السبت ١ أيار (مايو) ٢٠٠٤
بقلم مهند عدنان صلاحات

العلمانية

ضرورة للتغيير في المجتمعات وخاصة العربية !!

العلمانية من المصطلحات الحديثة التي دخلت معجمنا العربي المعاصر ويعود ذلك لحداثة ظهورها من ناحية وسرعة انتشارها من ناحية أخرى عدا على أنها غدت إذا أمكن أن نسميها القاسم المشترك بين أيدلوجيتين متضادتين الأيدلوجية الليبرالية والشيوعية.

ولأنها اجتاحت وطننا العربي وصارت نهج معظم مجتمعاتنا التي تخلت عن العادات والتقاليد المستمدة من الدين لصالح العلمانية لذا وجب البحث في العلمانية التي غدت أيدلوجية قادرة على تحقيق الطموح الحقيقي بالحرية والمساواة في المجتمعات.

1 ـ ما هو المفهوم الحقيقي للعلمانية؟

2 ـ ما هو تاريخ نشأة العلمانية؟

3 ـ من هم الذين أنشؤوا العلمانية؟

4 ـ ما البيئة أو الظروف التي نبتت فيها العلمانية في العالم والوطن العربي؟

5 ـ لماذا تبنى الراديكاليين العرب العلمانية كنهج ثوري؟

6 ـ من هم الأفراد المتحمسون للعلمانية والمدافعون عنها في وطننا العربي؟

7 ـ ما هو الهدف والغاية الجوهرية لتبنِّي العلمانية؟

8 ـ ما هي المجالات والأبعاد التي تمسها العلمانية عند تبنيها؟

9 ـ هل العلمانية مجرد رؤية أو فكرة أو مبدأ، أو أنها نظام حياة متكامل مترابط (أيدلوجية)؟

10 ـ ما هي المجالات أو الميادين التي تصطدم مع العلمانية وتتعارض معها وتناقضها؟

11 ـ العولمة والعلمانية التقاء أم اختلاف؟

هذه الأسئلة هي ما يمكن أن نفصل به العلمانية ونضعها على طاولة التشريح ونتناول مبضع الجراح ونبدأ بتشريحها, مع أنني على ثقة تامة بأن فكرة مثل العلمانية لا يمكن أن يحصرها مقال أو دراسة فهي غدت منهج حياتي وفكرة عالمية إلا أننا سنحاول أن نجيب على هذه التساؤلات ـ عند حصرها وترتيبها ـ الإطار العام الذي يجب أن نتناول فيه موضوع العلمانية سواء لأغراض تحليلها أو تقييمها .

وهنا يأتي دور السؤال الذي يطرح نفسه أيضا هل للعلمانية علاقة بالعولمة؟ العلمانية بوصفها نظاماً أو فكرة شمولية عالمية، والعولمة : بوصفها كل العمليات التي تكتسب بها العلاقات الاجتماعية نوعا من عدم الفصل (سقوط الحدود) وتلاشي المسافة؛ حيث تجري الحياة في العالم كمكان واحد -قرية واحدة صغيرة- ومن ثم فالعلاقات الاجتماعية التي لا تحصى عددا أصبحت أكثر تنظيما واتصالا على أساس تزايد سرعة ومعدل تفاعل البشر، وتأثرهم ببعضهم البعض.
وفي الواقع يعبر مصطلح العولمة عن تطورين مهمين، هما: التحديث، والاعتماد المتبادل، ويرتكز مفهوم العولمة على التقدم الهائل في التكنولوجيا والمعلوماتية، بالإضافة إلى الروابط المتزايدة على كافة الأصعدة على الساحة الدولية المعاصرة.،هذا النظام العالمي (العولمة) الذي يستحيل أن ينشأ وينمو في المجتمعات ما لم يكن قد هيئ له جو مناسب وتربة خصبة قابلة لاستيعابه، وكذلك ما لم تتوفر الأساليب والأدوات المتكاملة لإحداث الإخصاب المستمر لهذه التربة لكي تصبح حاضنة مناسبة لمفاهيم والعولمة.

1 ـ ما هو المفهوم الحقيقي للعلمانية؟ : العلمانية كمصطلح هي ترجمة للكلمة اللاتينية (SECULARISM) ويأتي أيضا كما ورد في دائرة المعارف البريطانية في مادة (SECULARISM): على انه يمكن أن يكون لترجمتها الحرفية معنى اللادينية أو الدنيوية, كما يؤكد أن ترجمة الكلمة اللاتينية هي اللادينية؛ ما أورده معجم أكسفورد شرحاً لكلمة (SECULAR): (1) دنيوي أو مادي، ليس دينياً ولا روحياً مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة. وهي مشتقة من كلمة لاتينية "سيكولوم Saeculum"، وتعني أيضا العالم أو الدنيا و توضع في مقابل الكنيسة،
وقد اتسع المجال الدلالي للكلمة على يد جون هوليوك (1817-1906م) الذي عرف العلمانية بأنها: "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض".

وقد اختلف الكثيرين من المفكرين والفلاسفة العرب في تعريف العلمانية , فكل منهم عرفها طبقا لمؤيد ومعارض، على سبيل المثال يرفض المفكر المغربي محمد عابد الجابري تعريف مصطلح العلمانية باعتباره فقط فصل الكنيسة عن الدولة، لعدم ملاءمته للواقع العربي الإسلامي، ويرى استبداله بفكرة الديموقراطية "حفظ حقوق الأفراد والجماعات"، والعقلانية "الممارسة السياسية الرشيدة".

في حين يرى د.وحيد عبد المجيد الباحث المصري أن العلمانية (في الغرب) ليست أيديولوجية -منهج عمل- وإنما مجرد موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشئون الدينية. ويميز د. وحيد بين "العلمانية اللادينية" -التي تنفي الدين لصالح سلطان العقل- وبين "العلمانية" التي نحت منحى وسيطًا، حيث فصلت بين مؤسسات الكنيسة ومؤسسات الدولة مع الحفاظ على حرية الكنائس والمؤسسات الدينية في ممارسة أنشطتها.

وفي المنتصف يجيء د. فؤاد زكريا-أستاذ الفلسفة- الذي يصف العلمانية بأنها الدعوة إلى الفصل بين الدين و السياسة، ملتزماً الصمت إزاء مجالات الحياة الأخرى (الاقتصاد والأدب) وفي ذات الوقت يرفض سيطرة الفكر المادي النفعي، ويضع مقابل المادية "القيم الإنسانية والمعنوية"، حيث يعتبر أن هناك محركات أخرى للإنسان غير الرؤية المادية.

ويقف د. مراد وهبة - أستاذ الفلسفة- و كذلك الكاتب السوري هاشم صالح إلى جانب "العلمانية الشاملة" التي يتحرر فيها الفرد من قيود المطلق والغيبي وتبقى الصورة العقلانية المطلقة لسلوك الفرد، مرتكزًا على العلم والتجربة المادية.

ويتأرجح د. حسن حنفي بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ويرى أن العلمانية هي "فصل الكنيسة عن الدولة" كنتاج للتجربة التاريخية الغربية،ويعتبر د.حنفي العلمانية -في مناسبات أخرى- رؤية كاملة للكون تغطي كل مجالات الحياة وتزود الإنسان بمنظومة قيمية ومرجعية شاملة، مما يعطيها قابلية للتطبيق على مستوى العالم , وأيضا كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري عن العلمانية أن الكتابات التي تطرقت للعلمانية تميز بين نوعين: هما العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة.

1) العلمانية الجزئية: هي رؤية جزئية للواقع لا تتعامل مع الأبعاد الكلية والمعرفية، ومن ثم لا تتسم بالشمول، وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة، وربما الاقتصاد وهو ما يُعبر عنه بعبارة "فصل الدين عن الدولة"، ومثل هذه الرؤية الجزئية تلزم الصمت حيال المجالات الأخرى من الحياة، ولا تنكر وجود مطلقات أو كليات أخلاقية أو وجود ميتافيزيقا وما ورائيات، ويمكن تسميتها "العلمانية الأخلاقية" أو "العلمانية الإنسانية".

2) العلمانية الشاملة: رؤية شاملة للواقع تحاول بكل صرامة تحييد علاقة الدين والقيم المطلقة والغيبيات بكل مجالات الحياة، ويتفرع عن هذه الرؤية نظريات ترتكز على البعد المادي للكون وأن المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق وأن الإنسان يغلب عليه الطابع المادي لا الروحي، ويطلق عليها أيضا "العلمانية الطبيعية المادية"(نسبة للمادة و الطبيعة).

ويعتبر الفرق بين ما يطلق عليه "العلمانية الجزئية" وما يسمى "العلمانية الشاملة" هو الفرق بين مراحل تاريخية لنفس الرؤية، حيث اتسمت العلمانية بمحدوديتها وانحصارها في المجالين الاقتصادي والسياسي حين كانت هناك بقايا قيم مسيحية إنسانية، ومع التغلغل الشديد للدولة ومؤسساتها في الحياة اليومية للفرد انفردت الدولة العلمانية بتشكيل رؤية شاملة لحياة الإنسان بعيدة عن الغيبيات، واعتبر بعض الباحثين "العلمانية الشاملة" هي تجلي لما يطلق عليه "هيمنة الدولة على الدين, وقياسا على ذلك فلقد مرت العلمانية الشاملة بثلاث مراحل أساسية:

1) مرحلة التحديث: حيث اتسمت هذه المرحلة بسيطرة الفكر النفعي على جوانب الحياة بصورة عامة، فلقد كانت الزيادة المطردة من الإنتاج هي الهدف النهائي من الوجود في الكون، و لذلك ظهرت الدولة القومية العلمانية في الداخل و الاستعمار الأوروبي في الخارج لضمان تحقيق هذه الزيادة الإنتاجية، و استندت هذه المرحلة إلى رؤية فلسفية تؤمن بشكل مطلق بالمادية و تتبنى العلم و التكنولوجيا المنفصلين عن القيمة، و انعكس ذلك على توليد نظريات أخلاقية و مادية تدعو بشكل ما لتنميط الحياة.

2) مرحلة الحداثة: وهي مرحلة انتقالية قصيرة استمرت فيها سيادة الفكر النفعي مع تزايد وتعمق أثاره على كافة أصعده الحياة، فلقد واجهت الدولة القومية تحديات بظهور النزعات الإثنية ، وكذلك أصبحت حركيات السوق (الخالية من القيم) تهدد سيادة الدولة القومية، واستبدل الاستعمار العسكري بأشكال أخرى من الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي، واتجه السلوك العام نحو الاستهلاكي.

3)مرحلة ما بعد الحداثة: حيث الاستهلاك هو الهدف النهائي من الوجود ومحركه اللذة الخاصة، واتسعت معدلات العولمة لتتضخم مؤسسات الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية الدولية وتتحول القضايا العالمية من الاستعمار والتحرر إلى قضايا البيئة والإيدز وثورة المعلومات، وتضعف المؤسسات الاجتماعية الوسيطة مثل الأسرة، لتحل محلها تعريفات جديدة للأسرة : رجلان وأطفال- امرأة وطفل- امرأتان وأطفال…)، كل ذلك مستنداً على خلفية من غياب الثوابت المعايير الحاكمة لأخلاقيات المجتمع والتطور التكنولوجي الذي يتيح بدائل لم تكن موجودة من قبل في مجال الهندسية الوراثية.

ورغم خروج مصطلح "علمانية" من رحم التجربة الغربية، إلا أنه انتقل إلى القاموس العربي، مثيرًا للجدل حول دلالاته وأبعاده، والواقع أنه بالرغم من الجدل حول مصطلح "العلمانية" في ترجمته العربية إلا انه يعد إفرازاً طبيعياً وبدء مرحلة الحداثة في الفكر والممارسة العربية عما كان عليه الفكر السابق القديم الوراثي في البيئة المتوارثة.

2 ـ متى نشأت العلمانية عالميا ؟ ومتى وكيف وصلت إلى المنطقة العربية ؟

3 ـ على يد من أنشئت العلمانية؟

4 ـ ما البيئة أو الظروف التي نبتت فيها العلمانية؟

ارتبطت نشأة العلمانية في أوروبا بظهور البرجوازية ، خاصة في عصر النهضة ،وكانت نتيجة صراع قوي بين البرجوازية والإقطاعية وسلطات الكنيسة, ففي تلك الفترة الإقطاعية كانت وسائل الإنتاج جميعا ملك للكنيسة والإقطاع فكانوا يتولون مهمة إيجاد الأيدي العاملة المشغلة لوسائل الإنتاج التي كان أهمها الأرض وكانت الكنيسة تحصل على حصتها خالصة من الإقطاعيين , تطور وسائل الإنتاج والثورة الصناعية أدى لظهور الطبقة البرجوازية وسعيهم لتملك وسائل الإنتاج ومحاولاتهم للتخلص من تسلط الكنيسة وطغيانها ومحاولتها الوقوف بوجه أي محاولة للتقدم العلمي ( كإعدام العالم جاليلو لمجرد إثباته نظرية علمية رأت فيها الكنيسة انها تخالف تعاليمها) وغيرها الكثير من استبداد الكنيسة التي كانت أعلى سلطة روحية إلى جانب سلطة الإقطاع, ونتيجة لهذا الصراع استطاع البرجوازيون من الانتصار على سلطات الكنيسة وتدمير سلطات الإقطاع.

و صورة هذه الثورة البرجوازية تبدو بصورة أوضح في البيان الشيوعي الذي كتبه: كارل ماركس و فريدريك أنغلز أواخر سنة 1847 حيث جاء فيه ما يلي :

البرجوازية حيث ظفرت بالسلطة دمرت كل العلاقات الإقطاعية من كل لون, التي كانت تربط الإنسان بسادته الطبيعيين, و لم تُـبق على أية رابطة بين الإنسان و الإنسان سوى رابطة المصلحة البحتة, و الإلزام القاسي بـ "الدفع نقدا". و أغرقت الرعشة القدسية للورع الديني, و حولت الكرامة الشخصية إلى قيمة تبادلية, و أحلّت حرية التجارة الغاشمة وحدها, محل الحريات المُـثـبَتة و المكتسبَة التي لا تحصى. و بكلمة أحلّت استغلالا مباحا وقحا مباشرا و شرسا, محل الاستغلال المُغلَّف بأوهام دينية, و البرجوازية نزعت حجاب العاطفية عن العلاقات العائلية و قَصَرتها (العلاقات) على علاقات مالية بحتة, و البرجوازية كشفت كيف أنّ عرض القوة الشرسة, الذي كانت الرجعية تُعجَب به في القرون الوسطى, قد وجد تتـمّـته المواتية في التكاسل إلى أبعد حدود الكسل. فهي الأولى, التي بيَّـنت ما يستطيع النشاط الإنساني إتيانه. فأتت بعجائب تختلف كليا عن أهرامات مصر, و الأقنية الرومانية, و الكاتدرائيات القوطية, و قامت بحملات تختلف كليا عن الاجتياحات و الحملات الصليبية...

فالبرجوازية, في غضون سيطرتها الطبقية التي لم يَكد يمضي عليها قرن من الزمن, خَلقت قوى منتجة تفوق بعددها وضخامتها ما أوجدته الأجيال السابقة كلّها مجتمعة. فالآلة, و إخضاع قوى الطبيعة, و استخدام الكيمياء في الصناعة و الزراعة, و الملاحة البخارية, و سكك الحديد, و التلغراف الكهربائي, و استصلاح أراضي قارّات بأكملها, و تسوية مجاري الأنهار لجعلها صالحة للملاحة, و بروز عوامر كاملة من الأرض - أيّ عصر سالف كان يتصوّر أنّ مثل هذه القوى المنتجة كانت تهجع في صميم العمل المجتمعيّ؟**

(البيان الشيوعي)

هكذا بدأت العلمانية التحررية التي قادها البرجوازيون إلى تحرير المجتمع الأوروبي من قيود الكنيسة التي كانت تحول دون التطور بالاتجاه الرأسمالي. الأمر الذي غذى اتجاهات فكرية وسيكولوجية وتاريخية، شكل ثورة على المؤسسة المدنية. هذه العملية عملية التحول من سيطرة الكنيسة إلى الثورة العلمانية، أسهمت بنجاحها إلى حد كبير، الأفكار الكنسية ذاتها، والتي تعترف بتقسيم الحياة إلى "ما يخص الله وما يخص القيصر"، خاصة وان الديانة المسيحية تفتقد إلى نظام تشريعي ينظم شؤون حياة الناس اليومية، إلا أن ذلك لم يمنع بطبيعة الحال العقبات التي وضعتها طبقة رجال الدين في وجه الثورة العلمانية، فهذه الطبقة طبقة القساوسة ممن يدعون تمثيل الله على الأرض.

4ـ ما هي البيئة أو الظروف التي نبتت فيها العلمانية في العالم والوطن العربي؟

5 ـ لماذا تبنى الراديكاليون والليبراليون العرب العلمانية كنهج ثوري للتغير والتحرر؟

أما العلمانية في منطقتنا العربية، فقد نشأت في ظروف مغايرة تماما، فحتى مطلع القرن التاسع عشر، كانت المنطقة العربية بأكملها تستمد فكرها وعاداتها وقوانينها من مواريث الإسلام وبقايا المسيحية, إلا أن الحقبة الاستعمارية التي دشنتها الحملة الفرنسية عام 1798، والثورة الصناعية في أوروبا وظهور وسائل الإعلام وبدء مرحلة الانفتاح على العالم أدخلت تلك القيم الثورية إلى المجتمعات العربية و مهدت الطريق تدريجيا إلى تحولات فكرية واجتماعية وسياسية، نتجت عن أنماط السلوك التي جاء بها الغرب إلى هذه المنطقة. وفي بدايات تلك الحقبة، شهدت منطقتنا تسريبا هادئا لنمط سكاني جديد تبناه بعض المتحمسين والراغبين في الخلص من نفس النمط الديني المسيطر الذي جسد أيضا تسلط ديني لكنه كان ناتج عن استبداد الدولة العثمانية ورغبة الكثيرين بالتخلص من قيودها التي غدت بنظرهم أبشع من الاستعمار لما تمارسه من اضطهاد عرقي وممارستها للتقاليد الإقطاعية من خلال نظام السخرة والاستعباد والتمييز العرقي يمكن الأخذ بها لانتشال المجتمع العربي مما كان يعانيه بشكلٍ عام من أمراضٍ متنوعة وخطيرة كالقبلية والعشائرية والطائفية وانتشار البنى الاجتماعية الفاسدة وتدخُّل رجال الدين يشكل مباشر وغير مباشر بالشؤون الزمنية للمجتمع وسيطرة الطريقة المشوهة للتفكير الديني على معظم طرائق التفكير, فبدأ الكثيرين من أبناء المجتمعات العربية يتبنّى الفكر العلماني كحل لمشاكل ربط الدين بالدولة , وتغييب العقل والمنطق في التفكير الاجتماعي, وكعامل مهم في بناء مجتمعات عربيّة سليمة متخلّصة من مفاسدها, قادرة على مواجهة التحديات الجسيمة التي تنتظرها وقادرة أيضا على حل المصائب التي علقت بها.

*ـ ما هي المجالات أو الميادين التي تصطدم مع العلمانية وتتعارض معها وتناقضها في مجتمعاتنا العربية؟.

ونتيجة لصراع حول مفهوم العلمانية بين مؤيد ومتبني ومعارض مناهض للموقف،فبدأ المعارضون لها يؤولون حتى في تفسيرها. ويلاحظ أيضا أن رواد العلمانية في الوطن العربي كانوا في معظمهم من غير المسلمين، مما أسهم في تبريرات النمط المعادي للعلمانية للعمل ضدها باعتبارها تهدف إلى تدمير الدين الإسلامي، مع أنها في واقع الأمر تعمل في سبيل الحد من تأثير الدين، أي دين، على سلوك وحياة وقوانين النشاط الإنساني، وهكذا ظهر بين مصلحي تلك الفترة – أعوام النشأة الأولى للعلمانية – اتجاهات، أحدهما إسلامي والآخر مسيحي، إذ اعتبر أصحاب الاتجاه الأول أن ضرورة السعي لتحقيق التحديث والتطور، لا يعني بالضرورة التخلي عن منجزات الحضارة الإسلامية، وكان من أبرز رموز هذا الاتجاه رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وعبد الحميد بن باديس، وكان هؤلاء من أكثر المتشددين دينيا الذين كانوا يصرون على التمسك بالقيم والأفكار التقليدية القديمة ومنع أي محاولة لمنح الشعوب العربية لتجربة الحرية العلمانية بحجة انها فكرة غربية كافرة تشوه الدين الإسلامي وتحيده , وأيضا لأنها تحد من السلطة الدينية كسلطة الأزهر والحوزة العلمية. أما الاتجاه الآخر، المسيحي فقد تشكل من مجموعة من المسيحيين، العرب وأبرزهم شبلي شميل وفرح أنطون وجورجي زيدان ويعقوب صروف وسلامة موسى ونيكولا حداد، ونزع هؤلاء إلى تغليب الهوية الدينية القومية على النزعة الدينية.!

ورغم الجهد الحقيقي الذي بذله هؤلاء ، ومن تبعهم فيما بعد مثل قاسم أمين واحمد لطفي السيد، إلا أن الاجتهادات الخاطئة كان لها الدور الأبرز في عدم نجاح العلمانية في بدايات نشوئها في منطقتنا العربية من أن تسود. ومن أهم هذه الاجتهادات المغلوطة ما روجته "طبقة الرجعيين" من أن العلمانية هي رديف للكفر والإلحاد، و"كمذهب" مناوئ للديانات السماوية وللإسلام على وجه الخصوص، حتى بات الحديث عن العلمانية من المحرمات والممنوعات، ونالها من التشويه ما نال "الشيوعية والاشتراكية" فيما بعد، ليس بسبب قصور فهم هذه الطبقة، ولكن لضمان استمرار سيطرتهم على قنوات الفكر والتشريع وبالتالي التأثير الذي يشكل العناصر الأساسية لبقاء هذه الطبقة كجزء من الطبقة الحاكمة أو على الأقل كسند لها، تلعب دورا في توعية الرأي العام وفقا لمصالح النظام السياسي القائم الذي وجد في هذه الطبقة خير معين على تجنيد تفسيرهم للدين لضمان بقاء سطوة الحكام وسيطرتهم.

ولأن العلمانية، كفكرة ومفهوم وممارسة، تظل من أكثر الموضوعات المثيرة للجدل في الفكر العربي المعاصر، فان النقاش حولها لم يتوقف أو ينقطع منذ بداية انتشارها في المجتمعات العربية وحتى اليوم. فطوال هذه الفترة شكلت العلمانية ما يشبه "الثورة التحررية" تركت أثرا عميقا على الفكر العربي. ولا شك أن تلازم مفهوم العلمانية مع الحملة الاستعمارية، جعل منها لدى البعض دخيل حضر مع الاستعمار وفكرة منتسبة إلى سياق حضاري وتاريخي، ليس غريبا، بل معاديا أيضا، الأمر الذي شوه النقاش الحر حول هذه الفكرة الرائدة، ووضعه منذ البداية في سياق لم يوفر أرضية صالحة للوصول إلى موقف مبني على الفهم والتروي، من هنا فقدت العلمانية أهم العناصر الضرورية كي توضع على مشرحة التفكير الجاد، بسبب الحكم المسبق عليها، اذ ظلت النقاشات حول هذا المفهوم، تدور في إطار مجال أيديولوجي وسط خوف أكيد من اتهامات بالكفر والإلحاد لكل من يتحمس لهذه الفكرة.

وتبدو هذه الصورة واضحة من خلال المراجع العربية التي ناقشت موضوع العلمانية،فمحاولة البحث بين المراجع العربية التي تطرقت للموضوع نجد أن معظم هذه المراجع تتناول هذا المفهوم بكثير والتسرع والهشاشة وفقرها، مع ذلك هناك عدد منها – على قلتها – من المراجع التي يمكن أن تعتبر مجالا لحوار جاد ونقاش متزن حول هذا النظرية الرائدة، وأحد هذه المراجع الهامة، كتاب "العلمانية تحت المجهر" (الصادر من دار الفكر المعاصر- دمشق – 2000) لمؤلفيه عبد الوهاب المسيري وعزيز العظمة، هذا الكتاب يضم بين دفتيه رأيين متباينين تماما، ويشمل خلافا حادا وموقفا مضادا، إلا أن ما يميزه هو الجدل الهادئ المتزن البعيد عن التزمت والتصلب، فلكل من الكاتبين الكبيرين، أو بالأحرى المفكرين العربيين، رؤية مضادة للآخر ويعتبر مثل هذا النقاش الهادئ والجاد، هو ما يلزم الساحة العربية من حوار بين المختلفين دون أن يتهم طرف طرفا آخر بالنعوت والأوصاف لمجرد الخلاف في الرأي والتفكير.

يرى عزيز العظمة أن العلمانية تطورت وفق متتالية تاريخية محصور أساسا في السياق العربي، وعكست الأزمات والحلول والصراعات والمساومات السياسية والفكرية والنظرة الفلسفية وعلاقة السلطة الدينية بالزمنية، وان هذه المتتالية تأسست بالتدرج وشملت فكر التنوير منذ بداية اندثار العصور الوسطى في عصور الثورة الفرنسية والأميركية إلى الثورة الصناعية والحداثة، بما تتضمنه هذه المتتالية التاريخية من حركات استثمار وإمبريالية وصولا إلى العولمة، إلا أن المسيري لا يفصل بين هذه المتتاليات، وان من حيث تطورها الداخلي أو اعتمادها على التقدم والتطور، الأمر الذي ينتهي إلى نتيجة يمكن اعتبارها مضللة، وهي أن العلمانية والحداثة والاستثمار والعلمانية والعولمة، وما بعد الحداثة، ليست سوى مسميات لشيء واحد هو نمط التطور والسيطرة الغربية في العالم سياسيا وفكريا وعلميا، ويرى المسيري أن مفهوم العلمانية أبعد من فصل الدين عن الدولة، كون هذا المفهوم يشمل رؤية تفسيرية شاملة للعالم والكون ترتكز على عناصر واضحة مادية وعقلانية صلبة ترفض أي مرجعية أخرى.

وبينما يرى العظمة أن تعريف العلمانية أمر بالغ التعقيد، ولا يعني تفسيرها لفظا، كونها تعكس صيرورة تاريخية أكثر منها رؤية للعالم، كما يرى المسيري، إلا أن المفكرين يتفقان على أن منشأ العلمانية ومهدها كان في أوروبا، إلا أن العظمة يرى فيها تجاوزا لهذا المنشأ الأوروبي مما يؤدي إلى تحولات بالغة السعة والعمق، بحيث باتت تشكل شأنا من شؤون حياتنا التي لا مفر منها في سياق ترتيب علاقة الدين بالمجال العام. من هنا ينكر العظمة على الخطاب العربي ربطه الوثيق العلمانية بالاستعمار، ويرى أن تلك المرحلة انتهت وأن العلمانية هي نتاج تحولات عالمية قربت العالم بعضه من بعض.

ورغم الثناء الذي لا بد منه للطريقة التي تم بها الحوار بين المفكرين العربيين، إلا أن ذلك لا يمنع من القول أن نبرة السجال انطوت في بعض الأحيان على تفسير متبادل، وهو الأمر الذي نهى عنه كلاهما، مع ذلك يبقى لهذا السجال تأثيره الموضوعي في الاطلاع على وجهتي نظر مختلفتين إزاء قضية ما زال الموقف منها مدارا لجدل لم يحسم بعد!

ـ ما هي المجالات والأبعاد التي تمسها العلمانية عند تبنيها؟

ـ هل العلمانية مجرد رؤية أو فكرة أو مبدأ، أو أنها نظام حياة متكامل مترابط (أيدلوجية)؟
وإذا كانت العلمانية هي أيدلوجية متكاملة تقوم أولا على فصل السلطتين الدينية والسياسية، فإنها تعني أيضا ضمان احترام المعتقدات الدينية والهويات الثقافية والروحية للشعوب والمجتمعات، كما تعني أن للدولة قانونا واحدا يسري على جميع المواطنين حقوقا وواجبات بصرف النظر عن الهوية الدينية، ودون تخصيص ديني أو طائفي، هذه الرؤية هي التي ساعدت فيما بعد على ازدهار الفكرة العلمانية في المجتمعات البشرية ، لأنها في المقام الأول رسالة حرية ومساواة , وفكرة تحررية من أي قيود دينية أو عقائدية يمكن أن تقيد حرية وفكر الفرد في داخل مجتمعه.

-العلمانية والعولمة ارتباط أم اختلاف :

والعولمة تقوم بهدم الحدود والفواصل وتوسيع فرص التجانس والتوحد بين شعوب العالم، وتهدف إلى إزالة الفوارق بين الأفراد، وتشمل مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والفن والثقافة، بما يؤدي إلى تعميق المجتمع المدني لحسم قضية الصراع الأيديولوجي بين الحضارات لتكون الهيمنة للثقافة الدولية وقيم المجتمع الدولي وأخلاقياته!

ونرى أن مجرد التدقيق الموضوعي المحايد لمضمون مفهومي العلمانية والعولمة يوضحان مدى الارتباط القوي بين نشأتهما وبقائهما، وبين تمييع الهوية الدينية وفقدانها؛ حيث يؤدي ذلك إلى تهيئة المجتمع لدخول العلمانية والترحيب بالعولمة ونموها؛ لأنه مع إسقاط الهوية الدينية عبر العولمة عن المجتمع يتيح المجال لالتقاء الفكرتين معا وتكون أحدهما مقدمة للأخرى ومعبدة لطريق للوصول لمجتمع حر مفكر علماني لا ديني, هذا بالطبع الوجه الجيد لالتقائهما. إلا أن تصدر الولايات المتحدة الأمريكية على رأس الدول الدول التي بدأت بمشروع العولمة يوقع العولمة بمأزق كبير جديد ومعضلة, فالولايات المتحدة لم تكن لتبدأ بمشروع العولمة لتسهيل مهمتها في الاستعمار الاقتصادي السياسي والفكري للعالم وليس لنشر المبادئ السامية للعلمانية, فهذه العولمة الأمريكية ستؤدي حتماً إلى التبعية الاقتصادية والسياسية لغيرها من الشعوب كانت من الشعوب العلمانية أو الدينية، ويؤكد هذا الكلام ما تقوم به أمريكا عبر برنامجها في العولمة تجاه غيرها من حضارات دول العالم الثالث وما ترد الأخرى في مقاومة اتجاهات الهيمنة الأمريكية.

ولذا يمكن القول: إنه لا يمكن نجاح أي مشروع علماني تنموي ثوري وحقيقي دون كبح جماح الوحش الإمبريالي الأمريكي.

في النهاية: العلمانية مبدأ فكري أصيل متحرر , يحاول إيجاد إنسان حر بعيد عن أي قيود دينية أو فكرية أو عقائدية تكبح من جماح حريته وحقوقه المشروعة وهي ترتبط في أيدلوجيات معاصرة كالليبرالية والاشتراكية ويجب الحفاظ عليها في عصر العولمة المزيفة التي تقودها الولايات المتحدة حتى تحقق الهدف الحقيقي من نشأتها

ضرورة للتغيير في المجتمعات وخاصة العربية !!

مشاركة منتدى

  • بداية بحثت كثيرا حول موضوع العملانية ماهيتها واراء مختلفة فيها الا انني صراحة لم اجد بروعة هذا المقال الذي رايت فيه من الدقة والنظرة المجردة الثاقبة
    فعلا ان الكاتب ابدع فيما كتب
    كل الشكر والتقدير للكاتب الفلسطيني الرائع ولموقع ديوان العرب الذي انتقى فعلا نخبة من الكتاب

    عرض مباشر : مقال رائع

  • الحقيقة كل الشكر والتقدير لموقع ديوان العرب الذي سمح بهذه المساحة الرائعة والفرصة الجميلة للالتقاء برفيق سابق لنا هو الرفيق مهند صلاحات الذ بق كما عهدناه يوما حادا في قلمه

    الرفيق اسامة النجدي
    رام الله
    فلسطين

  • اخي كل الشكر لكـ على ماطرحته ولكن العلمانيه فكر اصيل لا اعتقد فالعلمانيه هي فصل الدين عن الحياه ولا اعتقد ان الكل يواقفك على هذا نحن كمسلمين ضد هاذي الفكره نهائيا ما ينصه علينا شريعتنا وديننا الحنيف فأذا فصلنا هذه عن الأخرى وانا نا محماس اتحدث عن المسلمين فقط جائتك المصائب والكوارث التي لن نتحمل عقباها واشكرك مره اخرى على ماطرحته والسلام ختام

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى