلبه، بل بالأحرى ولد مريضا بالقلب. (كذبتُ عليه كي يستمر بالحديث).
أحسّ بالراحة، تنهد وغاب داخل أفكاره، يستجمع أسئلة أخرى كي يتقرب مني أكثر، وتركته يعتقد أن سبب الوفاة كانت ربّانية وليس المخدر، هكذا أضمن أنا أيضا سلامة نفسي منه.
أسرعت الى بيتي، كنت أسمع دقات قلبي السريعة الهائجة، تمنيتُ لو أستطيع حملها بيدي وأغزو الطريق القصير بثوانٍِ، أردتُ أن أحاسب المجرم على فعلته قبل أن يسبقني ويحاسبني هو على اكتشافي لنواياه السيئة، طويتُ المسافة بين قدميّ اللتين أصبحتا قويتين فجأة، لا أعلم إن كان سبب قوتهما معرفتي للحقيقة، أم شعور النشوة التي تمتعتُ به بعد استنشاقي للمخدّر.
جلستُ ودوّنتُ كل شىء مرّ عليّ اليوم بالذات، من بداية الشعور بالغثيان وحتى نهاية القصة، الوردة الحمراء في الطرف الأيمن للطريق المؤدي الى (كذا)، من مجموعة الورود المنتصبة، وعددها (كذا)، هي الشتلة الثانية من بين الشتلات التي عددهن (كذا)، بقرب شجرة (كذا)، فوقها مصباح كهربائي شكله (كذا)، خلفها نبتة (كذا)، وخلف النبتة (كذا) بحيرة البجع، وعلى يمينها (كذا) و(كذا) و(كذا). حتى أحسستُ أن حياتي تحولت الى مئات (الكذا)...
وضعتُ المدوّنة في ظرف أبيض كبير وخبأته داخل وسادتي، ألقيتُ برأسي الثقيل، المريض، والمثقل بالأحزان على المذكرة، أفكر بأني لن أنجو من يد غادرة سوف تغتالني وأنا نائمة، لم أخف الموت بقدر ما خشيتُ من اكتشاف الظرف المخبأ تحت رأسي، وتمنيتُ في دواخلي، إن لم يكتب لي عمر، ألا تلطخ فتندثر الحقيقة السامة بدمائي !
اعترفتُ للضابط المحقق بكل شىء وسلمته المذكرة بالتفاصيل (كذا) المملة.
لكن نفسي الغاضبة التائهة، لم تهدأ، فقد كان التحدي قويا والإصرار الذي ما يزال داخلي بدأ يكشف عن حقيقة خفية كنتُ أجهلها،ألا وهي حبّي للانتقام، انتقام بأسلوب، طعم ورائحة مغايرة، وما أصعب أن تنتقم أمّ لأبنائها...