الاثنين ١٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم أحمــــد الشـــافعي

الزعــــــــيم

الصبح يتنفس في تثاقل ، والشيخ سـيد أبو الغريب على مئذنة جامع أبو عيسى يرفع صوته بآذان صلاة الفجر جماعة ، والديكة تتصايح على أسطح البيوت ... هبَّت الجِدَّة تتسـاند على حوائط الردْهة الطويلة تُجرجر أذيال ثوبٍ كان في يوم ما يبتعد عن الأرض بمقدار شـبر ، ويوشي بعـِّز ولَّى من زمن ليس ببعيد ... انحنى ظهرها وتقازمت هامتها في زمن الهموم ... كانت تسير منتصبة من بضع سـنين ... حوافرُ الماشيةِ تصُّك الأرضَ المتربةَ في ( حارة أبو طـه ) وجِـدْيُ ( أبو البيومي ) يُمَأْمِئ ... يتسلل النور رويدا إلى فراش الصبي ، فيستيقظ بعد سماعه الجلبة المعتادة لتوافد النسـوة في حجرة الفرن ليعجنوا الدقيق ، ويخبزون العيش المِرَحْرح ... كان يحبّ هذا اليوم من كل أسـبوع . كان يحبّ رائحة العيش السـاخن ، والصوت المنتظم لحركة أيدي النسـاء وهن يفردن العجين على المطارح الخشبية المسـتديرة ، ويستهويه أكل العيش الساخن بالبيض والعسـل الأسـود ... سـأل جدته:

ــ كلّ طفل له ماما وبابا إلاّ أنا ... وأمي تسـافر كثيرا إلى مصر ... لماذا يا جدتي تذهب إلى الدكتور كثيرا ؟!

ــ أبوك سـافر بعيدا قبل أن تولد بأسبوع واحد ... سـافر يا نِنْ عيني مع الفجـر ... وأمك تسـافر مصر لتدفع إيجار شقتكم ، لما يرجع أبوك من السـفر ... لا تخف يا ضناي ... هل ينقصك شـيء ؟! ... أبوك يرسل لك " فلوس " عند خالك سلامة تستلمها منه وتحضر بعد يوم أو يومين ... وتذهب للدكتور لأنها مريضة بسبب غياب والدك . لما يحضر لن تذهب إلى الطبيب ...

ــ أريد صورة لبابا جديدة ... الصور التي معي قديمة ...

ــ الناس الذين سـافروا مع بابا أخذوا كل الصور الجميلة ، وأخذوا معهم كلّ أيامكم الحلوة ، ولا يستطيع أن يرسـلَ لك صورة جديدة ... معك صورة لماما وبابا مع بعضهم في ليلة فرحهم ...

ـــ كانوا عاملين عريس وعروسـة ... هئ .. هئ

ضحك في براءة :

ــ أبي كان أبيض أم أسمر ... طويل أم قصير ، جسمه ممتلئ أم رفيع ... يعني ..

ــ في لونك ... وجهك الخالق الناطق ... في طول جدك عبده لأنه خال أبيك

ــ سمعت عمي يقول عنه أنه كان رجلا ... أليس كل الرجال مثل بعضهم

ــ يا سندي . ليس كلّ الرجال رجـاله ... وليس كل من ركب الخيل خيال ... أبوك أجـدع الرجـال ، وأشجع من ألف راجل ... كريم ، ويعمل الواجب مع كلِّ الناس ... ويحب بلده ... أنا حماته . يعني أم زوجته ؛ لكن أنا أحبه مثل خالك سلامة ... أنا ربيته بعـد أن تُوفِيت جدتك أمّ أبوك ، لأن جدك حسـن تزوج من نظيرة البيضة ... أبوك كان عنده خير ربنا كثير ... جيوبه فيها " فلوس " باستمرار ، ترك الجامعة راح يحارب اليهود في فلسطين ، ولما رجع من فلسطين راح يحارب الإنجليز في خــط القنال ...

كان يحلم ... يحلم بوالده وهو يمتطي سرج الفرس الأشهب ، ويمسـك باللجام ويسيطر على جموح الفرس الحرون في عزبة " عبد الباقي " ... كان يجري به على طريق الغيط " الجواني " ، ويلف ويدور حول أرض " الوسِـيَّة " ، وهو شـاهر سـيفه ، فجأة سـقط من على ظهر الحصان ، لكنه رأى رجال الحكومة يلقفوه ويأخذونه معهم في سيارتهم الزرقاء ويدخلونه الصندوق الحديد ويقفلون عليه الباب بالقفل ...

الصبي الذي أصبح في الصف الرابع ... كان فطِناً وذكيا ويجيد لعب كرة القدم ... كان كابتن المدرسة ... قال عنه مدرس الفصل ، سيكون له شـأن عظيم ... وهو عائد من المدرسـة قال له ابن عمه "ســيد "

ــ أبوك في السجن من قبل أن تولد ... جدتك تضحك عليك ...

قطب جبينه ، وردّ عليه بعصبية :

ــ عيب يا أخي .. تحشـم .. عيب .. أبي مســافر في بلاد بعيدة .. جدتي قالت لي أبوك رجل

شريف . كريم ... لا يمكن أن يكون قاتلا أو لصا ...

قال :

ــ لا . لا .. لم أقصد .. أبوك كان يشــتغل بالسـياسة .. يعني لا يحب الحكومة .. كان يحارب الإنجليز واليهود ...

ــ معقول الزعيم يسجن أبي لأنه لا يحب أعداء الوطن ... ألم يقولوا لنا " ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد "؟!

قال له بصوت هامس :

ــ أبي يقول عن الزعيم أنه فاشي وظالم ولا يؤمن بالديمقراطية ..

ــ يعني آيه فاشي ، ويعني آيه ديمقراطية ؟!!

ــ يعني أنا فهمت أنه ظالم ومفتري ، ويكره من يعارضه ...

ــ كلّ البلد تهتف له " بالروح بالدم نفديك يا زعيم "

ــ أنا لا أعرف ... حذار أن تقول ما قلته لك لمخلوق ، أحسن كلنا نروح في داهية ...

ــ أنا أحب الزعيم .. كيف يسجن أبي ، وأنا أحب أبي ... أبي رجل شـريف ...

ــ سمعت عمك يقول : الملوك والحكام العرب أغبية ولصوص وخونة

ــ إلاّ الزعيم ... حارب الإنجليز والفرنسيين في بورسعيد ، وأمم القنـاة ، وأنشــأ لنا تلفزيـون ، وبنى السـد العالي ، وسلح جيشنا بأحدث الأسلحة ، ووزع أرض "القريعي " باشا علي الفلاحين ، وطرد الملك الفاســد ...

ــ أعمامك يقولون أنه رجل ظالم ويضحك على الخلق ...

ــ يا خلق الله .. كلام صعب قوي .. أنت سمعت كلامهم ازاي ؟!!

ــ أسمعهم وأنا نائم وهم يتكلمون في المندرة ، فاهمين أنني نائم ، لأني لاحظتهم لما أخرج يصمتون ولا يتكلمون ، فكنت أتصنع النوم ...

أحــسّ أنّه تائه كمن أُلقِيَ به في اليم ، أوفي صحراء جرداء ، لا شجر فيها ولا ماء ، يرنو بعينيه وقلبه الظمئ إلى معرفة الحقيقة .. إلى رشـفة .. إلى ينابيع الحقيقة يتفيأ بظلها الظليل تحت مروجها الخضراء ، ويشبع سغبه برطب نخيلها الجَـنِيـَّة ... ولكن هيهات أن يقنع حتى لو وصل إلى الحقيقة عارية تماما سيطلب المزيد ... لن تقنعه الينابيع سيبحث عن الأنهر والوديان والواحات ليتسـيد عقله ... إن نفسـه الباحثة ، الجائعة ، العنيفة ، الوحيـدة الكافرة ، لن تجعله يهنأ بفتات ما يلقى إليه بطرا واستعلاءً ... هو محب صادق في حبه ... أوقعه ابن عمه من حيث لا يدري في بـئر مالها قرار .. وضعه على حافة الجنون ... رغم حداثته لكن عقله في رجاحة البالغين الراشـدين الباحثين عن الحقيقة ... كان يفاجئ معلميه، ذهل مدرس اللغة العربية حين توصل إلى العائد على الموصول المقدر والمفهوم من سياق المعنى في آية قرآنية لم يكن مطلوبا منه أن يستخرجه ، ربما يستحيل على الكثير من أقرانه استنباطه ، وإلى حـد أنّه كان يسـبب الإزعاج لمدرسي الرياضيات ، واللغة الإنجليزية ، والعلوم ...

في المدرسة وفي البيت كان الأثير والمدرسون يدخلون في رءوسهم كلاما عن العدالة الاجتماعية ، والرخاء الذي سيأتي ، والقضاء على الفقر والجهل والمرض ... الجيش القوي الذي سيهزم اسرائيل ومن وراء اسرائيل ... تصفيق جماهيري حاد ... تخيل نفسـه أنه الزعيم فوقف على السرير يلوح بكلتا يديه محييا الجماهير الحاشدة ... كان يقلد الزعيم ...

استيقظ في الصباح وصمم على أن يكتب رسـالة إلى الرئيس ... زملاؤه يرسلون رسـائل إليه وهو يرسل لهم صورته ، ويتمنى لهم مسـتقبلا زاهرا ، ويكونون رسل المحبة والسلام والرخاء والأمن والطمأنينة في كلّ ربوع الوادي ، وفي العالم العربي وإفريقيا وكلّ دول عدم الانحياز ، ويحاربون أعداء الوطن في الداخل والخارج ...

أمسك بالقلم ونزع ورقة من كراسة الواجب ، وهو يفكر فيما يكتبه للزعيم :

السيد الزعيم المفدى

أنا أحبك جدا ، ومخلص في حبي لك ، لأنك رفعت رأسي ورأس الوطن بين الأمم ، وهزمت الأعداء بتأييد من عند الله ، في بورسعيد ، وأجليت المستعمر الغاصب ، وبنيت لنا سدا منيعا يجلب الرخاء لمصرنا الحبيبة ، وجيشا يحمي البلاد من الغاصبين ، ولكني علمت أنك سجنت أبي ، وهو مثلك لا يحب أعداء الوطن ... ضحى بمسـتقبله وترك مدرجات الدراسة بالجامعة وحارب اليهود الصهاينة في فلسطين ، وتطوع مع الفدائيين واشترك في نسف مخازن الأسلحة والذخيرة في معسكرات الإنجليز في أبو سلطان والفردان وعلى طول خط القناة حتى قامت الثورة المباركة ... فلماذا اعتقلت أبي ؟!! ... أنا لم أره ... سجنته وأنا مازلت في رحم أمي ، لم يقبلني ، ولم يضمني إلى صـدره ... أنا يتيم وهو حيّ خلف القضبان كالمجرمـين ... أبي رجل كريم وشجاع ، وشريف ، وصاحب مروءة ، فلم اعتقلته ؟!! يقول بعض أهل بلدي أنك ظالم ولا تحب العدل ، وأنك تعبد نفسك ، وتعد أسرتك لحكم البلاد من بعدك ، وأنا لا أوافق من يتشدق بهذا الكلام ، لأني أحبك ...

ارسل لي صورتك ، وافرج عن أبي لكي يضمني إلى صدره .. و السلام ختام

ابنك

.... .....

أحضر مظروفا ووضع فيه الرسـالة بعناية ، وهو في طريقه إلى المدرسة وضع الرسالة في صندوق البريد ... لم يستطع أن يتابع دروسه ... كان مسرورا ... أيقن أن والده سيدخل عليهم غدا ، ويتعانقان ، ويعيشان في حب وسـلام وأمان ... ألقى نظرة عابرة على حديقة المدرسة من نافذة الفصل ، فوجد الورود والأزهار تبتسـم له في غبطة ونشـوة ... كانت ناضرة يانعة ، رقيقة كالجميلات اللائي يَراهُنَّ في التلفزيون حين يذهب إلى قهوة عبد الهادي ليشاهد مباراة لكرة القدم بين الأهلي والزمالك ... كان يدفع قرشا للدخول ومثله ثمنا لكوب شـاي ... ذهب إلى جدته واحتضنها وأخذ يقبلها ويقبل أمه . غدا سيحضر والدي ، ويرفرف علينا طائر السـعد بجناحيه ... لم يفهموا لماذا هو مسـرور فرح ؟!! لم يبح لهم بسـرِّه ... ذاكر كمن لم يذاكر من قبل ... حفظ كتاب المحفوظات المقررة ، وسـورتي الفلق والناس ، لكي يتلوهم أمام أبيه حينما يحضر غدا ... نام سعيدا تحفه الملائكة ، حلم أنه يطير بين النجوم .. اقتطع شطرا من السحاب الأبيض وامتطاه كبسـاط الريح يجوب به بين السـماوات يخبرهم بمقدم والده ... بستان من رياحين وورود ، وأمه يراها كعروس في ليلة زفافها ... استيقظ مبكرا نشيطا يضئ وجهه سرورا وسعادة ... توضأ وصلى ركعتين شكرا لله .. باندهاش قبلته أمه وجدته .. وضع كتبه وأقلامه وكراساته في حقيبته .. المدرسـة كانت قريبة من البيت .. كان يخرج حين يسـمع جرس طابور الصباح ... وقف في " الفرندة" يشمّ روائح عطرة لا يعلم مصدرها .. دق قلبه بشـدة حين رأى سيارة حكومية زرقاء تحمل علامة وزارة الداخلية تدخل حارتهم ... هتف .. أبي .أبي ... خرجت جدته ووالدته مهرولتين ، أدهشـهما هتاف الصبي ... نزل جندي مصوبا سلاحه ناحيتهم ، ونزل ثلاث جنود بأسلحتهم يُأَمنون السيارة من الأمام والخلف ، ونزل ضابط صفيق الوجه جهم الملامح يدعي " القفاص" يحمل على كتفه شارة النسـر :

ــ أين ســعيد المالكي ..

ردّ عليه الصبي الذي لم يتعــد عمره العشر سنوات

ــ أنا ...

قال الضابط باندهاش واستنكار وبصوت حاد وقاطع وصارم

ــ ألم تسمعني يا أطرش .. أنا أسأل عن سـعيد المالكي ؟!!

ــ أنا سعيد المالكي ... ابن البطل ...

ــ انت الذي أرسلت رسالة للزعيم ...

ــ نعم أنا ..

ــ تعالى معي للمركز وسأعيدك بعد نصف ساعة ...

ــ عندي مدرسة الآن ... وأبي سيحضر اليوم ، أنا قلت للزعيم أن يفرج عن أبي ؛ لأنه مثله يكره الأعداء ...

ــ سأعيدك لتنتظر أباك ..

ترددت أصداء الهلع ورعب الجحيم داخل كيان الجدة الضعيف ، والأم أصابها زلزال هدَّم ما تبقى من حطامها الهـش ، وأصاب وجهها الجميل زرقة الموت ، وسالت دموع غزيرة تتوسل إنسانية الضابط التي تفترض أنه يمتلكها ... جذبت الأم وليدها واحتضنته ... تخيلت ما حدث لوالده من فظاعات كهول الجحيم ، في السـجن الحـربي ، وسجن القلعة ، سـجن الواحات ، وسجن قنا ، والقطا ... ضربوه في كل أنحاء جسـده الواهن ... اقترب من الموت ...

وجه الضابط نظرات نارية صاعقة ألجمتها ، وأخرستها عن الكلام المباح وغير المباح ، وجـذب الصغير من بين أحضانها بعنف غبي ، وأركبه سيارة زبانية الموت كما يسـميها أهل هذه البلد ...

لأول مرة علم عـلِم اليقين أن الزعامات في بلادنا يقولون مالا يفعلون ، وكل ما سمعه من ابن عمه صادق كل الصدق .. حين دخل المركز كان يرتجف من إخمص القدم حتى منبت الشـعر ... حاول أن يكون شـجاعا لكنه فشل أن يسيطر على أطرافه وجسمه الذي ينشع ماءًا باردا ... وجـد أعمامه قد سـبقوه تسـيل الدماء من وجوههم ، ومن خلال ملابسهم الممزقة والملطخة بدم قاتم أزرق متجلط ... خرجت من فم الصغير صرخة هزّت أركان المكان أرتجف من هولها جزار الداخلية الرائد القفاص ، وســقط فاقــدا الوعي...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى