الرّثاء في الشعر العربي القدیم واتجاهاته
بقلم: محمد شرفبیاني (طالب الدکتوراة في فرع اللغة العربیة وآدابها بجامعة آزاد الإسلامیة فرع علوم وتحقیقات طهران)
– الأستاذالمشرف: الدکتورفیروز حریرجي
– الأستاذالمساعد: الدکتورالسید إبراهیم دیباجي
التمهید :
الرِّثاء لُغةً البُکاءُ علی المَیِّتِ ومَدحُهُ ، یُقالُ : رَثَی فُلانٌ فُلاناً یَرثِیه رَثیاً ومَرثیةً ، إذابَکاه بَعدَمَوتِه.فَإِن مَدَحَهُ بَعدَمَوتِه قِیل: رَثّاه یُرَثّیه ترثیةً.ورَثَیتُ المیّت رثیاً ورثاءً ومرثاةً ومرثیةً، ورثیته: مدحته بعدالموت وبکیته.
ورَثَوتُ المیّتَ أیضاً، إذابکیته وعَدَّدت مَحاسنََه، وکذلک إذانَظَمت فیه شعراً،و رَثأت الرجلَ رثاءًبالهمزة لغة،بمعنی رَثَیتُ ورَثوتُ [1]
وأمّامعناه في الإصطلاح ،فیقول قدامة بن جعفر: لیس بین المَراثي والنّعتِ فرقٌ إلّا أن یذکرفي اللفظ ما یَدلّ علی أنّه لِهالکٍ مثلُ «کَانَ وتولّی وقَضَی وما أشبه ذلک»، وهذالیس یَزیدُ في المعنی ولاینقص منه. وقدیُسَلَکُ في التأبین مَسلَکٌ آخَرُیَدلُّ علی الرَّثاء، کَأَن یُقال: ذهب الجودُ، أومَن للجودبعده؟وماأشبه ذلک [2]
ولماالرّثاءُ في الأصل ناشئاً مِن الحُزن والأسف، أضاف ابنُ رشیق علی تفسیرالقُدامی للرّثاء، وقال: وسبیل الرّثاءأن یکون ظاهرَ التفجُّعِ بَیِّنَ الحَسرَة،مخلوطاً بالتّلهّف والأسف والاستعظامِ. [3]
وهناک کلمتان کثیراًماتُستعملان في معنی الرّثاء فَیَبدو أنّه لافرقَ بینهما، فهاتانِ الکلمتان هما النّدبُ والتّأبین .فهذا"قُدامة"کماسبق آنفاً استعمل التأبین في معنی الرّثاء.لکن إذاأمعَنّا النَّظَرَفي معناهما وجدنا اختلافاًیسیراً بینهما.فالتأبینُ هوالثّناءُعلی الشّخص بعدموته،والنّدب بکاءُالمیت وتعدّدمحاسنه، والرّثاء أعمّ منهما.
الرّثاء واتّجاهاته:
لم أرَ بین النّاقدین وأهل الأدب مَن خالف قدامةَ بن جعفرفي فنّ الرّثاء أو تَرَدَّدَ فیه، وجَدیرٌبأن لایکون هناک خلافٌ أو شکًّ ، ذلک أنّ الإنسان مُنذُماعاش علی هذه الکرة الأرضیة عَرَفَ مسألة الموت،وواجَه هذه المشکلة التي عجزعن حلّها.مَن الذي لَم یُفجّع یوماًبفقد أعزّائه، ومَن الذي لَم یندب علی موت أقربائه،ولَم یتذکّرأیّامهم وأعمالهم؟ الرّثاءنَفثَةُ مصدورٍ یتوسّلُ إلیهالِتُخَفّف جُروحَه وآلامَه،وشرارةُ قلبٍ محترق عندماتشتعل نارُه.
کان الرّثاء في الأصل جاریاًمع صدق العاطفة ونابعاً مِن الانفعال القويّ اللذَینِ غذّتهاالهموم والأحزان ونَمّتهاالقلوب الدّامیة،لأنّه مازال یمشي مع المُفجّعین ویصوّرأیّامهم الکئیبة،یخرج من القلب فیدخل فیه.
مَن الّذي قرأ أبیات فاطمة بنت الأحجَم في الرّثاء ولم یتأثّربها؛حیثُ تقول: [4]
یاعینُ بکّي عندَکلّ صَباحٍجُودي بأربَعَةٍ عَلی الجرّاحِقدکُنتَ لِي جبلاً ألوذُ بهِفتَرَکتَني أضحی بِأجرَدَضاحِقدکُنتُ ذا حَمیَةٍ ماعِشتَ لِيأمشي البَرازَوکُنتَ أنتَ جَناحِيفالیومَ أخضَعُ للذّلیل وأتّقيمِنه وأدفَعُ ظالمي بالرّاحوَإذا دَعَت قُمریّةٌ شَجَناً لَهایوماً علی فَنَنٍ،دَعَوتُ صَباحيوَ أغُضّ من بصري وأعلم أنّهقد بَانَ حدّ فَوارِسي و رِماحي
فلمّاانتقل الرّثاء إلی غیرالمفجّعین وأُخِذَوسیلةً للتّظاهربالمساهمة والمُشارَکة في المصیبة ومِن ورائها للتّقرُّب والنّفوذعندأقرِباءالمیّت،ظهرفیه التکلُّف والصنعة والغُلُّووالمبالَغة الباردة.
دلک شأن الرّثاء من حیثُ العاطفة،وأمّامن ناحیة المعنی فکان من عادة القُدماء أن یضربوا الأمثال في المراثي بالمُلوک الأعزّة،والأمَما السّالفة،والوُعول الممتنعة في قُلَل الجبال،والأُسُودالخادِرَة في الغیاض،وکلّ ذلک في القُدرة والهَیمَنة والبُعدمن المَهالک.لکنّ المُحدَثین لم یلتزموابها،فتارةً سلکوهاوأُخری ترکوها [5].
کلّمامضی علی الرّثاءزمانٌ وخرجت الحیاة الاجتماعیة مِن بَساطتهاإلی غموضهاوتعقُّدها،وظَهَرت روابط وعلائق جدیدة،وأخصبت العُقول والتّجاربُ البشریّة واتّسعت دائرةُ الفُنون الأدبیّة وآفاقها،تَلوَّنَ الرّثاءُبهاوتأثّرَبآثارها،فنهج مناهج مختلفة واتّجه اتجاهاتٍ متنوعة.منها:
– ألف ـ الجمع بین التّعزیة والتهنئة في موضع:
قالوالَمّا مَاتَ معاویة ُبن ابي سفیان اجتمع الناس بباب یزیدولم یقدرأحدٌعلی الجمع بین التعزیة والتهنئة،حتّی أتی عبدالله بن همّام السّلولي فدخل،فقال: یاأمیرالمُؤمنین آجرک الله علی الرزیّة وبارَک لک في العَطیّة،وأعانک علی الرّعیّة،فقدرُزِئتَ عظیماً،وأُعطِیتَ جسیماً،فاشکرالله علی ماأُعطِیتَ،واصبرعلی مارُزِئتَ،فقدفَقَدتَ خلیفة... وأُعطیتَ خلافة... ففارقتَ جلیلاً،ووُهبتَ جزیلاً؛إذقَضی معاویة نَحبَه ووُلّیتَ الرِّئاسةَ وأُعطیتَ السّیایة،فَأورده...مواردالسرورو وفّقَک لصالح الأمور.
فاصبِریزیدُ فَقَدفارَقتَ ذاثِقةٍواشکُرحِباءَالّذي بالمُلک أصفاکلا رُزءَ أصبحَ في الأقوامِ نعلمهکمارُزِئتَ،لاعُقبی کعُقباکأصبَحتَ والي أمرالناس کلّهمفأنتَ ترعاهم و...یَرعاکاوفي معاویة الباقي لناخلفإذا بقیتَ،ولانَسمَع بمَنعاکا [6]
فنری الرّثاءجری مجری جدیداً ساقه إلیه أدیبٌ ألمعيًّ قد أتقَن فیه وأبدعَ ،لکن لیس هناک مایدلُّناعلی صدق عاطفته،علی کلّ حال للکلام قیمته الأدبیة ومتعته الفنّیة.
– ب ـ ظهورالرّثاء السّیاسي:
وذلک أنّه لمّاتشعّبت الدّولة الإسلامیة إلی أحزاب مختلفة ودارت الحروب والقتال بینهم ذهب شُعَراءکلّ حزب یبکون قتلاهم ویُثیرون الحُزن والشَّجی علیهم،ویُنزِلون الویلات علی قاتلیهم.حینمانَشَبت الحَربُ بین الأُمویین والخوارج،وقُتِل من الفریقَین ناسٌ،رَثی أبوثعلبة أیّوب بن خُوليّ قَتلی الأُمویین،منهم هُدبة الیَشکُري،وأبوشُبیل مقاتل بن شیبان فقال: [7]
فیاهُدبَ لِلهیَجاء،ویاهُدبَ لِلنَّدیویاهُدبَ لِلخَصمِ الأَلدِّ یُحارِبُهوکان أبوشَیبانَ خیرَمُقاتِلیُرَجّی،ویَخشی بأسَه مَن یُحارِبُهفَفازَولاقَی ...بالخَیرِکُلِّهوخَرَّمه بالسَّیف في...ضَارِبُه
ورثی حسّانُ بنُ جَعدة قتلی الخوارج بأبیاتٍ مِنها:
یاعَینِ أذرِي دُموعاًمِنکِ تَسجاما
وابکي صحابَةَ بِسطام وبسطاما
فَلَن تَرَی أبداًـ ماعِشتَ ـ مِثلَهمُ
أَتقَی وأَکمَل في الأحلامِ أحلامَا
إنِّي لَأَعلمُ أن قَدأُنزِلُواغُرَفَاً
مِن الجِنانِ ونالُوا ثَمَّ خُدَّاما
وجدیرٌبالذِّکرهاهنا أَنَّ رَثاءالفَریقَینِ مِن ناحیة الأُسلُوب حَذَاحَذوَالرَّثاءالجاهلي،ولکنَّه مِن ناحیة المعنی تَأَثَّرتَأَثُّراًشدیداًبِمُقوِّماتٍ إسلامیّةٍ تَنافُساًعلیها لِتَوجیه مَنَاهجهم السِّیاسیّةِ.
- ج ـ رَثاءالرَّجُلِ لِامرأَتِه:
کان العرب یأنَفون مِن رثاءالرّجل لِامرأته ویعدّونه ضعفاًلِلرجُل وحَطّاًمِن کرامته،ومِن جانِبٍ آخَرلَم یُقدَّرللنساءمنزلة ممتازة أوذات أهمیّة ولم یعترفوابها،فلایرون لََهُنَّ فضائلَ کثیرةًوصفاتٍ نبیلةً،لکنّ الإسلام قاومَ هذه الفکرة وقام بالدفاع عن حقوقِهنَّ وکرامتِهِنَّ.
فرثاءالرجل لامرأته قلیلٌ جِدَّاًفي الشِّعرالعربي القدیم ونکادأن نحکم علیه بتعسّروجوده،لَعَلَّ أوّل قصیدةٍ طویلةٍ في هذاالنوع ترجع إلی جریربن عطیّة(116للهجرة)الشاعرالأُمويّ،فهولَمّاماتت زوجته ـأُمّ حزرة ـ وخَلَّفت أَولاداًصغاراً،وکان الشاعرُکبیرَالسّن،هاجَت أَحاسیسُه وغَلَت عواطُفه ولم یَملک نَفسَه حتّی أنشَدَقصیدَةً جمیلةً في رثاءزوجته،وأَعرَبَ فیهاعن مَدی حُزنِه وتأَلُّمه علی فراقهاوترکهابنیها الصٍّغَارِ،ثُمَّ أثنی علیهاثَناءً فائقاًومدحَهامدحاً رائعاً،نترک القصیدةَ هاهنا خوفاً مِن التطویل ونکتفي بأبیاتٍ، إذ في القُلّ مایُغني عن الکُثرِ.قال: [8]
لولاالحَیَاءُ لَعَادَني استِعبارُوَ لَزُرتُ قَبرَکِ،والحَبیبُ یُزَارُولَقَدنَظَرتُ،وماتَمَتُّعُ نَظرَةٍفي اللَّحدحِینَ تَمَکَّنَ المِحفارُ؟وَلَّهتِ قَلبي إذعَلَتني کَبرَةٌوذَوُوالتَّمائِم مِن بَنیکِ صِغارُنِعمَ القَرینُ،وکُنتِ عِلقَ مِضِنَّةٍواری بِنَعفِ بُلیَّةَ الأَحجارُعَمِرَت مُکرَّمةَالمَساکِ وفارَقَتمامسَّهاصَلَفٌ ولا إقتَارُکانت مُکَرَّمةَالعَشیرِولم یَکنیَخشی غوائِل أُمّ حَزرَة جارُولَقَد أَراکِ کُسیتِ أَجمَلَ مَنظَرٍومَعَ الجَمالِ سکینَةٌ و وَقارُوَالرِّیحُ طَیِّبَةٌ إذااستَقبَلتَهاوالعِرضُ لادَنِسٌ ولاخَوَّارُوإذا سَرَیتُ رأَیتُ نارَکِ نَوَّرَتوَجهاً أَغَرَّیَزینُه الإسفَارُصَلّی الملائِکَةُ الّذین تُخُیِّرواوالصّالِحُونَ عَلیکِ والأبرارُکان الخَلیطُ هم الخَلیط فَأَصبَحُوامُتَبَدِّلینَ،وَ بالدِّیاردِیارُلایَلبَثُ القُرَناءُ أن یَتَفَرَّقُوالَیلٌ یَکرُّعَلَیهمُ ونَهارُ
والشاعر وإن کان في لَحظَةٍ مُؤلمةٍ وجدنفسَه بحاجة إلی أن یَتَنفّس عن زفراتها،وفي حَالة حَرِجَةٍ تستدعي مِنه الانطلاق وراء الشُّعوروالإحساس والعاطفة مهمابَعُدمَداها،إلاّ أنَّه لم یَنسَ الظُروف التي عاشَ فیها،فهویَخاف مِن اللُّوّام ویَستحي مِن تکرارالبُکاء وزیارة قبرامرأته المَحبوبة،فیَعتذرإلیهاویَشکو لَدیهافي مطلع قصیدته.
– د ـ إخراج الرّثاء مَخرَج الفُکاهة:
یعني هذا النَّوع مِن الرّثاء لایکون منبعثاً من الحُزن والأسف،ولایُریدالأدیبُ أن یتظاهربمساهمته في المصیبة،بل الغرض السُّخریة والدُّعابة،وذلک کقول إسحاق الموصلي یرثي ـ هُشیمة ـ الخمّارة جارتها: [9]
أضحَت هُشیمَة في القُبُورِمُقیمَةًوخَلَت مَنازِلُهامِنَ الفتیانِکانت إذاهجَرالمُحِبُّ حَبیبَهدَبَّت له في السِّرّ والإعلانِحتّی یَلِینَ لِما تُریدُ قیادَهویَصیرُسَیّئهُ إلی الإحسانِ
– ه ـ خُروجُ الرّثاء مِن دائرة الأشخاص:
وهذا اتّجاه آخرمِن اتّجاهات الرّثاء ؛یعني الرثاء یخرج من دائرة الأشخاص إلی البُکاءعلی بعض المواهب المَفقودة کالشَّباب،أوعلی بعض مایستأنس به الإنسانُ مِثل الحیوانات وأدواتِ الحرب والمدن.
یُوجَدفي دیوان ابن الرّومي أشعارٌکثیرةٌ یبکي فیهاالشاعرُعلی شبابه ویُثني علی أیّامه النضِرات،وإلیک هذه الأبیات: [10]
عاصی العَزاء عَن الشَّبا بِ،فطاوع الدَّمع الغَزیرُکیف العَزاء عَنِ الشَّبا بِ،وغُصنُه الغُصنُ النَّضیرُکیف العَزاءُ عَنِ الشَّبا بِ،وعیشُه العَیشُ الغَریرُبان الشَّبابُ وکان لِي نِعمَ المُجاوِرُ و العَشیرُبان الشَّبابُ فلا یَدٌ نَحوي ولا عَینٌ تُشیرُولَقَد أسَرتُ بِهِ القُلو بَ،فقَلبي ـ الیوم ـ الأسیرُسَقیاً لأیّامٍ مَضَت وَطَویلُها عندي قَصیرُ
حُسنُ الرَّثاء وعُیوبُه:
مِمّالاشکّ فیه أنّ الرَّثاءَالحَسَن ما کان منبعثاً مِن القلب الدّامي ومِن َالعاطفة الصادقة،واستطاع الرّاثي أن یُصوّرأحزانَه ویَتنفّس عمّایُحسُ في الصَدرمِن آلامه،ویُجَسِّدالمصیبةکماهویلمسه،ویضع المَرثيَّ مکانَه اللائق به،ویُشرِک الحُزن،ویُسیطِرُعلی عواطفهم وأحاسیسهم.
ذَکرالنُّقادُ أنَّه أفضل المراثي ماخُلِطَ فیه المدحَ بالتّفَجُّع علی الموتی،فإذاوقع ذلک بکلام صحیح،ولهجة مُعربة،فهوالغایة مِن کلام المَخلوقین.قالت الخنساء: [11]
فلَولا کَثرةُ الباکینَ حَولي
علی إخوانهم لَقَتلتُ نَفسي
ومایَبکونَ مِثلَ أخي ولکن
أُسلّي النَّفسَ عَنهُ بالتّأسّي
یُذَکِّرُني طلوع الشَّمسِ صَخراً
وأذکُره لِکُلِّ غُروبِ شَمسِ
وأنّه من حُسنها أن تُبدَأَ بمایُعرِبُ عن عجزالإنسان وفشله أمام مَسألة المَوت،ویحکي عن تحیُّره في مواجهته ودفعه مُعترِفاً بأنّ سعیَه لایَردُّ راحلاً،کماأنّ بُکاءَه لایصرف ذاهباً،وما أحسَنَ قولَ ابن الرّومي یَرثی ابنَه ویقول: [12]
بُکاؤکما یَشفي وإن کان لایُجدي
فَجُودافَقَدأودی نظیرُکما عندی
أوتُبدَأَ بمایَدلُّ علی عظمة الحادثة وشدّة وَقعهاخلیطاً بالمَدح والثَناء،ولِهذایَصِفُ ابن رشیق ابتداء رثاء أبي تمام لِمحمدبن حمیدبالحُسن ویقول:لیس في ابتداءات المراثي المُولّدة مثلُ قوله :
أصَمَّ بِکَ النَّاعي وإن کانَ أسمَعَا وأصبَحَ مَغنی الجُودِ بَعدَکَ بَلقَعا [13]
متی خاض الرّاثي في جوّ کئیبٍ وغَشِیته فداحة المُصیبة ـ لاسیّما إذاکان من أقرباء المَیّت ـ فهوینظرالأشیاءمن قلبه الحَزین ویُلبسهاثوبَ الحِداد ویُشرِکها معه في البکاء،لکن لابُدَّ أن یدقّ النظرَحتّی یستقیم هذا الزيّ علی اللآبس وتصحّ هذه المشارکة بدمع العین.قال قدامة : ویُرثَی بذکربکاءالأشیاءالتي کان المَیّت یزاولها،وفي مثله یحتاج إلی تعلّم صحّة المعنی وتمییزاللائق بالبکاء من غیره.فلایحسن أن یبکی علی المیّت کلّ مایُزاوله المیّت مثل الخیل مثلاً،لأنّ العادة أن تَغتَبِطَ بموته لأنّهاتستریح.ولِذلک أجادت الخَنساءُ حیثُ تقول في صخرٍ:
فَقَد فَقَدَتکَ حَذفَةُ فاستراحَت فلَیتَ الخَیلَ فارِسُها یَراها
فلوقالت بدل« استراحت » « بکت » لَأَخطَأَت. [14]
ذلک ماذُکِرَفي حسن الرّثاء،وأمّا ماقیل في عیوبه فمنه:
1ـ التّقصیرُفي رَسم صفات المَرثيّ،بأن لایُصوّرالشاعرماکان للشخص من مکانة ومنزلة ومَجد،ولِهذاعِیبَ الکُمیت في رثائه للرسول(ص)حیثُ قال:
لَقَد غَیّبُوا بَرّاً و حَزماً و نائلاً
عَشیّة واراه الضریحُ المُصَّبُ
فقد رأوا أنّ البیت معیب حیثُ لایُصوّرمجدَ الرسول (ص) ولامکانته بین المسلمین وقومه.
2ـ عَدَمُ وفاءِ عبارة الشاعربماأحسَّه من ألمٍ،وشَعَربه من عِظَم المُلمّة وبما قصده من الکلام،ولِهذاعابوا أباالعتاهیة لماقال: « ماتَ الخلیفةُ أیّها الثّقلان ».
یُریدُ أنّه بمجاهرته بنعي الخلیفة کأنّه جاهربالإفطارفي رمضانَ نهاراً،وأقدم علی فعل ینکره النّاس ویستعظمونه،ولایخفی عدم إفصاح العبارة بما أراده أبوالعتاهیة منها. [15]
شَکل القصیدة الرّثائیة وبناؤها:
لیس من عادة الشُّعراء أن یبدأوا مراثیهم بالنّسیب کما أنّهم یصنعون في المدح والهجاء،وقلّمایوجَدُفي الأدب العربي رثاء ابتُدِئَ بالنّسیب،مثل رثاء دُرَیدبن الصِّمّة حیثُ یقول: [16]
أ رَثَّ جدیدُ الحَبلِ مِن أُمِّ مَعبَدِ
بعاقِبَةٍ وأخلَفَت کُلَّ مَوعِدِ؟
والغالب علیها أن تُبتَدَأبمخاطبة العین وطلب البکاءمنها،وإلیک أمثلة منها:
قالت الخنساءُتَرثي أخاها صخراً: [17]
أعَینَيَّ جُودا و لاتَجمُدا
ألاّ تبکِیان لِصَخرِالنّدی
قال حسان بن ثابت یَرثي النَّبِيَّ (ص): [18]
یاعَینِ جُودي بِدَمعٍ مِنک إسبالٍ
ولاتَمَلِّنَّ مِن سَحٍّ وإعوالِ
قالت لیلی الأخیلیة تَرثي زوجها:
أیاعینِ بکّي تَوبَةَ بن حُمَیَّرِ
بِسَحٍّ کفَیضِ الجَدوَل المُتفَجِّرِ
وأحیاناً تُبدَأُ بأنّه لافائدَة في الجَزَع والبُکاء ولاطیبَ في عیش لم یَخلُ من المَوتِ،ولافرق بین التّرنُّم والتّفَجُّعِ إذاکانت عاقبة الحَیاة الفناء،أوتُبدَأُ بمایدلُّ علی عجزالإنسان أمام المَوت والأسف علیه.
یبتَدِئُ ابوذؤیب الهذلي رثاءبنیه بقوله: [19]
أمِنَ المَنونِ ورَیبِها تَتَوجّعُ
والدّهرُلیس بِمُعتِبٍ مَن یَجزَعُ
والنّابغةالذبیاني رثاء أخیه بقوله:
لایهنئ الناسَ ما یَرعون مِن کلأٍ
وما یَسُوقُونَ مِن أهلٍ ومِن مالٍ
وابوالعلاء المَعرّي رثاءَه المَشهورللفقیه الحنفي بمایلي: [20]
غَیرُمُجدٍ في مِلَّتي واعتقادي
نَوحُ باکٍ ولا تَرنُّم شادِي
تدورالقصیدة الرّثائیة من جهة المعنی علی الحزن والبکاء، الثَّناءعلی المیّت والدُّعاءله، الآراءوالخواطرالمسلیّة،والدعوة إلی التصبّر.وذکروافي الثّناءعلی المیّت أن یکون بالفضائل النّفسیِة،کمااشترطواذلک في المدح،ولهذایَعُد « ّقدامة » من المراثي المختارة قول کَعب بن سعدالغَنوي في رثاء أخیه:
لَعمري لَئن کانت أصابَت مُصیبةٌ
أخي،والمَنایاللرِّجالِ شَعُوبُ
لقدعَجَمَت منّي الحَوادثُ ماجداً
عروفاً لِرَیب الدّهرِحین یُریبُ
وقَد کان أمّا حِلمُه فَمُرَوَّحٌ
علینا، وأمّاجَهلُه فَغَریبُ
أخي ما أخي؟لافاحِشٌ عِندَبَیتِه
ولاوَرَع،عِندَاللقاء هَبوبُ
فیقول قدامة: فقد أُتِيَ في هذه الأبیات بماوجب أن یُؤتَی به في المراثي؛ إذ أصاب المعنی وجرت علی
الواجب.أمّافيالبیت الأوّل فذکرمایَدلّ علی الشِّعرمرثیة لهالک لامدیح لباق،وأمّافي الأبیات الأُخرفذکرالأربع التي
هي:العقل والشجاعة والعِفّة والحلم.ثُمّ أفتن کعب في هذه المرثیةبعدذلک وزادفي وصف بعض الفضائل مالَم
یخرج به عن استقامة. [21]
وأمّاحسن المراثي من ناحیة موسیقی الکلمات فکان الأنسب بهاأن تکون إیقاعات الکلمات مدیدة وطول النَّفس
فیهاطویلاً،حتّی یتنفّس الراثي عن زَفَراته،ویُخَفِّفَ عن آهاته.
تعليق من الكاتبة الأستاذة عائشة التركي مراسلة ديوان العرب في تونس على الدراسة
يكتسب الرثاء أهميته في الشعر العربي من أنه غرض يرتبط بالوجدان من ناحية لتعبيره عن مشاعر اللوعة والفقد ومن ناحية أخرى لأنه حمّال للقيم شأنه شأن المدح، وقد عرض السيد محمد شرفبياني إلى ما بين الغرضين من نقاط التقاء.
لم يحدد صاحب البحث الفترة التاريخية التي تناول فيها الرثاء بالدراسة واكتفى بكلمة القديم وإن كان قد أشار إلى المعري (ق4-5 ه) وهو من الشعراء المتأخرين نسبيا .وقد أهمل بعض الشعراء الذين عرفوا بالرثاء أو كثُرت المرثيات في أشعارهم أو الذين تناولوا الغرض المذكور تناولا فيه إضافة إما على مستوى البنية أو على مستوى الأسلوب . ومنهم أبو الحسن الحصري القيرواني (420-488ه) وهو علم من أعلام الشعر العربي في المغرب وقد اشتهر برثاء ابنه عبد الغني الذي توفي في سن مبكرة وتصدّى هذا الشاعرلما أسماه ابن رشيق بالشعر الصعب وهو رثاء النساء والأطفال"ومن أشد الرثاء صعوبة على الشاعر أن يرثي طفلا أو امرأة لضيق الكلام عليه فيهما وقلة الصفات"(العمدة ج2 ص154)
وقد كان مما سيثري البحث لو تعرض السيد محمد شرفبياني إلى الرثاء عند المتنبي وما أضافه لهذا الغرض على مستوى بنية القصيدة لأنه مزج بين الرثاء والفخر في صلب القصيدة الواحدة وهي القصيدة التي رثى فيها جدته ومطلعها
ألا لا أرى الأحداث مدحا ولا ذما
فما بطشها جهلا ولا كفّها حلما
كما أن المتنبي أكثر من رثاء النساء فقد رثى أم سيف الدولة وأخته خولة وفيها زاوج بين المدح والرثاء مدح سيف الدولة ورثاء أخته .وقد تمكن المتنبي في هذه القصائد التي رثى فيها النساء من استعمال معاجم الغزل دون أن يُخلّ بالغرض القائم على التفجع والتألم وقد جاء في رثاء خولة أخت سيف الدولة هذا البعد الذي يجعل من المتنبي يركب الصعب من الشعر-رثاء النساء- دون أن يحرم المرأة من أنوثتها ويتجلى هذا في مايلي
..يعلمن حين تحيّا حُسن مبسمها
وليس يعلم إلا الله بالشّنب
مسرة في قلوب الطيب مفرقها
وحسرة في قلوب البيض واليلب
إذا رأى ورآها رأس لابسه
رأى المقانع أعلى منه في الرتب
في هذه الأبيات حضر معجمان مختلفان معجم الجمال والأنوثة(المبسم الطيب..)والمعجم الحربي الذكوري(البيض،اليلب)دون أن تفقد القصيدة انتماءها إلى غرض الرثاء
ولعل من المفيد للدراسة التي تتناول الرثاء ومعانيه أن تشير إلى رثاء البلدان وهو تعبير عن نكبة جماعية مازلنا إلى اليوم نعيشها فكما نكبنا في القيروان ورثاها الحصري ونكبنا في الأندلس ورثاها أبوالبقاء الرندي ها نحن "نحتفل" بنكبتنا في فلسطين بعد قرون من نكباتنا السابقة
هذه الملاحظات لا تنقص من قيمة الرسالة التي قدمها الدكتور محمد شرفبياني وما أنجزه من عمل هو إثراء للمكتبة العربية .
عائشة التركي
مشاركة منتدى
9 كانون الأول (ديسمبر) 2012, 01:50, بقلم azzedine
اود ان تعطوني معلومات عن رثاء ابن القيم الجوزية للامام ابن تبمبة
23 نيسان (أبريل) 2017, 04:51, بقلم عبد الغفور الهدوي
بحث قيّم..! شكرا لكم..!!