الشعر ضدّ الأحكام المسبقة
عربٌ لكن شعراء.. قد يكون في مثل هذا الشعار بعض الاستفزاز في وقت تزدهر فيه نظرة نمطية عن العرب تعزّزها أحداث 11 سبتمبر و11 مارس. دون إغفال البلاء غير الحسن لبعض من بني جلدتنا ممن يُساهم في ترسيخها بهِمّة مَوْتور بأساليب قد تتباين من سرقة حافظة نقود عجوز مسنّةٍ في شارع ببروكسل إلى اختطاف صحفي أعزل بضواحي بغداد.
لكن هل هذه النظرة النمطية التي نخشى منها هي نتاج هذا التاريخ المعاصر فقط؟ أعتقد أن الحكاية أبعد من ذلك. بل وأبعد حتى من موجة الهجرة العربية الحديثة إلى الغرب. ففي القرن الثامن عشر، كتب مونتيسكيو في "روح القوانين" بأن العرب "شعب مكوّن من قطاع الطرق". فولتير أحد رموز فكر الأنوار في فرنسا وأحد المناهضين الكبار لمحاكم التفتيش والحروب الدينية والأحكام المسبقة اعتبر بدوره العرب "شعبا من اللصوص". هؤلاء وغيرهم ساهموا في خلق نظرة غربية نمطية حتى قبل أن ترمي سياسات الإقصاء ولاتكافؤ الفرص ببعض المهاجرين وأبنائهم إلى براثن الانحراف. فمحض وجود العربي في الفضاء الغربي كان يعدّ نوعا من "الاقتحام". "اقتحام" لا يزال يدعو إلى التبرير أحيانا. تبرير هذا الوجود الطارئ وغير المرغوب فيه تماماً.
لكن هل هذا يعني أننا فعلا مؤهلون لإعطاء دروس في التسامح إلى الجميع؟ وهل يكفي التصريح بأن بعض الخطابات العنصرية التي تخرج من بين صفوفنا هي من متطرفين لا يمثلوننا في شيء لنشعر براحة الضحية في مواجهة معتدٍ غير معتدّ تماما بضميره؟ فمن منا لم يدرس في الأقسام الإعدادية قصيدة المتنبي في هجاء كافور الإخشيدي حاكم مصر؟ ومن منا توقف عندها منزعجا من المضامين العنصرية التي ترشح من هكذا هجاء؟
العبد ليس لحر صالح بأخ لو أنه في ثياب الحر مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد
مثل هذا الموقف المحقِّر للآخر المزدري لاختلافه العرقي أو الثقافي تردّد في الكثير من آداب العرب، ليطال العلوج والصقالبة وغيرهم من ممثلي هذا "الآخر" المختلف في بلاد لا فضل فيها لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
أنا متأكد من أن مثل هذا الخطاب قد لا يصادف هوى في بعض النفوس المطمئنة إلى نقائها التاريخي. ولأننا مواطنون غير منسجمين تماما في عالم متعدد. فينا العاقل والأخرق والعامل والعاطل والشاعر والسارق والصعلوك. تعالوا، دون أن ندفع عن أنفسنا أية "تهم"، لنستجير بالشعر. إنه نوع من الاستدراج إلى مجال لا يُعنى بالسطحي والعابر بقدر ما يُعنى بالأساسي والمستقبلي. فالشعر، والأدب عموما، يكشف عن قلقنا وعن ضعفنا، عن عنفنا وعن رقتنا، عن حلمنا وعن خيبتنا، عن ورطتنا وعن خلاصنا. الشعر تعبير حي عن جوهرنا الإنساني بكل تناقضاته. وهو خير كتاب يمكن قراءتنا فيه كما نحن، خارج المساحيق والرتوشات والأحكام المسبقة.
في عام 1968 من نفس الفصل، حوّلت دبابات موسكو وبرلين الشرقية ثورة التشيك والسلوفاك البيضاء إلى ربيع بلون الدم: إنه ربيع براغ. وبعد أزيد من عشرين عاما كان الطلاب الصينيون على موعد مع ربيع أحمر ببكين. فكيف استطاعت فوهة المدفع أن ترسم الربيع بلون مغاير؟ إنها شعرية الدبّابة.
في "أرضه الخراب" نعت إليوت شهر أبريل بأقسى الشهور، رغم أن كل المعتقدات القديمة انتخبته شهرا للربيع والخصب. فكيف تحوّل هذا الشهر الوارف إلى أقسى الشهور؟ إنها قوة الشعر.
وبين شعرية المدفع ودفق الشعر. بين المتفجرات والقصائد. تعالوا نشد حبل الخضرة. لنجعل من ربيع الشعراء انتصارا ساحقا للحياة؟