

السيكلوجي واللساني في دتاكتيكية النحو العربي
لعل إشكالية عزوف الطالب العربي المراهق عن تعلم اللغات لاتشمل اللغات الأجنبية فحسب وإنما يطال الأمر في كثير من الأحيان لغته الأم وعند ذلك تتجلى الإشكالية الحقيقية في الظهور بشكل لافت إذ ترتبط بأبعاد حضارية خطيرة ولا شك، فالقضية أصبحت تُطرَح اليوم بعد أن اكتسح التطور العجيب في وسائل الاتصال والمعلومات كل أقطار الأرض وأمام هواجس العولمة التي تعتمل في داخل كل الأمم بات الحديث عن الهوية أمرا يمثل وجعا مزمنا للكثير من الفئات ولكننا لن نطرح المسألة بطريقة عاطفية تمجيدية ولكن بشكل مختلف تماما هوأقرب إلى النظرة السيكولوجية اللسانية. كيف ذلك؟
إن أهم قضية لدى الطالب هومدى تفاعله مع اللغات وهوأمر يرتبط عنده بتركيبته النفسية الحساسة وبذلك نجد أنفسنا بين أمرين الأول معرفة الخصائص السيكولوجية للطالب الطفل أوالمراهق أما الثاني فهوالنفاذ إلى طبيعة اللغة كمادة معرفية هي عبارة عن رسالة تربوية ستقدم إلى متلقٍّ معين، بهذا المعنى نجد أنفسنا بين تحليل علم النفس التربوى من ناحية ونظرة فلاسفة اللغة من ناحية أخرى.
إن فترة المراهقة تتميز بالسعي إلى بناء الذات والتفرد وحب الظهور والتذبذب إلى درجة الرفض والتمرد وإلى حد القطيعة أحيانا مع الآخر عموما. هذه المشاعر المتداخلة تكون حاضرة بشكل غير متساولدى الطلاب بما أن مسألة التقبل تختلف عندهم باختلاف الزمان والمكان والإنسان (المدرس).
هذا الواقع الاجتماعي الحضاري المؤلم المتعالي عن المقاربة لأسباب نجهلها يتعارض بشكل كبير مع القراءات الغربية للغة عموما لأن الأساس الفكري للمشكلة هوأننا مازلنا ننظر في زمن معاصر إلى تركيبات لغوية قديمة وبتقنيات تحليل أقل ما يقال فيها أنها كلاسيكية فلابد من قراءة جديدة للنحوواللغة حتى نستطيع فهم مواطن الخلل في عملية التلقي التعليمية ومن أقدم المقاربات رؤية الفلسفة الرواقية الإغريقية [1] التي تؤكد على أن اللغة ما هي إلا علاقة تربط بين طرفين : الكلمات والأصوات من ناحية والأشياء من ناحية أخرى ورغم أن هذه العلاقة تبدواعتباطية في مستوى الدلالة إلا أنها تصبح منطقية بعد فرضها من قبل مؤسسة الجماعة، بهذا المعنى يتجلى لنا بوضوح التعارض العنيف بين نوازع الطالب السيكولوجية من جانب وماهية اللغة كمعرفة وليس كأداة اتصال من جانب آخر.
لن نستطيع فهم صعوبة رسوخ المعلومة النحوية التي تتقابل تماما مع عزوف الطالب عن التعلم دون الاطلاع على مضامين النظريات الأخيرة في اللسانيات العامة ولعل أبرز النظريات ما ذهب إليه العالم الأمريكي "نعوم تشومسكي" [2] من أن النحو: " هومجموعة القواعد التي تُمكِّن الإنسان من توليد مجموعة من الجمل المفهومة ذات البناء الصحيح ". وينتقد تشومسكي عملية الكفاءة الرصدية التي اتسم بها النحوالتقليدي؛ أي القدرة على الرصد الكمي للبيانات دون محاولة تقديم نموذج تفسيري يفسر قدرة المتكلم مستخدم اللغة وحدسه اللغوي. فتشومسكي يفرق بين القدرة التي هي ملكة معرفة اللغة؛ حيث يمكن للفرد إنتاج وفهم عدد غير محدود من الجمل، وتحديد الخطأ، وتلمس الغموض الكامن في الناتج اللغوي، وبين الأداء الذي هوعملية استخدام هذه القدرة في نسق محدد. ويلوم تشومسكي التقليديين على اهتمامهم بالأداء وانصرافهم عن القدرة.
والغريب في الأمر أن هذه النظرة إلى القدرة في استعمال اللغة تفطن إليها بعض العلماء العرب بيد أن أطروحاتهم توقفت عند حد الشذرات المحتشمة فلننظر إلى ما ذهب إليه عبد الرحمن بن خلدون : " إن الحذف في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عيه إنما بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله ". [3]
ولابد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن خطورة ما ذهب إليه تشومسكي على شهرته العلمية والسياسية أيضا ليست سوى إضافة رائعة لما وصلت إليه "حلقة براغ" وخاصة مضامين ما يسمى بمخطط " رومان جاكبسون" [4] الذي أكد على أن اللغة ليست سوى تحويل للمعجم العمودي الثابت إلى الاستعمال الأفقي الاستبدالي.
بهذه المعنى يحق لنا أن نتساءل هل أن الأهمية الكبرى تكمن في تحفيظ القاعدة النحوية أم في طرقة استخدامها وتوظيفها فالإشكالية الكبرى التي نعاني منها لا تكمن في مقاربتنا للنحوالعربي فحسب بل وكذلك في طريقة عرضنا للمادة اللغوية على الطالب فكيف لنا ونحن نقرأ النحوالعربي قراءة قديمة أن نقدمه لمتلقٍّ معاصر بأدوات حديثة.
إن الاطلاع على النظريات العالمية في علوم اللسانيات تُجلي نظرتنا إلى إشكالية تدريس النحوولابد لنا بعد هذا الطرح من الإشارة إلى أن القضية هي تربوية ولكن ركائزها نفسية لسانية ( نسبة إلى علم اللسانيات)
على هذا الشكل نفهم لماذا لا يُقبل الطالب المراهق على تعلم النحوبشغفٍ. نحن لا نستطيع أن نغيِّر نفسية المراهق ولكن بمقدورنا تغيير زاوية نظرنا إلى اللغة كأبنية نحوية ثابتة مقدسة إلى درجة عجيبة بالتعامل معها ( أي اللغة ) كمبحث قائم على اللاوعي والحلم هذه النظرة التي برزت في بداية القرن العشرين مع مدرسة الشكلانية الروسية [5] التي حاولت فهم البناء الفكري العربي سرديا من خلال دراسة كتاب (الف ليلة وليلة) وانتهوا إلى أن أروع ما في اللغة هوخطابها الوجداني فالقصة القائمة على التخييل تجعل الإنسان يفلت من قبضة الوعي الاجتماعي ووطأته إلى عالم اللاشعور الرحب حيث انفلات الذات إلى دنيا الحلم. ورغم أن مبحثهم ( الشكلانيون الروس)كان ذا هموم بنيوية سردية بالأساس لكنه أفضى إلى استنتاجات خطيرة على مستوى التعلم التربوي عموما. فاللغة قبل أن تكون نحوا هي استعمال حر رائع.
بناء على ما سبق يمكن القول أن أسباب عزوف الطالب عن تعلم الأبنية النحوية هي كل متكامل من العناصر يمكن تلخيصها في الآتي:
• طبيعة المادة العلمية المقدَّمة (قواعد النحو).• طرق التدريس التقليدية.• عدم الوعي بالتغيرات المعرفية الكبرى خاصة على مستوى تقنيات الاتصال في العالم.• عدم مراعاة البعد النفسي للطالب.• الخوف من النظرة النقدية للنحوالعربي وربطه بمسائل عقدية دينية مما يزيد المسالة تعقيدا.• السقوط في الأطروحات التمجيدية للغة وعدم الاطلاع على نظريات علم اللسانيا ت المقارن للاستفادة مما وصلت إليه لتوظيفها من أجل النهوض بطرق تدريسنا.• إسقاط القراءات الإيديولوجية القاصرة والقاتلة لأي مبحث لساني عربي متكامل. [6]
إذن نحن مطالبون بأن ندغدغ في الطالب عالمه الميت بأن ندرسه اللغة على أنها حلم سحري جميل وفن نبيل لا على أنها ضوابط وقوانين تقحم الذات في سجن الجماعة عنوة.
أما كيف يكون ذلك فهذا حديث آخر