الاثنين ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٣
بقلم: ايناس حسيني

العلاقة الموضوعية بين الشكل والمضمون في العمل الادبي

وجهان لعملة واحدة ..

لا شك ان كلمتي »الشكل« و»المضمون« جديدتان على النقد العربي على الاقل فيما يختص باستعمالهما الفني، فالواضح من كتب النقاد العرب القدامى (وبعض المعاصرين الذين سلكوا سبلهم) ان تناولهم لهذه القضية كان من صورة »اللفظ« و»المعنى« ـ وكانوا يقصون باللفظ عامة التركيب اللغوي الذي ينظم نوع الكلمات من حيث جديتها او قدمها، او من حيث شيوعها او اقتصارها على الخاصة، او اتصالها بدلالات (او بنوع من المدلولات) مبتذلة كانت ام سامية.
وكان يقصد بالمعنى اما فكرة تعبر عنها الالفاظ او المغزى الاخلاقي الذي يرمي اليه الكاتب او قد تعنى كلمة »معنى« في بعض المواضع ما نسميه الان صورة فنية.

ولا شك ايضا ان كلمتي (الشكل) و(المضمون) لم يعودا يترادفان مع اللفظ والمعنى على الاطلاق، وانما انسحب كل منهما على دلالات ذات صلة بالمفهومات الفنية الجديدة، والنظرة التي تغلغلت الى دقائق عملتي الخلق والتذوق الفنيتين، وتوسلت بالعلوم الحديثة مثل علم دلالة الالفاظ، وعلم النفس وعلم الجمال.

لقد جرت العادة على اعتبار الشكل نوعا من »ملحق زخرفي« يوفر قيمة ترفيهية بينما كانت عملية الارشاد (التي ترتبط بالمضمون) تسير قدما. او، مستخدمين تشبيها اخر، كان الشكل وعاء يصب فيه المضمون، ونظريا كان الوعاء ذاته قادرا على استقبال مضامين شتى. فاذا حدث تغيير في الشكل كان ذلك استجابة لمقتضيات المضمون. لقد ادى ذلك كله الى التأكيد على المضمون، وكان بالتالي مسئولا عن بعض الدراسات الادبية.

غير المتجانسة، اما النظرية الشكلانية فقد عكست اولية المضمون على الشكل، وقصرت اهتمامها على الشكل، وبذلك يصبح المضمون متوقفا على الشكل دون ان يكون له اي وجود مستقل ضمن الادب ليس بوسع التحليل الادبي استقراء المضمون من الشكل اذ ان الشكل لا يتقرر بفعل المضمون وانما بفعل الاشكال الاخرى. غير ان العامل الحاسم، الذي يغيب عن انظارنا بسبب الاستمرار في استخدام هذه المصطلحات، هو العلاقة الدينامية والتفاعلية القائمة بين المادة والاداة. تفعل الادوات فعلها في المادة، وهي، بوضعها المواد الخام قيد استعمال معين، غالبا ما تحول مظهرها الخارجي.
كما ان النظرة الحديثة الى العمل الفني في جميع صوره تحتم اعتباره وحدة مترابطة لا تنفصل الى شكل ومضمون، وانما يستغرق صاحبه ويحتم وجوده فلا نستطيع بأي حال ان نقسم المسرحية مثلا الى مضمون انساني او اخلاقي او فلسفي.. الخ وشكل درامي مجرد من هذا المضمون. وانما يمكننا افتراض وجودهما في حالة من الاندماج التام يستعصي معها مناقشة احدهما دون التعرض للآخر.
كما ان اعتبار الاعمال الفنية كائنات عضوية اي نامية متكاملة ـ لا نستطيع بتر جزء منها دون ايذاء العمل او حتى قتله ـ هذه النظرة العضوية يتلاشى امامها الحاجز الموهوم بين الشكل والمضمون.

ضرورة ملحة الشكل الفني ضرورة ملحة في اي فرع من فروع الفن، مضمون العمل الفني مرتبط بخط اساسي. والشكل الفني الناجح هو النتيجة المباشرة لنجاح الفنان في استيعاب مضمونه الفكري، واخضاعه للمقومات الدرامية التي تعتمد على الادوات الفنية، مثل: الحوار والشخصية والموقف والحدث.. الخ عند الاديب، والالوان والالحان والايقاعات عند الموسيقي. والهدف النهائي يتمثل في الشكل الفني الجميل المتميز والادوات تستخدم في اكثر من فن بحكم تداخلها. والشكل الفني بصفة عامة ليس مجرد زخارف خارجية مظهرية يضيفها الفنان او الاديب ليرغب القارئ او المتلقي في الاطلاع على مضمونه.

المضمون الفكري او معنى العمل الادبي او الرسالة الانسانية التي يريد توصيلها الاديب للمتلقي. وهو الوجه الاخر للشكل الفني، ويجب على الناقد دراسة المضمون الفكري من خلال العمل الفني الذي جسده وليس منفصلا عنه. وكما رأى افلاطون في دور الفن كمحاكاة للحقيقة المعيشية، فإن الفنان لا يحاكي الفكرة المجردة وانما يحاكي الظاهرة او التجسيد المادي للفكرة. فهو يحاكي محاكاة سابقة وليست له رسالة فلسفية مبتكرة خاصة به. وارسطو قال ان الفنان يحاكي الفكرة المجردة اي انه يحاكي الاصل، خاصة فيما يتصل بالجوهر او الفكرة.

ففي العلم ينتهي دور المضمون بمجرد استيعابه عقليا، اما في الادب فالمضمون الفكري، من خلال تفاعله مع الشكل الفني.
وغالبا ما يرتبط المضمون الفكري في ذهن القراء، بل والنقاد، بالمعنى او الهدف الذي يقصده الاديب من عمله، ويحاولون تحديده وتفسيره. والمعنى في المضمون الادبي لابد ان تتعدد دلالاته ومعانيه واتحاداته من متلقٍ الى آخر. ولابد ان يستقل معنى العمل الادبي عن هدف الاديب بمجرد الانتهاء من ابداعه، ذلك ان الهدف الذي ادى الى ابداعه مجرد دافع. انه وسيلة ينتهي دورها بمجرد ان يصبح معنى العمل جزءا عضويا منه، لا ينفصل عنه، ولا يستمد في الوقت نفسه دلالاته من افكار الاديب واتجاهاته الخاصة. حتى الكلمة المفردة بمجرد دخولها النص الادبي تكتسب معنى جديدا يختلف عن معناها التقليدي.

الشكل الفني ليس مجرد قالب نقوم بصب المضمون فيه وليس هناك الشكل الفني المسبق المحدد الذي يمكن فرضه على اي عمل فني. والاشكال الفنية تختلف باختلاف بصمات الاصابع. ومن هنا تبرز اهمية وعي الفنان بمضمونه. ونحن لا نطلب منه ان يكون واعيا باستمرار، والا تحولت التلقائية الفنية عنده الى حرفية تسود فيها الصنعة على الفن، ولكن طالما ان الشكل يجسد جزئيات المضمون الفكري على المستوى الفني فإنه يتحتم على الفنان الا يتدخل في توجيه السياق وجهة معينة، بل عليه ان يترك العمل الفني يشكل نفسه بنفسه طبقا للتسلسل المنطقي والتلاحم الدرامي بين جزئيات المضمون.
ويتدخل الوعي الفني كي يوجه الاحداث، ويطور الشخصيات. من خلال الوعي الناجح الشامل بالشكل الفني يرى الفنان الجزء في ضوء الكل. وليس من الخطأ ان يقوم الفنان بنقد العمل الفني اثناء عملية الخلق. حتى يختار ما يتلاءم مع طبيعة عمله، ويرفض ما يتنافى معها.

والمضمون الفكري ــ حتى لو كان فكرة شائعة او قضية يعلمها الجميع ــ متى تفاعل مع الشكل الفني للعمل الادبي اصبح خاصا به وليس له امتداد خارجه، او اتصال بأي شيء اخر. فالاديب الواعي هو الذي يجسد التفاعل بين هذه الافكار والمضامين وبين تطورات العصر الذي يعيشه، والذي يلقى عليها اضواء جديدة، وينظر اليها من زوايا معاصرة. والاديب ابن عصره فاذا فشل في استيعاب روحه فلن ينجح في استيعاب اي عصر اخر.

ادباء العصر الواحد اذا ما تناولوا مضمونا واحدا فلابد ان يأتي مختلفا اختلاف بصمات الاصابع.. فالمضمون ملك للجميع لكن متى انصهر في بوتقة الشكل الفني فإنه يصبح ملكا للعمل الادبي وحده.
ولا نقول ملكا للأديب الذي ابتدعه. والاديب الذي يقتفي اثر من سبقوه او معاصريه في الاضواء والزوايا التي ينظر منها الى المضمون المعالج ــ لابد ان يدفع الثمن غاليا، لأن اعماله ستدخل تحت بند التقليد الاعمى، وستسقط من حساب التقاليد الادبية، لأنها لم تضف اليها جديدا.

وبصرف النظر عن المدارس الادبية والمذاهب النقدية المتتابعة والمتعددة من الكلاسيكية الى العبثية، فإن الناقد ــ اي ناقد ــ في مواجهة اي عمل فني لابد ان يلقي على نفسه ثلاثة اسئلة، تعد بمثابة مفاتيح لمغاليق العمل. السؤال الاول: ما الهدف الذي يسعى اليه الفنان كي يتحقق من خلال عمله الفني؟ والثاني: ما الوسيلة التي استخدمها الفنان في تحقيق هذا الهدف وتوصيله الى المتلقي؟ والثالث: هل نجحت الوسيلة في توصيل الهدف ولماذا؟ او فشلت ولماذا؟ سواء كان النجاح أم الفشل كليا او جزئيا.

فاذا استطاع الناقد ان يجيب عن هذه الاسئلة بموضوعية تحليلية، فلابد ان يضع يده على مصادر الجمال والابداع، او القبح والركاكة في العمل المطروح للتحليل والتقويم، ولابد ايضا ان يساعد المتلقي على الاقتراب من العمل واستيعابه وتذوقه، بل والمرور بنفس التجربة الجمالية والسيكولوجية التي مر بها الفنان خلال ابداعه لعمله، عندئذ لن تقتصر المسألة على التقاط مضمون فكري معين وفهمه، بل ستتحول الى تجربة حسية وشعورية وعقلية، لابد ان تغير شيئا ما في داخل المتلقي، فالمعنى لا يوجد في المضمون فحسب، بل في المضمون والشكل في آن واحد، ويبدأ مع العمل الادبي من اول كلمة فيه، ثم يتنامى ويتطور ويتصاعد حتى يكتمل تماما مع اخر كلمة فيه.

لكن لا يوجد مضمون صالح للقصيدة او المسرحية او للرواية، واخر غير صالح، لأنه لا توجد مضامين مسبقة وسابقة التجهيز لزوم الاستعمال الفوري، وانما المضمون الفكري في العمل الفني لا يكتسب هذه الصفة او الخاصية الا اذا انصهر تماما في بوتقة الشكل الفني، واصبح جزءا عضويا لا يتجزأ منه، فالعمل الادبي يستمد عناصره من الحياة لكنه ليس صورة لها، وهو ليس معادلا للحياة او بديلا عنها، لأن ما يزودنا به يختلف عما تزودنا به الحياة، فهو لا يمكن ان يزودنا بشيء خارج عن نطاقه، لأن قيمة العمل الادبي ليست فيما يمدنا به من معلومات او خبرات، وانما في الاثر المعين الذي يحدثه في نفوسنا كما هو، كاملا محددا كما خلقه الفنان.

الحياة منبع العمل الادبي وليس هناك شك في ان الحياة هي المنبع الذي يصدر عنه العمل الادبي، كما انه منبع اي شيء، اخر، لكن مضمون الحياة بما يحتويه من مشاعر وخبرات مختلفة ــ خلق منها الفنان العمل الادبي، وهو مضمون الحياة ــ لا تبقى عناصره بعد عملية الخلق الفني كما كانت، بل تمتزج امتزاجا تاما من شأنه ان يحيلها الى شيء يختلف في طبيعته وفي اثره فينا عن نفس هذه العناصر كما نعرفها في الحياة. ولذلك فإنه من الخطأ البين ادراك العمل الادبي على انه مجرد ترجمة للمضامين والحقائق الموجودة خارج العمل الادبي نفسه، برغم انها كانت السبب الاولي في خلقه، اذ انها لم تعد نفس المضامين والحقائق بعد ان اندمجت وامتزجت وكونت العمل الادبي.

ونظرا لكل هذا التخبط في مجال ايجاد مفهوم جامع مانع للمضمون الفكري في العمل الادبي، خصص الناقد ايريك بنتلي في كتابه »حياة الدراما« فصلا كاملا عن هذه القضية، اوضح فيه ان المضمون الفكري في الدراما من اكثر المفاهيم اضطرابا بالافكار الجاهزة والاهواء المسبقة. ولعل منشأ هذا الاضطراب يكمن في الفصل بين الفكر والشعور، والتركيز على احدهما دون الاخر.

لكن المضمون الفكري في حد ذاته ليس امرا يهنئ الاديب نفسه عليه، ذلك ان معظم الفكر، كمعظم الشعور، لا يتميز بالروعة التي قد نتصورها، فالافكار لا تتساوى كلها في الرفعة والموضوعية، ولا يعنى بها الا الكتاب والنقاد من ذوي البرودة الذهنية. وتاريخ الفكر الانساني يوضح لنا ان الافكار كانت دائما ـ ولاتزال ـ الوقود الذي يشعل المشاعر الهوجاء للجماهير.

فلم ينتشر العنف على نطاق واسع الا بفعل الافكار التي تحض عليه. وما من شيء حتى اليوم يمكنه ان يقلل التوازن الذهني والشعوري للانسان مثل نظرية من النظريات، ولذلك فالمشاعر هي المظهر الأرق، والافكار هي المظهر الاعنف، والدليل على ذلك ان حدة المتعصب لا تلطفها فكرة تنافس فكرته، بل بملامسة شافية بينه وبين المشاعر الرقيقة الرقراقة فوق جمرات افكاره. فأسوأ الناس هم الذين ينقادون للأفكار دون تحفظ، ثم يتوهمون ان حياتهم حياة فكرية راقية، لأنه لا يهمهم من الحياة سوى الافكار، اما المشاعر في نظرهم فهي الشغل الشاغل لمن هم اقل منهم وعيا ونضجا وفكرا.
واذا كانت الافكار تمتلك هذه القدرة على تهييج المشاعر التي قد تكون فجة وهوجاء في احيان كثيرة. فإنه من الخطأ، بل من الخطر، ان يرضى الانسان بالاثارة العاطفية بغض النظر عن المصدر الفكري المحرك لها، خاصة ان هذه هي الوسيلة المفضلة التي يلجأ اليها ادب الدعاية المباشرة الساذجة الفجة، الذي يدفع كاتبه الى استخدام كل الوسائل الممكنة، بل غير الفنية وغير الدرامية، كي يحاول اقناع قرائه ودفعهم دفعا من وجهة نظر الى اخرى، ومن ثم الى العمل الفوري، وربما العمل العنيف. ومن هنا كان اعتراض كثير من الكتاب والنقاد الموضوعيين على ما يسمع بأدب الافكار، لأنه غالبا ما يستخدم الافكار لأغراض دعائية غير فنية وغير جمالية.

ونحن نعترف ان الفن بصفة عامة يعلمنا شيئا ما، ومع ذلك فهو لا يمكن ان يكون تعليميا بحتا، لو اراد مبدعه له ان يكون ناضجا ونابضا بالحياة. فالنظرة الى المضمون الفكري لعمل ما، تتفاوت من متلق الى آخر، ومن زمن الى اخر، ولذلك فإن اعداء التعليمية على الاطلاق، وكذلك انصارها، على خطأ بين. فاذا كان الشاعر والناقد الانجليزي صمويل جونسون قد قال: »واجب الكاتب دوما هو ان يجعل العالم افضل« فلابد انه كان يعنى انه اذا بالغ الانسان في حماسه للدعاية او الدفاع عنها، فإنه قد يبالغ ايضا في عدائه للدعاية التعليمية والاغراض التثقيفية بصفة عامة. والفن الناضج الواعي يرفض التطرف الى هذا الموقف او ذاك، لأن الفن يعلم ولكن بطريقته الفنية والدرامية والسيكولوجية والجمالية الخاصة به.
والشكل هو الذي يمنح العمل الفني معناه من خلال التتابع الحتمي بين مراحله النهائية. فالقصة مثلا لها بداية ووسط ونهاية، تبدأ من نقطة معينة تتضمن خطوطا محددة، تتوازى ثم تتشابك بحيث تؤدي الى النقطة التي تليها، وهكذا حتى نهاية القصة. والقارئ يستمتع لأنه يثير فيه الفضول والشوق لمعرفة ما سوف يلي، ثم يقوم باشباعها على نحو يرضي القارئ ويمتعه.

والحديث عن الشكل لابد ان يجرنا الى الحديث عن المضمون بحكم استحالة الفصل بينهما، فهما وجهان لعملة واحدة، هي العمل الفني نفسه. فالمضمون في العمل الفني يختلف اختلافا جذريا عن المضمون في مجالات المعرفة والتعبير التي نمارسها في حياتنا العملية. فعندما نقرأ مقالة في صحيفة يومية مثلا، فإننا ننتهي منها بمجرد ان نستوعب مضمونها المتمثل في وجهة نظر كاتبها، اما شكلها فلا يهم في كثير او قليل طالما انه قام بدور الموصل الجيد لافكار الكاتب، فالشكل عبارة عن وسيلة لغاية متمثلة في توصيل المضمون فحسب، اما في العمل الفني فالشكل والمضمون هما الوسيلة والغاية في اللحظة نفسها، فالمضمون لا تنتهي جدته بمجرد معرفته كما يحدث في المقال او الخبر الصحفي او البحث العلمي، بل يستمد جدته من الشكل الفني الذي لابد ان يكون جديدا بالضرورة. فمثلا استعار شكسبير مضمون مسرحياته من الاساطير والقصص التاريخية المعروفة، اي ان المضمون او الخبر فيها ليس جديدا او مهما في حد ذاته.
لكنه يستمد اهميته الجديدة من اندماجه في نسيج المسرحية لاحداث احساس معين، او تجربة نفسية يمر بها المتذوق، وهي التجربة التي تمثل الجانب العملي لمفهومنا المجرد عن الشكل الفني.

والمضمون من خلال الشكل لا يزود المتذوق بمعلومات جديدة عن شيء غامض، فهذه ليست مهمة الفن الذي يعتمد في جانبه العملي السيكولوجي على تزويد المتذوق بمنفذ للتنفيس عن نزعاته المكبوتة، وتنسيقها داخل البناء الفكري والخيالي للعمل الفني، وهي العملية التي اسماها إ. أ. ريتشاردز »بالقيمة« او القدرة على اشباع الاحساس والرغبة المثارة بطريقة او بأخرى.

فالفنان يستطيع ان يثير في نفس الجمهور حالات ذهنية وشعورية لاتقف عند مرحلة الاثارة، بل تنتقل الى مرحلة التناسق، حين تتخلص نزعات النفس من التشويش والاضطراب والتشتيت الذي تعاني منه من جراء ضغوط الحياة اليومية، وهي المرحلة التي تبدو فيها نزعات النفس وكأنها توشك على ان تتحقق، وبذلك يعوضنا الفكر والخيال عن النقص الذي نعاني منه في حياتنا العملية، والذي يمنعنا من التعبير عن هذه النزعات بطريقة عملية وصحيحة في آن واحد.
فالانغام والالحان ليست لها قيمة في حد ذاتها، وانما تنبع قيمتها من تتابعها في نظام معين، يحقق اثارة احساس المتلقي بالتوافق الطبيعي ولا يتأتى هذا الاحساس الا من خلال الشكل الفني. ويعتمد عند الحتمية في الشكل الفني على المفارقة، او التوازي، او المقارنة، او التنويع، او التوحيد، او التكرار، او المقابلة، او اي شكل اخر، يكسب العمل فردية، ويجعله يثير في نفوسنا احساسا يشبعه فيما بعد.

ولذلك هناك فارق اساسي بين الحادث والحدث، فالحادث الذي نقرأ عنه في صفحة الحوادث في الصحيفة اليومية هو غاية في حد ذاته، اما الحدث الذي يواكب الاحداث في قصته مثلا، فلا قيمة له في حد ذاته، ذلك ان قيمته لا تنفصل عن النسيج العام لأحداث القصة، ومن ثم عن شكلها الفني الذي لا يسعى وراء الحقائق والوقائع في ذاتها ولذاتها، وانما يخضع هذه الحقائق والوقائع لاثارة احساس معين واشباعه. والعمل الفني الناضج قادر في النهاية على اشباع رغبة المتلقي عن طريق الشكل العضوي المتكامل للعمل.

فصل الشكل عن المضمون ان الزعم بأن هناك »مضمون« في العمل الفني يمكن فصله عن الشكل الذي يصوغه الى تجربة مفهومة او معنى مفهوم، او بأن هناك شكلا فنيا يوجد منفصلا عن التجربة التي يتشكل من خلالها لهو قول غريب حقا. اذ ان الانسان يعرف على ابسط المستويات في الحديث العادي بأن الصيغة هي المعنى ـ فصيغة اي سؤال ـ على سبيل المثال ـ تحدد معنى السؤال، وهدفه، بل وايضا اذا كان سؤالا حقا ام لا.

فهناك صيغة انكارية، وصيغة تحدد الجواب الذي تريده مسبقا بحيث يحتوي السؤال على جوابه، وهناك صيغة استفهام حقيقي ـ بمعنى ان ذهن طارح السؤال يكون حقا في حالة بحث عن اجابة.. وهكذا. قد تظل كلمات السؤال واحدة، ولكن معناها يتحدد من خلال الصياغة الصوتية.

وهكذا في الفن ايضا: الشكل هو صياغة التجربة ومعناها في آن واحد. فمادة الحياة توجد حولنا، وتظل هلامية لا شكل لها ولا معنى طالما لم نعترك معها في صراع يتحدد من خلاله مفهوم كل منا لطبيعتها وطبيعة علاقتنا بها. والمفهوم الذي نصل اليه هو في نفس الوقت تصورنا لشكل هذه المادة الهلامية ـ اي هو في اساسه تشكيل نحاول توصيله الى الاخرين.

ان محاولة استخلاص قوانين فنية من اعمال فنية سابقة وفرضها فرضا تعسفيا على نزعة الابداع الفني او استقبال المتلقي للعمل الفني ـ اي محاولة استخلاص اساليب صياغة من ابداع سابق وفرضها باعتبارها قانون ابداع عالمي ـ انما هي في حقيقة الامر جهد ايديولوجي لا فني، فهي تمثل محاول ترسيخ طريقة صياغة معينة (ينبغي ان يلتزم بها كل مبدع ويتوقعه كل متلقي) بغرض ترسيخ تفسير معين للتجربة البشرية وتقييم حد لها في زمن ولى، واصبح يتهدده في زمن لاحق تفسير جديد ورؤية جديدة ــ اي اسلوب صياغة جديد. اي ان محاولة الحفاظ على اسلوب فني هي في حقيقة الامر محاولة للحفاظ على تصور معين للوجود الانساني ولمعنى التجربة الانسانية.

الفن نسق رمزي يلخص تجربة انسانية حياتية وهذا النسق الرمزي لا يكتسب وجوده الحي الا عندما يتصل بالحياة ليصبح من خلال تفاعله معها تجربة فنية. وعلى هذا، فمن الاجدى لنا عند الحديث عن الفن الا نتحدث عن شكل او مضمون، بل عن تجربة فنية. ويصدق هذا سواء كنا نتحدث عن الفن من وجهة نظر المبدع او المتلقي. واذا نظرنا للفن باعتباره تجربة تتشكل فنيا ومعنويا من خلال جدلها مع الحياة اصبحت قضية الفن للفن ام للحياة نوعا من السفسطة واختلاقا لعراك لا معنى له.

ولا يمكن تجاهل العنصر الفكري في الحيوية التي يجب ان تتمتع بها الدراما الناضجة. فالمضمون بالنسبة للشكل بمثابة الروح بالنسبة للجسد، واذا انفصل المضمون الفكري عن الشكل الفني فإن العمل الفني يسقط جثة لا حراك فيها (لا روح فيها)، وبالتالي فإنه يشطب من على خريطة الفن الانساني بعد ان فقد مبررات وجوده عليها.
الحقيقة الفنية أفلاطون يتهم الفنان بأنه لا يعرف شيئا يستحق الذكر من الموضوعات التي يصورها، والفن مجرد نوع من اللهو الذي لا ينبغي ان يؤخذ مأخذ الجد ـ فإن ارسطو حاول ان يدافع عن اهمية الفن بأن اكد ان للشعر وظيفة رفيعة وفلسفية، لأنه يعبر عما هو كلي وشامل.

وعندما ادعى انصار المذهب البيوريتاني (التطهري) من الانجليز في القرن السادس عشر ان الادب مزيف ومفسد، ومن ثم لا يمكن تبريره اخلاقيا، كتب الشاعر الانجليزي سير فيليب سيدني مقالته الشهيرة »دفاع عن الشعر«، وفيها استشهد بنظرية »الكلية او الشمول« الارسطية، التي ايد بها مفهومه الذي يؤكد ان الشعر يمد الذهن بمعرفة، وهو فن التعاليم الصحيحة. وفي القرن التاسع عشر هوجم الادب على اساس ان النهضة العلمية قد جعلت منه اثرا عميقا، عديم الجدوى، من بقايا طفولة المجتمع المتحضر، لكن الادب لم يعدم ـ كالعادة ـ من يدافع عنه من كبار الادباء والنقاد، من امثال شيللي وماثيو ارنولد وغيرهم من الذين تصدوا لتوضيح ما يكشفه الشعر من »حقيقة« و»معرفة« و»فكر«. لكن الحقيقة الفنية تختلف عن الحقيقة الواقعية بمعناها المألوف، الذي يجعل من الحقيقة صفة العبارات الواقعية المباشرة عن العالم. واذا كان كونراد يقول ان الفنان يشبه المفكر او العالم في البحث عن الحقيقة ـ فإنه يؤكد فارقا مهما بين هؤلاء الباحثين عن الحقيقة وبين الفنان الذي لا يهتم بالوقائع والنظريات، بقدر ما يهتم بقدرتنا على الابتهاج والتعجب،! والاحساس بالغموض الذي يغلف حياتنا.

فلابد للفنان ان يرغم الناس على ان يروا »المنظر المحيط بهم، بما فيه من شكل ولون، ونور وظلال، ويجعلهم يتوقفون كي يلقوا عليه نظرة. ويرى كونراد ان في هذا العمل كشفا »لكل حقيقة الحياة«، واحساسا حيا بنسيج العالم، لكن يظل الفنان غير منوط بتقديم وقائع ونظريات باعتراف كونراد نفسه.

كذلك يعترف فيليب سيدني بأن الشاعر لا يدلي بعبارات واقعية مباشرة، وقد تكون هناك بعض الاقوال غير الحقيقية في عمل الشاعر، لكن هذا لا يمس قيمة ما ينجزه، لأنه لا يقولها على انها حقيقة. وبذلك صد سيدني هجوم البيوريتانيين الذين يتهمون الشاعر بالكذب، واكد ان الشاعر لا يكتب بطريقة واقعية صريحة، مما يشكل فارقا مهما بين الحقيقة الفنية والحقيقة الواقعية بمعناها المألوف. ولذلك يوضح سيدني اننا نكتسب معرفة بالانفعالات البشرية عندما تتجسد امامنا بصورة عينية في الشعر، فاذا اردنا ان »نعرف قوة ما نشعر به من حب لبلادنا«، فيجب ان نقرأ عن يوليسيس، واذا »سعينا الى وعي بالغضب الانساني«، فلابد ان نرى آجاكس مجنونا.

ومع ذلك تظل »الحقيقة الفنية« من اشد الالفاظ غموضا، واكثرها تضليلا. وكل ما يمكن ان نستنتجه عنها من كلام سيدني او كونراد او غيرهما، انها شيء اشبه »بحيوية الخيال« او »المعنى الرمزي« او »القوة الانفعالية« لكننا لا نملك اليقين الذي يؤكد لنا ان هذه هي المعاني المقصودة على وجه التحديد، فأحيانا تدل على وحدة الشكل الفني للعمل، وتفترض ارتباط هذه الاجزاء فيما بينها ارتباطا عضويا، من خلال روح الاتساق والاحكام في العمل، وفي احيان اخرى تدل على الصدق الذي تفرضه نظرية المحاكاة المباشرة او الحياة النابضة، وفي احيان ثالثة تعنى »الماهية«. او التعبير عن سمعة مشتركة او شاملة في الوجود من خلال تصوير موضوع جزئي فيه، كذلك قد تعني عظمة العمل او عمقه الذي يشعرنا بالواقعية الفنية. وعلى هذا فإنه من الممكن التوسع في قائمة المعاني بلا حدود او قيود.

الفن ينفذ الى داخل المتذوق من خلال الحواس. خلال تأثيرات معينة في الجهاز العصبي. فالفكرة هي التي تشكل هذا الكيان لحظة بلحظة اي ان شكل العمل الفني ليس مجرد قالب يصب فيه المضمون. والا كان الانفصال العضوي بينهما سهلا. والعملية النقدية هي القيام بتحليل العمل للحكم على كيانه وقيمته والعمل الفني الناضج بطبيعته شديد التعقيد الا بتحليل نسيجة وارجاعه الى عوالمه الاولى.
والتحليل الموضوعي عن طريق دراسة العنصر بطريقة ارتباطه بالعناصر الاخرى. وعناصر الشكل والمادة والتعبير، بالنسبة الى العمل الواحد، لا وجود لها الا في داخل ذلك العمل، ففيه يؤثر بعضها في البعض ويتفاعل معه، وهي لا تكون على ما هي عليه، ولا تكون لها قيمتها الا نتيجة لعلاقتها المتبادلة. فالعمل الفني اكثر من مجرد ترتيب لعناصر مادية بهدف الوصول الى الشكل.
اذن الشكل والمضمون هما وجهان لعمله واحدة هي العمل الفني نفسه. فالمضمون في العمل الفني يختلف عن المضمون في مجالات المعرفة والتعبير التي نمارسها في حياتنا العملية. الشكل والمضمون في العمل الفني هما الوسيلة والغاية في نفس اللحظة.
والفنان الذي نجد في عمله فجوة بين الشكل الفني والمضمون الفكري للعمل الفني يعد فنانا ضعيفا ولم يستخدم ادواته ووعيه بشكل جيد. والمضمون الفكري من اول لحظة الى اخر لحظة هو جزء من العمل الفني.

وجهان لعملة واحدة ..

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى