الثلاثاء ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠
بقلم كفاح الزهاوي

الرسالة التي كشفت ظلّ امرأتي

لم يصادفه من قبل شتاءً قاس وشديد مثل هذا الشتاء. يغلف البياض معالم المدينة. حدث هذا في اليوم السابع من شهر يناير عام 2007، بعد انتهاء احتفالات راس السنة بفترة قصيرة. انهمرت الثلوج بكثافة حتى الفجر، والطقس بارد.

دقت الساعة السادسة صباحا. كان يمشي في الممر الضيق الذي يؤدي إلى الباب الخارجي، ادخل بطاقته في الجهاز الالكتروني المثبت على الحائط، الذي يفضي الى فناء الشركة لتسجيل ساعة خروجه.

الثلوج المتراكمة على سيارته الواقفة عند موقف السيارات المخصص أمام الشركة، قد اخفى جسد السيارة ولونها الازرق الغامق.

بعد انتهائه من عمله ليلًا الذي يبدأ... من العاشرة مساءً حتى الساعة السادسة صباحا، عاد إلى البيت منهكًا. دخل الى الدار بعد ان اغلق الباب خلفه بحذر كي لا يقلق العائلة. كان ابنه دانيال البالغ من العمر اثنتي عشرة سنة وابنته ماريا ست سنوات يغطون في النوم. ولم ينتبه الى زوجته التي كانت تشارك ماريا غرفتها، بعد ان أصاب علاقتهما في الاونة الاخيرة بعض الجفاء والفتور.

طفقت سماء العلاقة الزرقاء تستحوذ عليها غيوم داكنة حتى انطفأ رويدا رويدا بريقها. تدهورت العلاقة بينهما بعد ولادة ماريا بستة أشهر وتفاقمت مع تقادم الزمن. زوجته أخذت تبحث عن المبررات من أجل تعكير صفوة العلاقة بينهما حتى وصلت الى الذروة. اولى بوادر الانهيار كانت، عندما تظاهرت بانها تعاني من الارق وقلة النوم، بسبب شخير زوجها المستمر اثناء النوم، الامر الذي دفعها الى نقل فراشها الى غرفة المعيشة في الطابق العلوي. ولم تدم مبيتها هناك طويلا، حتى انتقلت بعد يومين الى غرفة ماريا في الطابق الأرضي.

احيانا كثيرة أثارت تصرفاتها الشكوك من تكرار جلوسها غير المعتاد مع الأطفال. فهي لم تجرب قط الاهتمام بهم، وكانت تتجاهل دورها كأم. كانت تجلس مع الأطفال وتدردش معهم وتهمس في اذنهم. وقد اضحت حياتهم من جراء ذلك مشوشا. وما ان يفاجئها وهي تكلم الاولاد، حتى يجتاح الارتباك قسمات وجهها، وكانما تخطط لارتكاب جريمة.

كان يقول لها:

 ما بك وكأنك قد ارتكبت إثما.

تبقى صامتة كصمت الاموات، وهذا ما يعزز الشكوك حول سلوكها الخفي.

دخل الى غرفة النوم في الطابق العلوي و غط في نوم عميق. استيقظ على رنين الهاتف، وكانت الساعة الحادية عشرة وأربعين دقيقة قبل الظهر، مضى مسرعا الى مصدر الصوت ورفع السماعة. سمع صوت امرأة تقول :

 مرحبا.

 مرحبا.

 هل يمكنني التحدث إلى مادلين.

 هي في العمل الان.

 انا مديرتها، هي لم تأت الى العمل اليوم.

وبينما كان يتحدث الى مديرتها عبر الهاتف اختلس نظرة سريعة من نافذة المطبخ مندهشا، حيث لاحظ اختفاء السيارة، شعر بألم، وكان على وشك ان يبكي. وعبر عن قلقه بسبب الصقيع الذي يغطي سطح الأسفلت أشبه بالزجاج ، لان زوجته كانت غير ماهرة في قيادة السيارة، وقال:

 ربما تعرضت لحادث مروري وهي تقود السيارة في طريقها الى العمل، بسبب الصقيع ونقلت على اثرها الى المستشفى، فهي تعودت ان تستقل الحافلة بدلا من قيادة السيارة في مثل هذه الأجواء.

قالت:

 لا تقلق وتأكد من الموضوع ثم اتصل بيّ على هذا الرقم. بعد ان أبلغته عن رقم تلفونها.

بعد ان وضع سماعة الهاتف اتجه نحو المطبخ و القلق يساوره. وفجأة التقطت حدقاته ورقة على طاولة الطعام. كانت رسالة قصيرة قد تركتها زوجته قبل ان تغادر البيت. قرأ مضمونها:

(انا اخذت الاطفال الى جهة مجهولة، ان أردت معرفة الأسباب، عليك الاتصال بالجهات الحكومية التابعة لحماية الأطفال، حاول الاتصال بالباحثة الاجتماعية وهذا رقم تلفونها المذكور أدناه.)

ما أن انتهى من قراءة الرسالة حتى أصابه شلل فكري، وقف جامدا في مكانه، جاحظ العينين، ثقيل الرأس.

رفع الهاتف واتصل بمديرتها في العمل وأبلغها بحقيقة الأمر وعن سبب اختفائها.

حاول عدة مرات الحصول على الباحثة الاجتماعية المذكور اسمها في الورقة دون أية نتيجة. كان في حالة من الترقب والتفكير في كنف هذا الصمت الفاحش.

وفي الساعة الثانية ظهراً، رن جرس الهاتف وإذا بصوت نسائي يتسلل الى اذنه. بعد ان قامت بالتعريف عن نفسها. وكان نفس الاسم المذكور في الرسالة. قالت أن زوجته والأطفال في حمايتهم.

قال الزوج :

 هل هم في خطر؟. ومن يهددهم؟ .

أجابت بنبرة كالواثق من الأمر :

 عندما يشعر الإنسان بخطر معين ويبلغ السلطات لاسباب تمس حياته، من واجبنا ان نحمي هذا الشخص.

رد بشكل هاديء:

 ولكن لم اسمع ان احدا قام بتهديد اولادي. واذا يوجد شيء من هذا القبيل انا مضطر ان اطلب الحماية من البوليس. واعتبر تصرف زوجتي عملية اختطاف لاولادي.

قالت:

 رجاءً لا تفعل ذلك، وانما نحاول التحقيق في الأمر ومن ثم نقوم باستدعائك أيضا. إلى ذلك الحين لا عليك سوى الانتظار.

أيقن في سره يقينا راسخًا لا ريب فيه، انها خططت للأمر بتفاصيله في غفلة منه سعيا منها ان تنتقم دون أن تأخذ بنظر الاعتبار ما قد يترتب من آثار نفسية على الأولاد. لم يفهم أسباب انتقامها. كان في اكثر الأوقات بمثابة الأب والأم معاً. ما الذي يدفعها إلى الانتقام؟. أسئلة كثيرة كانت تسبح في اروقة فكره.

خرج إلى فناء الدار. رشقت الريح الثلوج المتراكمة على شجرة الأرز فتناثرت على وجهه. عاد إلى الداخل متجهما.

توغل في صمت الجسد وسكونه، هذا الجسد المتماسك الذي طالما كان جسرًا لهم للعبور الى ضفة المستقبل. اخذت المشاعر تحترق في منفى الرمال وتفتت القلب وتطفئ نور التواصل. انتابه شعور، بأن الزمن قد توقف عن الدوران وصار الحلم في قاع الظلام.

وفي الليل أصابه أرق، فقد الإحساس بالواقع احساس بقسوة ووطأة الصمت، هذا الصمت الناجم من غياب الأطفال. هل هذا فعلًا حلم عبثي؟. راحت الأفكار المتضاربة تتماوج في رأسه المصدوع.

شعر بعضلاته مشدودة و مفاصله جامدة وبالم قاس يخترق أوصاله. جلس متكئا بظهره على الحائط، وعيناه تحدقان في الصورة المعلقة على الحائط لولديه دانيال وماريا. أجهش بالبكاء كبائس فقد كل الأمل في الحياة. مرت عليه الليالي وكأنه في بحر الظلمات. هذه الغمة المفاجئة التي حلت بالزوج، دفعت به إلى التفكير مليا ان يكون أكثر يقظة وأشد صرامةً.

فجأة انتبه شعور بالوحدة القاتلة. كان يوما عصيبا، حيث رياح باردة قد هبت على شرفات عزلته. وسيل من لسعات البرد تجول على طول الجسد كصعقة كهربائية، صراخ ثقيل يكتنف صدره ويحبس أنفاسه. شعر ان لا معنى للزمن، حتى الحياة أصبحت الخرقة الوسخة تمسح بك الارض و تطعنك بسكين الغدر حالما يغفل المرء عنها للحظة.

راحت الأفكار تتغلغل في صميمية الشقاء، انقض عليه احساس بالإحباط، وكأنه مطوق بملايين الصفحات المعتمة، بينما تسهو زوجته في هذه اللحظات في الخارج مغرورة بفعلها غير المدروس وهي تتأرجح على شفا حفرة من الهدم والنسيان.

حاول ان يركز وعيه على نقطة واحدة وهي ان لا يفقد زمام السيطرة . قليل من الهدوء لكي يستعد لتركيز أكثر صعوبة . الان عليه ان يبعد عن نفسه المشاعر والحنين بعد ان قضت مادلين عليهما بغبطة اللامبالاة وأن لا يتمادى في قراراته. لم يستطع ان يخفي حقيقة معاناته. التعب والوهن جعله غافل الذهن، لم يكن لديه متسع من الوقت ليستدرك الموقف ويفوت الفرصة عليها في غفلة منه.

انهمرت من عينيه الدموع بصمت، والأسى العميق المرسوم على وجهه المضطرب، لتنبثق عنهما جداول من الاهات، كلما طفحت في ذاكرته تلك الأيام وهو يمنح العائلة جل حياته من اجل ان تعبق برائحة الربيع العذبة في سهل طموحاتهم.

وبعد عشرة أيام وهو يعيش في عزلة عن عائلته، اتصل دانيال بوالده عبر هاتف الجوال الخاص بوالدته معبرا عن اشتياقه، طالبا ان يلتقي به، تشاجر دانيال مع الموظفين التابعين الى دائرة الرعاية الاجتماعية، بعد ان أصابته حالة من الهستيريا وقام ببعثرة أثاث الشقة السرية، واثارة الفوضى، مما أجبرت السلطات على اتاحة الفرصة لهم ان يلتقوا بوالدهم. انفجر الأب بالبكاء حال سماع صوت ابنه.

وفي اليوم التالي التقى الأب بأولاده وزوجته في أحد المطاعم على بعد عشرة كيلومترات من مدينتهم، وهو يحمل في خلجانه اكاليل من الشوق والبهجة. لم يكن يتوقع ان يكون يوما قاتما، فاجأته أولى ضربات البرق حين أطبقت سيول الظلام على أجواء اللقاء. في لجة ذلك الظلام انقض عليه إحساس بالإحباط. وإذا به يصطدم بجدار التفاؤل وهو يتلقى ضربة موجعة تحطم سارية الامل، وتغرق زورق العائلة، بعد ان عرت مادلين نفسها وكشفت عن الدوافع الحقيقية الكامنة وراء تصرفاتها المهينة التي لا رجعة فيها. علاوة على ذلك لقنت الأطفال في ترديد الأكاذيب ضد والدهم للإيقاع به لرصيدها الخاص. وبهذا وضعت لمساتها الأخيرة على تلك العلاقة التي لم يصدق يوما ان تنتهي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى