الثلاثاء ٧ تموز (يوليو) ٢٠١٥
بقلم علي القاسمي

الخوف

خلَّفتُ صخبَ المدينة وأدرانَها ورائي وأتيتُ أنشدُ رحابةَ البحر وصفاءَه. فقد شعرتُ، عصر ذلك اليوم، وأنا أجوب شوارعها باحثاً عن عمل، بأنّ طرقاتها قد ضاقتْ، وأخذتْ بناياتها الشاهقة تُطبِق عليَّ من الجانبيْن. وأحسستُ بصعوبةٍ في التنفُّس وبشيءٍ ما في صدري، يسبّب لي أَلَماً مُمضّاً ينضاف إلى صداعي. اشرأَبَّ عنقي مُلتمساَ نسمة هواء ، وامتدَّ نظري إلى الأعلى متوخّياً زرقة السماء، فلم ألمح إلا العمارات العالية، وهي تقترب بعضها من بعض، حتّى تكاد تلتقي مثل جانبي هرم شامخ. حاولتُ أن أتنفَّس عميقاً فتعسَّر عليَّ الأمر وتعذَّر، كما لو أنّ الهواء أمسى مادَّةً صلبةً ثقيلةً، لا يتَّسع لمرورها أنفي.

وقفتُ على قارعة الطريق، وأَجلْتُ بصري، فتبدَّتْ لي الدُّور تدور حولي، والأرض تمور تحت قدميّ. وسرعان ما أخذتْ حبّاتُ العَرق تتحدَّر على جبيني، ثمَّ تجتاح جسدي المحموم كلَّه. تلفّتُ حولي، فلم أَرَ في الشارع إلا سيّارات تتلاحق مسرعةً، وهي تُطلِق أبواقها المدوِّية، وتنفث دخاناً أسود من مخلَّفات وقودها. وتراءى لعيني ذلك الدخان، وهو يرتفع في الفضاء، فيلتقي دخاناً أسود آخر، تلفظه مداخن المصانع، ليتجمّعا في شكل غمامةٍ كبيرةٍ تخيِّم على المدينة برمَّتها، واضعةً حدّاً لحركة الهواء، وحاجبةً نور الشمس عن الأزقة اللزجة. وألفيتُ نفسي، بعد برهة، خارجاً من المدينة، مارّاً بشوارعها الخلفيّة العارية من الأشجار، وأحيائها التعيسة ذات المواخير القذرة السريّة، والروائح الكريهة المنبعثة من أكوام القمامة وفضلات الكلاب الضالة والأليفة، وأنا أُسرع الخطى مهرولاً صوب البحر.

جلستُ على ربوةٍ عاليةٍ تتوسّط حقلاً من الحقول المُطلّة على البحر. ورحت أنقّل بصري من خضرة الوهاد المحيطة بي، إلى زرقة ماء البحر المترامي حتّى الأفق، حيث انتشرت أشلاء الشمس الغاربة، وهي ترحل إلى عالم آخر، تشيّعها بعض الغيوم الداكنة. وراح فكري يتأمّل أحوال المدينة، وتتردّد فيه حكايات والدي وذكرياته عنها، عندما كانت، إبّان طفولته، امتداداً لتلك الحقول المُزهرة والبساتين النضرة، لا يُسمَع فيها إلا تغريد الطيور ومزامير الرعاة. غير أنّ معاول التوسُّع الكاسح، اغتالت أشجارها، واجتثّت جذور نباتاتها من الأعماق بلا رحمة، فتلاشت الخضرة، واختفتِ العصافير، ولم تعُد الغيوم تسحُّ أمطارها فوقها، وإنّما تمرُّ مسرعةً ولا تتوقَّف عندها.

لم يكُن ثمّة ما يعكّر صفو ذلك المساء، فالنسيم رائق، والبحر ساجٍ، وأمواجه تنساب برقَّةٍ، لترتمي في أحضان رمال الشاطئ الناعمة. فراح بصري يتنزَّه في الأثير اللاحب، ويستحمُّ بارتياحٍ في زرقة الماء. وبتواطؤٍ مع البحر، سَرَتْ في أعماقي رويداً رويداً، أمواجٌ من الارتياح والهدوء، تتناغم مع هديره الخافت، ولفَّني المساءُ بنسماته المُنعِشات وآنستني غيماته العابرات، فشعرتُ شيئاً فشيئاً بالانتعاش، وغادرني دُواري.

في ذلك الفضاء المتَّسع الخالي، وأنا وحيدٌ على ربوتي العالية، النائية عن المدينة، المرتفعة عن البحر، الغارقة في سكون المساء، لا أدري أيَّ إحساس غريب جعلني أَفزُّ وأدير رأسي بتوجُّسٍ إلى الخلف، مثلما يفزع جوادُ ويصهل وهو على بُعد عشرات الأميال من هَزَّةٍ أرضيةٍ داهمة. حدّقتُ في الفراغ. رسوم بنايات المدينة ما زالت قائمة، وإن بهتت ألوانها بفعل تحولات ضوء النهار، وضجيج مصانعها قد أَتت عليه المسافةُ الفاصلة بيني وبينها، وما عُدْتُ أتبيَّن على البعد سوى دُخانها المتصاعد دوماً. بيد أنّي أبصرتُ أربعةَ رجالٍ قادمين من المدينةِ يحثُّون السير في اتّجاه البحر. ظننتُهم أوَّلَ وهلةٍ خارجين في نزهةٍ على الشاطئ، فقد كان أوَّلهم يضع يديه وراءه. وبلا إرادة مني شُدَّت أهدابي إليهم، وتعقّبهم بصري بتلقائيَّة. وكلّما اقتربوا لاحت لي هيئتُهم متّضحة أكثر فأكثر. فتبيَّنتُ أنَّ الرجل الذي يسير في المقدِّمة، يرتدي ملابس مدنيّة ويداه مقيَّدتان إلى الخلف، والثلاثة الآخرون يحيطون به وهم يلبسون زيّاً موحَّداً خاكي اللون. ولفتَ انتباهي أنّ قامة الرجل المقيَّد اليديْن تميل إلى الخلف، وهو يسير بصورةٍ متقطّعةٍ، كأنَّ الثلاثة الآخرين يدفعونه دفعاً، ويرغمونه على مواصلة السير.

كانت وجوه هؤلاء حادّة التقاطيع، مُتسمّرة مُتصلِّبة إلى الأمام في اتِّجاه البحر؛ أمَّا الرجل الأوَّل الموثوق اليديْن، فقد كان يتلفَّتُ يمنةً ويسرةٌ، كما لو كان يبحث عن شخصٍ أو شيءٍ ما. وهكذا بانتْ لي أساريرُ وجهه: جبهةٌ ناصعةٌ، وعينان تشعّان نوراً، وملامح لم ينَلْ من طلاوتها العَنَتُ، ولم يحجب روعتَها المصابُ. وجهٌ مشرقٌ محبوب. وقلتُ في نفسي: هذا وجهٌ أعرفه، هذا وجهٌ ألفتُه منذ طفولتي، ولكنّي في تلك اللحظة لم أستطِع أن أتذكَّر اسمه. كنتُ ألقاه في القرية حيث نشأتُ، وأصادفه في المدرسة حيث تعلَّمتُ، وأشاهده في المدينة حيث اشتغلتُ. ولكنّي لم أَعُد أتذكَّر اسمه. كان وجهه الحنون يستهويني في صغري وما زلت أهواه في كبري، فوجهه قريبٌ من قلبي، حبيبٌ إلى روحي، له طعم التمر، وعذوبة الماء الفرات، وطالما حدّثت أطفالي عنه، فأحبّوه كما أحببته. ولكنّي لا أذكر اسمه. أسعفيني يا ذاكرتي المرهقة! انجديني باسم الرجل الأسير! ولكن، بعد أن أخفقتُ في تذكُّر اسمه، قلتُ في نفسي: "ليس المهم هو الاسم بل المُسمّى، وليس الأصل هو اللفظ بل الذات. ليَكُن اسمه ما يكون، فالرجل ذاته في محنةٍ اليوم". وظلّ سؤالٌ محيِّر يجلدني: "لماذا يقيّدون يدَي هذا الرجل؟ وإلى أين يقتادونه، يا تُرى؟"

وبعد هنيهةٍ، دنوا من الشاطئ وخاضت أرجلهم في الماء، وتقدَّموا خطواتٍ، ثمَّ أوقفوه أمامهم. حدّقوا في وجهه، والحقد ينقدح من عيونهم الخُزْر. وضعَ أحدهم يديه بعُنفٍ على فكَي الرجل، مُرغِما إياه على فتح فمه.وسحب الثاني شيئاً لم أتبينه من الفم الفاغر، واستلَّ الثالث خنجراً، فقطع ذلك الشيء ورمى به في الماء. ورأيتُ بعينيّ خيطاً أحمرَ يمتدُّ من بقعة الماء تلك حتّى الأفق، ليلتحم بأشلاء الشمس المبعثرة هناك، ويرتفع إلى عنان السماء كنافورةِ دم. ثمَّ أخذ الرجال الثلاثة يطأطئون رأسَ الرجل الأسير، دافعين به إلى الماء، في محاولةٍ ظاهرةٍ لإغراقه. أمّا هو، فقد كان يقاوم بصلابةٍ، رافعاً رأسه بين الفينة والفينة إلى السماء وإلى الخلف. وفي أثناء ذلك وقع نظره عليّ من بعيد، أو هكذا خُيّل إليّ. خُيّل إليّ أنَّ عينَيْه تستنجدان بي، تحثّانني على أنْ أتحرَّك، أنْ أصرخ في وجوههم، أنْ أفعل شيئاً، أنْ أنادي على الفلاحين في الحقول القريبة، أن أستغيث بالعمال في مصانع المدينة، أن أفعل أيَّ شيءٍ لإنقاذه، لا بدافع الشفقة عليه، بل بما يحتِّمه عليّ الواجب الإنسانيّ، وما يمليه حبُّه عليَّ. بَيدَ أنّي بقيتُ جامداً في مكاني. فقد أخذ الخوف يتسرَّب إلى مسام جلدي ويتخلَّلها، فأشعرُ بارتعاشةٍ تسري في بدني، وتدبُّ منه إلى أوردتي وشراييني، فتسُود برودةٌ لاسعةٌ فيها، ويتجمَّد الدمُّ بداخلها، ويتصبَّب العرق من جبيني المحموم. لقد شلَّني الرعب المنبعث من نصالِ خناجرهم المسلولة، وأقعدني الخوف كسيحاً بلا حراك، فلم أعد أشعر بساقيّ. وانتابني الذهول وأنا غارق في طُوفان من الهواجس والوساوس. فكّرتُ في أنْ أجري نحوهم، أنْ أهجم عليهم، ولكنَّني لم أتحرَّك قطّ : لم أرفع رأسي، ولم أفتح فمي، ولم أمدّ يدي، ولم أحرّك قدمي. فقد خطر في مخيَّلتي أنَّ إقدامي على شيءٍ من ذلك، سيودي بحياتي حتماً، وأعود ـ إن عُدْتُ ـ هذا المساء إلى أطفالي محمولاً على نعشٍ بدلاً من أن أًحمل إليهم بشارةَ حصولي على عمل. سأُمسي كَمَن خرج في البادية يصطاد طعاماً لأهله الذين يتضوّرون جوعاً فاصطاده الأسد. وبشيءٍ من المرارة والخجل، اعترفتُ في دخيلتي أنَّني لست قتاليّاً بطبعي. وأطلّتْ عليّ من كوى ذاكرتي المظلمة المنسية، صورتي في طفولتي ورفاقي التلاميذ يتبارون ويتصارعون، في حين كنت انتحي جانباً لأقرأ في كتاب.
إذن سأغضُّ طرفي، سأشيح بوجهي عن البحر، سأتظاهرُ بأنّني لم أَرَ شيئاً، سأقنع نفسي بأنّ ما شاهدته لا يعدو أن يكون ضرباً من الهلوسة أو نوعاً من زوغان البصر. ولكن ماذا سأروي لأبنائي بعد اليوم؟ هل أقول لهم إنّني فضَّلتُ سلامة العودة إليهم على المغامرة بحياتي من أجل إنقاذ مَن أحببتُه وأحبّوه، وما زلتُ أُحبّه ويحبّونه؟ هل أستطيع أن أُسوِّغ أمامهم تخاذلي وجبني؟ وحتّى إنْ أخفيتُ الحادث عنهم وغلَّفته بالصمت والكتمان، فهل يعني ذلك أنَّ ما وقع لم يقع؟ ليس في مقدورنا مسخ الحقائق بأفواهنا أو تحويرها بأقلامنا. حتّى إنْ لم يطَّلع امرؤ على خسَّتي وهزيمتي، فإنّني سأعيش رجلاً منكسراً في داخلي، مثل نخلة أصابت جذعَها طعنةُ فأسٍ قاصمة. سيلاحقني مشهدُ ذلك الرجل الأسير كظلّي، حيثما حللتُ وأنّى توجَّهتُ. سيؤرِّقني ضعفي وجبني، ولن أنسجم بعد اليوم مع ذاتي التي ستتآكل من الداخل وتنهار. إنّني بهزيمتي هذه سأنسف ما بقي من قناطر تصلني بنفسي، وسأدمِّر ما ظلّ من جسور تربطني مع أبناء بلدتي، ممَّن يثقون بي، ويشاركونني حبَّ ذلك الرجل.

وقلتُ في نفسي: "ما دمتُ أحبُّ هذا الرجل فلا بدَّ أن أفعل شيئاً لنجدته. يجب أن أتحرَّك الآن، قبل أن يبتروا أطرافه، ويقطّعوا أوصاله، ويقضوا عليه". ولكن… بدلاً من أن أتقدَّم إلى الأمام، وجدتُني مرتجفاً أجرُّ رجليَّ الكسيحتيْن إلى الوراء مبتعداً. وغاب عني وأنا في دوّامة الخوف أنَّني، أنا الآخر، أقترفُ جريمةً موصوفةً، جريمةَ الامتناعِ عن تقديم المساعدة إلى إنسانٍ يتعرَّض للخطر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى