الأحد ١٣ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم إبراهيم عوض

(العمامة والقبعة) لصنع الله إبراهيم

وتيار الكتابة الاستمنائية!

فى منتصف تسعينات القرن المنصرم فكرتُ أن أجعل من "العمامة والقبعة" صورة غلاف لكتاب من كتبى كنت بصدد إصداره فى ذلك الحين عنوانه: "السجع فى القرآن"، وهو كتاب قمت بترجمة البحث المنشور فيه عن الإنجليزية ثم ألحقت به دراسةً تناولتْ ما يحتوى عليه من آراء كان لى بشأنها رؤية أخرى تختلف كثيرا عن رؤية المستشرق صاحب البحث. وكان فى ذهنى أن تشير القبعة إلى الطرف الغربى الذى يمثله المستشرق مؤلف الدراسة المذكورة، والعمامة إلى الطرف المسلم الذى أمثله أنا. بيد أن التصميم الذى أرانيه الطابع وقتها لم يعجبنى، فألغيته واستبدلنا به تصميما زخرفيا يقوم على بعض الأشكال الهندسية. ومع هذا فلى كتاب آخر اسمه "المستشرقون والقرآن" صدر فى طبعته الثانية منذ عدة سنوات (على وجه التحديد عام ٢٠٠٣م) يرى القارئ على غلافه صورة قبعةٍ رمزًا للاستشراق، ومعها صورة المصحف رمزا للقرآن، الطرف الثانى من المعادلة التى يشير إليها العنوان. من هنا رأيتُنى، عند وقوعى على بعض العروض النقدية فى عدد من المواقع المشباكية حول رواية "العمامة والقبعة" لصنع الله إبراهيم منذ أيام حين كنت أعسّ كعادتى بين الحين والحين وراء ما أحتاجه من كتبٍ وموادَّ منشورةٍ على المشباك، أتحمس لقراءتها، وبخاصة أنها تتناول موضوعا حيويا وهاما، ألا وهو الحملة الفرنسية التى هجمت على مصر أواخر القرن الثامن عشر ودامت ثلاث سنوات إلى أن قيض الله سبحانه وتعالى لأرض الكنانة أن تتخلص من كابوسها المرعب.

والواقع أننى حين استطعت الوصول إلى كتاب صنع الله إبراهيم على المشباك وتنزيله بعد عدة محاولات فى الأشهر الماضية شعرت بقسط من السرور كبير، فقد كنت أمنّى النفس بوليمة فنية تعوضنى عن الرواية الضئيلة الشأن التافهة القيمة التى قرأتها له فى منتصف تسعينات القرن الماضى وأصابتنى قراءتها بخيبة أمل لا توصف، إذ ألفيت مستواها الفنى متدنيا غاية التدنى، وموضوعها يدور حول السجن وما فيه من حرمان جنسى يؤدى بالمسجونين إلى الاستمناء، وإلى اللواط بمن يسوقهم حظهم التاعس من الصبيان المساكين إلى مرافقتهم فى السجن. ولهذا أطلقت على تلك الرواية، وعنوانها "شرف": "الرواية الاستمنائية". ذلك أننى لم أجد فيها تقريبا شيئا آخر، واستغربت أشد الاستغراب أن يعكف روائى تطنطن له الصحافة وأقلام الكتاب كل تلك الطنطنة على مثل هذه الموضوعات وكأنه مراهقٌ لا يفهم للحياة معنى إلا أنها مجال لتفريغ الشحنات الجنسية المهووسة عن هذا الطريق الشاذ. وهو ما ذكرنى بكاتب آخر قرأت له فى تلك الفترة أيضا قصة تافهة تدور حول صابونة يصطحبها شاب أزهرى إلى الحمام مصورا عملية الاستمناء ومجسدا رائحة الإفراز التى تشبه رائحة البيض، كل ذلك فى أسلوب وتصوير مغثٍّ، بل مقىِّء. وأغلب الظن أنه هو المقصود بالطالب الأزهرى، فتصرفاته وأخلاقه تشبه تصرفات الطالب المذكور وأخلاقه، كما أنه، رغم تمرده على الإسلام وكل ما يرتبط به، أزهرى صميم، وإن كان يخفى هذا عمن لا يعرفونه. وبالمناسبة فقد قرأت فى كتاب صنع الله إبراهيم: "يوميات الواحات" أنه، بعد وصلة تعذيب له ولزملائه فى بداية وصولهم إلى سجن أبى زعبل فى منتصف خمسينات القرن الفائت، وفى ذات الليلة التى مات فيها شهدى عطية، وكان نزيلا معهم فى ذلك السجن، لم يستطع هو النوم ليلتها إلا بعد أن "استمنى خفيةً" بنص تعبيره، ربما قياما بطقوس تشييع جثمان الفقيد لدى اليساريين! ولم لا، ولكل قوم طقوس خاصة يحرصون على تأديتها فى المناسبات الهامة المختلفة؟

والحق لقد أضحينا نطالع هذا وأشنع منه فى كل ما يكتب الآن من روايات على يد المتنورين والمتنورات، من بينها ما قرأته منذ أسابيع من هذا الأسلوب الكتابى المؤذى للذوق والخلق الكريم فى مقال لأحد كبار السن لا العقل ممن تراه فتقول فى الحال إنه "دَنَف" حسبما كنت أسمع الناس فى قريتى وأنا صغير يصفون كل من تنقصه "الـمَرْجَلَة"، وإن ظن صاحبنا أنه متنور أريب. وفى هذا المقال وفى أمثاله من المقالات نرى هذا "الدَّنَف" يسلط الضوء على عدد من الكاتبات الخارجات على الذوق والخلق والكرامة مشيدا بهن وبكسرهن لما يسميه هذا الصنف المتخلف من الكتاب بــ"التابو"، يقصد أنهن لا يلتزمن بأدب ولا بذوق ولا بعفة ولا بطهارة، ويقتبس من ذلك العفن المقيئ نصوصا دنسة كلها رجس ونجاسة. وإنى لأعجب لهذا اللون من النساء القارحات اللاتى لا يتمتعن بأية ذرة من الرقة ولا من الحياء واللاتى لا يجدن أى حرج فى الحديث عن "مؤخراتهن" ومقدماتهن وما يفعله الرجال بهن فى الفراش بتفصيل يبعث على الاستفراغ، ثم يدعين مع ذلك أنهن فى منتهى الرقة والحياء وأنهن لم يكنّ يعرفن أن الرجل يصنع هذا مع امرأته.

ونحن حين نقول هذا لا ننكر أن لغريزة لجنس لذتها، فإن من ينكر هذا لا يمكن أن يكون سوى منافق أو ناقص الرجولة إن كان رجلا، أو ناقصة الأنوثة شاذة فى تكوينها إن كانت امرأة، اللهم إلا إذا كانت "عاهرة بالسليقة" (بتعبير نجيب محفوظ) من أولئك النسوة اللاتى يتظاهرن فى كتاباتهن بأنهن يكرهن الرجال وسيرة الرجال، مع أنها لا تستطيع أن تقضى وقتها بعيدة عن سرير يفترسها فيه رجل، إلا أن للصنعة والتحرق للرواج عند الغربيين حكمهما الذى لا بد لأمثالها من النزول عليه. لكن هذا شىء، والتعرى على ذلك النحو غير الكريم بحجة الصراحة شىء آخر، وإلا فليتعرَّ البشر فى كل أحوالهم حتى وهم يقضون حاجاتهم بما يصاحب ذلك من مناظرَ وأصواتٍ وألوان ٍوروائحَ ما دامت الصراحة تجيز كل شىء، وبخاصة أن ها هنا أيضا لذة، ولذة كبيرة. ومعروف من تجارب التاريخ أن الاستسلام للشهوات هو باب الانهيار حتى لو تأخر انتظاره قليلا. وهو لا يتأخر إلا حين لا توجد فى مقابل الأمة المنفلتة أمةٌ فتيةٌ ضابطةٌ لشهواتها متطلعةٌ إلى العلا، فإنْ وُجِدَتْ مثل تلك الأمة فإنّ المجتمع الذى أسلم نفسه لشهواته ولم يستطع مقاومة لذتها ينهار أمامها كما ينهار قصر من الرمال، مثلما وقع، غداةَ سطوع شمس الإسلام، للدولتين الرومانية والفارسية فى مواجهة العرب، الذين كانوا فى الجاهلية لا يساوون شيئا ولا قيمة لهم... إلى أن جاء الإسلام وعلّمهم أن يمارسوا الضبط لشهواتهم ويتطلعوا إلى الأعالى، مع الإيمان بالله وبأنفسهم وقدرتهم على الإنجاز، مما يعرفه كل أحد، فكان الانتصار المدوى لهم، والانهيار الرهيب للفرس والروم. ثم دار الزمان دورته واستسلم العرب لشهواتهم ولم يعودوا يعملون على ضبط أنفسهم فحقت عليهم كلمة التاريخ وسنة الله فى خلقه، وانهاروا أمام أعدائهم الذين كانوا قبلا يرتعبون من مجرد ذكر اسمهم أمامهم.

والعرب والمسلمون الآن فى هذه الفترة السَّحْماء من تاريخهم لا يتحملون ضغطا آخر غير ما يعانونه من ضغوط، وبخاصة أنهم فى الدرك الأسفل من الجد والاجتهاد والعمل والإتقان، ودعنا من الإبداع، فليس لهم الآن فيه قليل ولا كثير، بعد أن كانوا هم سادة الدنيا فى العلم والعمل والطموح وأخذ الأمور مأخذ الجِدّ. فلو فتحنا باب الإغراء بالشهوات والنفخ فى ضرامها متابَعَةً لكل ساقطة لا ترى الدنيا إلا من خلال ...ــها حيث يقع "برهان عسلها" وتَسْوَدّ الدنيا فى وجهها ووجه من خلَّفوها إذا قيل لها: "تحشمى يا امرأة، واسترى ما ابتُلِيت به، ولا تتفسخى هكذا" لاشتعلت الدنيا وأحرقت النار كل شىء ولم نجد من يقف فى وجه ذلك الحريق المبير. وكم من هزائم وكوارث كان سببها الضعف أمام تلك الشهوات! والعارفون بخبايا الحياة يعلمون جيدا أن الزنا واللواط والخمر والميسر والتهافت على المناصب والأموال تمثل مخاطر رهيبة فى هذا الميدان. وأشدها الجنس: الشاذ منه والطبيعى على السواء، فلكل ساقطة لاقطة.

والصراحة فى مثل تلك الأمور تهيج الشهوات. ومرة أخرى لا أنكر أن الجنس لذيذ، فهو شهوة وضعها الله فى فطرتنا، وذكره فى القرآن وجعله من زينة الحياة الدنيا، ونبه النبى إلى أهميته وخطورته، وإن كان الإسلام قد دعا فى ذات الوقت إلى العفة والطهارة والاستعصام بالحياء والبعد عن الفحش. ومن ينكر ما فى الجنس من لذة فهو منافق أو شاذ التكوين النفسى أو الجسدى أو كليهما. إلا أن الحياة لا تقوم على اللذة وحدها ولا دائما، فما أكثر ما فيها من آلام ومتاعب وبلايا، ومن ينكر هذا أيضا فهو غبى، أو أنانى لا يهمه إلا جسده ولذته، وليذهب كل شىء بعد هذا إلى الجحيم. وما أسهل المرور من ثغرة أولئك الاستلذاذيين والاستلذاذيات إلى الإضرار بمصالح المجتمع والأمة. ولا يقل أحد: فها هم أولئك الغربيون يجرون وراء لذاتهم ولا يبالون بأى شىء آخر، ورغم هذا لم ينهاروا. نعم لا ينبغى التحجج بذلك لأنهم لا يجرون وراء لذاتهم وحدها ولا بالطريقة التى يفعل لَذِّيّونا ولَذِّيّاتنا ممن يعبدون الجسد ويسبحون بحمده ويتخذونه معيارا وحيدا للحياة ولتقويمهم للحياة، بل ما زالوا يعملون ويجدون ويبدعون ويسعون وراء العلم. كما أنهم، حسبما قلت قبل قليل، لا يجدون فى مواجهتهم قوة تقدر على ممارسة الضبط لشهواتها ولديها الطموح للأعالى وتمتلئ حيوية وتوثبا مثلما كان حال العرب حين أتاهم الرسول بالإسلام وآمنوا به واعتنقوه بقلوبهم وعقولهم وصار دما فى عروقهم. ولو أن الذين يحاربون الأمريكان والبريطان فى العراق مثلا كانوا يستندون بظهورهم إلى الأمة كلها وكانت الأمة على شاكلتهم لانتهى أمر أمريكا وبريطانيا من التاريخ كله أيضا كقوتين عظميين. لكن المجاهدين المسلمين للأسف لا يستندون إلى مدد من أمتهم، بل يعملون وحدهم. ومع هذا فإن أمريكا وبريطانيا وإسرائيل وكل أوربا تقريبا تقف شبه عاجزة فى العراق أمام تلك الثلة القليلة الزاهدة فى الدنيا الواضعة نصب عينيها الجنة والله. إن هذه المواجهة هى، فى جانب منها، مواجهة بين الاستسلام لشهوات الجسد وبين الاعتصام بالعفة والتأبى على الخنوع التام لتلك الشهوات، اللهم إلا ما يحلله الله. بل حتى هذا كثيرا ما يهملونه اهتماما منهم بما هو أجل وأخطر. لكن أنى للأوغاد العبيد لأجسادهم وشذوذهم وانحلالهم أن يفهموا هذا؟

وإلى القارئ مثالا من رواية لإحدى أولئك المنتميات لعالم القلم رغم أن مكانهن المناسب ليس هو دنيا الكتابة، بل الكباريهات التى تؤدَّى فيها رقصات "الإستربتيز" حيث تتجرد الراقصة العاهرة من ملابسها كلها وتعرض على الحاضرين سوأتها كاملة ينهشونها بعيونهن على راحتهم، زاعمات هن والقوادون الذين يلتقطونهن من زوايا الطريق ويشجعونهن على هذا أنهن فنانات. بل إن هؤلاء الراقصات لأفضل منهن ألف مرة، إذ هن يؤدين رقصاتهن فى مكان مغلق لا يرتاده إلا القليلون، كما أنهن يكتفين بتعرية سوآتهن دون أن يباشرن الجنس ولا يصفنه بتفصيلاته وألفاظه العارية أمام الدنيا كلها. تقول واحدة من كاتبات الإستربتيز وممارسات الجماع على الورق، ونحن ننقل ما ننقله هنا عن "الدنف"، ونستميح القراء الكرام أن يعذرونا فى نقل مثل هذا العفن، فناقل الكفر ليس بكافر، فضلا عن أننى أريد أن يعرف القراء مع أى صنف دنس من الكائنات نتعامل. ثم إن هذا الصنف لم يستر على نفسه، فهل نستر نحن عليه؟ تقول المحترقة نقلا عن "الدَّنَف": "كنت أصل إليه مبلّلة، وأول ما يفعله هو أن يمد إصبعه بين ساقيَّ، يتفقد العسل كما كان يسميه، يذوقه ويقبّلني ويوغل عميقا في فمي". لكنْ لشديد الأسف والأسى لم تشرح لنا الكاتبة المقصود بقولها عن نفسها إنها كانت تصل لعشيقها مبللة، وإن كان المعروف أن ذلك التعبير يعنى أن الشخص قد تبول على نفسه: هكذا هو فى العربية والإنجليزية والفرنسية: "to wet one’s pants or oneself, mouiller sa culotte; faire pipi dans sa culotte". بارك الله فيها، وأدام ذواق عشيقها لعسلها، ولطحينتها أيضا النابعة من ناحيتها الأخرى حتى يكون طعامه عسلا بالطحينة، فيشرب ويأكل ملء فمه وبطنه هنيئا مريئا!

وتمضى الكاتبة حسبما يخبرنا "الدَّنَف" قائلة: "كنت أذهب إليه في الصباح قبل العمل. أصعد الدرج ركضا، أدق الجرس رنة خفيفة، فيفتح الباب فورا، وكأنه كان ينتظرني وراءه، نصف نائم. أرمي ملابسي وأدخل السرير ملتهبة، ألتصق به، وأبدأ في تشممه. يرفع الغطاء، وتمر يده على تفاصيل جسمي ببطء شديد، يتذوق عسلي بجدية راضية، وأتفقد بشفتي كل موضع من جسده، عيناي مفتوحتان وجسدي أيضا. بين تسرعي المتلهف، وتمهله المتلذذ، نجد إيقاعنا. يمر الوقت ولا نفترق، لا نتوقف: تحته، فوقه، إلى جانبه، منبطحة على بطني، راكعة على ركبتي. بين كل وضعية وأخرى، كان يردد جملة يقولها دائما: عندي فكرة. كانت أفكاره لا تنتهي، وأنا أحب أفكاره وفلسفته".

ويستمر "الدَّنَف" فى النقل فنقرأ: "كان يقول لي النساء نوعان: المرأة الخسة، والمرأة الجمرة، وأنا أسأله بخبث، وهو لا يرد، بل يجذبني إلى صدره وأرتمي عليه، ويقبل عيني وشفتي، وأنا أمص ريقه، ويحسس على بطني، وأفتح ساقي، ويدخلني عميقا ليحترق معي، أود أن أسأله: والرجال كم نوعا؟ وتنسيني متعتي ولذتي كل الأسئلة". وتقول فى موقع آخر من القصة أيضا: "ما كنت أمشي معه في الشارع العام، وما كان يمشي إلى جانبي، من دون أن يضع يده على مؤخرتي، يتحسسها من فوق الثياب أو على اللحم مباشرة. أصرخ مبتعدة عنه: مجنون، نحن في الشارع العام. قد يرانا الناس! كنت جبانة، وحريتي الجنسية العملية لا تعبر عن نفسها إلا بعيدا عن عيون الآخرين. كان يقول: تلفتين نظر الناس عندما تبتعدين عني. إنهم لا يَرَوْن شيئا. لا أحد ينظر إلينا لو تابعتِ السير بهدوء. يرد عليَّ وعلى استهجاني، وهو يعيد يده إليَّ، إلى مؤخرتي، وأنا أشهق رغما عني، والتصق به، وأنسى العيون الغريبة. صار يبحث عن باب أول عمارة نمر قربها كي يجذبني إلى داخلها، ويقبل شفتي، ويمص لساني، ويتحسس صدري. بداية كنت مضطربة، وبمرور الوقت تعودت، وصرت أمشي إلى جانبه، وعيناي تبحثان معه عن أي مكان يمكنني فيه أن أقبّله وأمص لسانه وأتحسس جسده". وتتابع واصفة لقاءها مع "المفكر" عشيقها: "المفكر هو عشيقي؟ لم يخطر لي هذا أبدا. هل يمكن أن أكون عشيقة؟ لرجل لا أريد منه إلا أن يحضنني في مكان مغلق؟ ثم أذهب بعد في التأويل لأن المفكر قال لي كعادته: عندي فكرة. فيقترب من السرير، وأنبطح أنا على بطني رافعة ظهري، معتمدة على ذراعي. هو خلفي ولا أراه. تمر كفاه بإصرار، ترسمان حدودي من الكتفين إلى الفخذين لتستقرا على مؤخرتي، يشدني إليه، ألتصق به أكثر، كي أمتلأ به أكثر، أدفن وجهي في الوسادة لأخنق همهمات لذتي المتوحدة مع حركاتنا وكلماتنا. كنت أعرف أن الجماع ألذُّه أفحشه، ومع ذلك كنت أحاول أن أكتم حتى أنيني. يشدني إليه. وتلك الوضعية هي أكثر ما أحب، وأكثر ما يحب هو أيضا".

ويورد لنا "الدنف" ما قالته واحدة أخرى من كاتبات الإستربتيز ممارسات الجماع على أعين القارئين عن ليلة زفافها وهى تتأفف وتتبرم متظاهرة بالرقة والحياء، ومتصنعة السذاجة المفضوحة والطهارة الكاذبة، علىحين أن كل كلمة من كلامها الذى تصف به ما وقع إنما ينبئ عن عاهرة بالسليقة على رأى العم نجيب محفوظ: "هل تعرفين؟ حين تزوجت كنت أظن أن كل مشاكلي انتهت، ولكني اكتشفت أنني دخلت سجنا فيه كل أنواع العذاب. أنا، باني بسطانجي التي مُنِعَتْ طيلة حياتها حتى مجرد أن تفكر في ذَكَرٍ، بين ليلة وضحاها أصبح المطلوب مني أن أكون عاهرة في الفراش، أن أمارس كما يمارس هو، أن أسمعه كل القذارات، أن أمنحه مؤخرتي ليخترقها بعضوه، أن أكون امرأة منسلخة الكيان، أن أكون نسخة عنه وعن تفكيره. المشكلة تجاوزتني يا "شاهي"، ولهذا تطلقت. ما اخترقني لم يكن عضوه. كان اغتيالا لكبريائي. وفيما أشعل هو سيجارة انتصاره ليتمم بها متعته، قمت أنا منكسرة نحو الحمام. غسلت جرحي وبكيت. لم أكن احلم في تلك الليلة، فقد فاتني قطار الأحلام، وتركني واقفة على محطة مقفرة تنعق فيها غربان الخيبة. ليلتها لم يزرني الشاب الأسمر الذي لطالما حلمت به، لم يلامسني بغابته الصغيرة قبل أن استسلم للنوم تماما، ولم تحلَّ سمرته عليَّ كليل رومانسي جميل. كانت تلك ليلتي الأولى، بدون رجل. كانت ليلة تنزف بين الفخذين إهانة قاتمة، ليلة لا معنى لها، حولتني إلى كائن لا معنى له. حقارتي بدأت من هنا، من هذا الزواج الذي لا معنى له، من هذه المغامرة التي لم تثمر غير كثير من الذل في حياتي، وكثير من الانهزامية والتلاشي والانتهاء في غاية السخف. كانت تحدث لي أمور لا أفهمها، أمور تجعلني أنتهي، وأتوقف عند لحظة اتخاذي لقرار الزواج. خمس وثلاثون سنة، وأنا في انتظار عريس يليق بحجم انتظاري". بشرفك يا أنتِ (!ن كان لك شرف!) إن هذا، والحق يقال، لهو كلام القحاب القوارح لا كلام أديبة محترمة، لأنه لا علاقة له بالأدب، بل بقلة الأدب!

وأمثال هاتين المرأتين يُتَرْجَم قيئهما وبرازهما إلى كل لغات العالم وتتهافت عليهما كبار دور النشر فى الغرب والشرق. طبعا، ولم لا، وقد قدرتا على ما لم تقدر عليه أية امرأة حرة شريفة؟ أليستا قد فعلتا فى ميدان الأدب ما تفعله أية قحبة حين تعرّى جسدها وتأتى من الحركات وتصدر من الأصوات ما يشعل الشهوات النائمة دون تأثم أو حياء؟ وأين الفن والأدب فى هذا؟ إن هذا مما تستطيعه كل قحبة، على حين لا تقدر عليه الحرة الكريمة، وإن زعم كل عتل خسيس أن هذا فتح مبين، وأن المرأة حين تصنع ذلك فإنما تدفع الظلم عن نفسها وعن بنات جنسها. وبالله عليكم أيها القراء أى دفع للظلم فى أن تعرى هؤلاء النسوة سوآتهن على ذلك النحو؟ هل استطعن بهذا أن يحصلن على حقوقهن فى الميراث التى شرعها الله لهن ويريد البعض أن يحرمهن منها مثلا؟ هل كن محرومات من التعليم ثم أتت هؤلاء النسوة فناضلن حتى حصلن لهن على حق التعليم؟ هل كن يُكْرَهْن على الزواج ممن لا يردن ثم نجحت هؤلاء النسوة فى توطيد حق المرأة فى الموافقة على زوجها أو رفضه؟ هل كانت النساء يأخذن مرتبات أضأل من مرتبات الرجال رغم قيامهن بما يقوم به الجنس الخشن من عمل فاستطاعت أولئك المناضلات تأمين الحصول على نفس المرتب لهن ولبنات جنسهن؟ ومن أعجب العجب أن نجد واحدا من أشباه الرجال يصفق لهذا اللون من الكتابات النسائية بحجة أن المشباك (الإنترنت) يحتوى على صور وأفلام عارية متاحة ومباحة للجميع على عينك يا تاجر! فالحمد لله أن مثله لم يجد شيئا يتخذه ذريعة لهذه الكتابات إلا أشباهها من المواقع الساقطة بما فيها من مومسات يؤدين تلك المهمة القذرة. وهو ما يعنى أنه لا يجد موضعا يضع فيه أولئك الكاتبات إلا موضع المومسات اللاتى يتجردن من ملابسهن ويمارسن الفاحشة أمام عيون العالم كله لتهييج شهوات الرجال.

الواقع أنه لا إبداع فى حديث بعض النسوة عن مؤخراتهن ومقدماتهن وما يفعلنه بالتفصيل العارى فى الفراش بألفاظه وعباراته الجارحة دون تجمل أو حياء، وإلا فأية مومس تتناول هذه الموضوعات فى كلامها، وما أكثر ما يتناول المومسات هذه الموضوعات فى أحاديثهن، هى أديبة مبدعة. إن دنيا الإبداع واسعة شاسعة متناوحة الجوانب، بيد أن ثمة فريقا من أشباه الرجال لا يريدون من المرأة الكاتبة إلا فضح نفسها وهتك عرضها وكشف سوأتها مقبلة ومدبرة. وهناك قصة لها دلالتها فى هذا السياق، وهى أن إحدى الطالبات، وكانت تدرس فى الجامعة على يد ناقد من نقاد الحداثة والتنوير معروف، دخلت عليه فى مكتبه ذات يوم لتريه نموذجا مما تكتبه التماسا لكلمة تشجيع أو توجيه، فما كان منه إلا أن ترك ما قدمته له قائلا: دعيك من هذه الموضوعات التقليدية. لم لا تتناولين مثلا ما يحدث لك أثناء حيضك؟ فما كان من البنت المسكينة إلا أن صعقت وولَّتْ من حضرة التنويرى الهمام فَزِعَةً تطلب النجاة.

والآن فلنعد إلى صنع الله إبراهيم، الذى نُعِتَ بأنه "أعظم الكتاب المصريين الأحياء" فى أحد المواقع المشباكية التى تكاثرت كالفُطْر وأصبح كل من هب ودب فيها كاتبا عبقريا يشار إليه بالبنان ويحرص كثير منهم أشد الحرص على أن ينشر مع ما يكتبه، رغم ركاكته وسخافته وتفاهته، صورة له وهو ينظر إلى القراء عبر ظهره الذى يصر على أن يعطيهم إياه بدلا من صدره، أو يمسك بذقنه، ولا أدرى لماذا، إلا أن يكون السبب هو خوفه من أن تطير، أو يضع يده تحت لَحْيِه إشارة إلى أهميته التى يمتلئ بها إلى درجة الانفجار لولا لطف الله وستره لعلمه جل وعلا أن العرب ليسوا ناقصين كوارث وبلايا، نعم لنعد إلى الأستاذ صنع الله فنقول إنه كذلك يسير على نفس المنوال فى صنعة القلم، إذ نراه يُتَوْبِل كتابه المذكور، وهو كتاب لا علاقة له بفن الرواية ولا بالأدب الجيد من قريب أو من بعيد، بالكلام العارى البالغ غاية الفجاجة فى وصف الجماع: بين راوى الأحداث الذى لا نعرف له اسما وبين الجارية السوداء الخرساء وبولين الفتاة الفرنسية التى كانت عشيقة أيضا لنابليون.

وقبل أن ندلى برأينا تفصيلا فى الأمر نسوق بعض ما كتبه الأستاذ صنع الله، الذى خذلنى مرتين وخدعنى الحديث عنه من قِبَل النقاد "إياهم" فظننت أن تحت القبة شيخا، فإذا بى أكتشف أنه لا شيخ ولا قبة. لنسمعه يصف كيف أتى الجارية لأول مرة، وكان الشيخ الجبرتى الذى يشتغل راوينا كاتبا لديه مسافرا إلى قريته فى إبيار بالغربية، وهى لا تبعد عن قريتنا: "كتامة الغابة" إلا بضعة كيلومترات: "حملت القنديل واقتربت في خفة من الباب المفضي إلى غرف النساء. فتحته في رفق. خرجت إلى بسطة يضيؤها (يقصد: "يضيئها") ضوء خافت منبعث من قنديل معلق في أعلى الحائط. أطفأت قنديلي ووضعته جانبا. تقدمت من جسم ممدد في الركن. تعثرت في قبقاب خشبي فوجهت السباب إلى نفسي لأني لم أنتبه (لا ليس هذا هو السبب، بل لأنك وغد سافل!). انحنيت فوق الجارية السوداء. كانت عيناها الواسعتان مفتوحتين. رفعت قميصها الواصل حتي العقبين فلم تنبس بكلمة. مددت يدي إلى خصرها. بحثت حتى عثرت علي دكة لباسها القطني. جذبته إلى أسفل دون أن تعترض. أمسكت بساقيها وثنيتهما إلى أعلى ثم وقعت عليها. وجدت صعوبة في دخولها فاستعنت بريقي (الله يقرفك يا شيخ!). انتهيت بسرعة (إخص عليك!). لم تنبس بكلمة أو حتى آهة. وظلت تتطلع إلىّ وفي عينيها نظرة لم أدرك كنهها (أما أنا كاتب هذه الدراسة فأدرك كنهها وأعرف أن صاحبتها تحتقرك وتراك ولدا نذلا، وتريد أن تقول إنها مشمئزة من هذه الكتابة المراهقة الرخيصة التى يمارسها المؤلف! إلا أنها لا تقدر على الكلام لأنك أنت ومؤلفك قد أخرستماها بتصرفاتكما الفِجّة المقيئة!). اعتدلت واقفا وبسطت قميصي فوق السروال. مسحت عرقي بطرفه. تناولت قنديلي وانسحبت عائدا إلى حجرتي". يكتب صنع الله إبراهيم هذا، وهو يقترب من السبعين، وليس فى الكتاب ما يستلزم شيئا من هذا. أقول: "الكتاب" لا "الرواية"، لأننا لسنا بصدد رواية، بل كتاب أراد صاحبه أن يتخذ شكل اليوميات التسجيلية مثل "عجائب الآثار" للجبرتى، ولكن هيهات، فالفرق بين الكتابين والكاتبين هو الفرق بين السما والعمى، وبين الثريا والثرى.

فالجبرتى مؤرخ عالمى عظيم بلغ من عظمته أنْ قد بهر فيلسوفا كأرنولد توينبى فوصفه بــ"المؤرخ العظيم" وقال إنه جدير حقا أن يوضع اسمه فى قائمة المؤرخين العالميين الكبار ذوى المكانة المتميزة: "The great Egyptian historian al-Jabarti… would undoubtedly figure on a list of candidates for the distinction of ranking as leading historians of civilized nations". وذكر إدوارد وليم لين، المستشرق البريطانى المعروف، فى كتابه عن المصريين المحدثين وعاداتهم وتقاليدهم، أن له كتابًا جِدَّ ممتازٍ فى التأريخ لمصر منذ بداية القرن الثانى عشر الهجرى "The sheykh ’Abd-Er-Rahman El-Gabartee, another modern author, and a native of Cairo, particularly deserves to be mentioned, as having written a very excellent history of the events which have taken place in Egypt since the commencement of the twelfth century of the Flight". وفى دائرة المعارف البريطانية (ط٢٠٠٨م) نقرأ فى المادة المخصصة لمصر أن القرون الثلاثة التى خضعت فيها البلاد للحكم العثمانى لم تنجب مؤرخا ذا قيمة سوى الجبرتى: "In almost three centuries of Ottoman rule Egypt produced only one historian worthy of note, al-Jabartī (died 1825), famous for his observations on the French occupation". ويضعه كاتب مادة "التاريخ، عِلْم" فى "الموسوعة العربية العالمية" بين أفضل عشرة مؤرخين على مستوى العالم بأسره.

والواقع أن الجبرتى بهذا جِدُّ حقيقٍ، إذ إن له أسلوبا تصويريا يقلّ مثيله حيويةً وجاذبيةً، كما أن الآراء التى يصدرها على الأشخاص والوقائع تدل على دقة وتجرد وسعة أفق وعمق نظر وإحاطة. أما صنع الله فلا يهتم به إلا طائفة على شاكلته من النقاد لا تستطيع أن تقوّم أعماله كما ينبغى أن يكون التقويم، فتراهم يبالغون فى الإعلاء من شأنها، ولكن هذا كله عبث لا يصح لأن هناك شيئا لا يعرف اللعب ولا الهزل ولا العبث ولا ينخدع بالبكش اسمه التاريخ. على أن أظرف ما فى الموضوع تحديد الراوى لنوعية القماش الذى صنع منه "لباس" الجارية، قائلا إنه من القطن. يا لعبقريتك يا سيد صنع الله، فقد جعلت بطل كتابك يتنبه فى العتمة حيث كانت الجارية ترقد فى البسطة أمام غرف النساء، وفى تلك الظروف التى من شأنها أن تخبّل عقل أجعص جعيص، إلى أن القماش كان من القطن، وإن كان قد فاته أن يحدد نوع هذا القطن، وهل هو قطن طويل التيلة أو قصيرها. ملحوقة! تستطيع أن تستدرك هذا فى الطبعة القادمة، فأرجو ألا ينسينّك الشيطان ذِكْرَه!

وصنع الله، حين يصنع هذا ويتحدث عن راوى الكتاب بهذا الشكل، لا يحسن رسم الشخصيات، فهو لا يفرق هنا مثلا بين شاب متدين يشتغل مساعدا لزعيم المؤرخين المسلمين المحدثين وبين ملحد لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر مثلا أو زنديق لا يبالى بحرام أو حلال أو شيوعى منحل من الشيوعيين الذين يعرفهم العالم العربى المبتلَى بنفايات الفكر الغربى لا يدرى كيف يحترم ما يستحق الاحترام من البشر والأشياء والقيم. ومن هنا كان خطؤه القاتل فى ذلك الكتاب الذى يقدمه إلى القراء على أنه رواية، ويتناوله أيضا من يطلقون على أنفسهم: "نقاد" على أنه رواية، على حين لا يمت إلى فن الرواية، ولا إلى الأدب الجيد، بأى سبب. ثم ما حكاية "جاء ظهرى" هذه التى كررها صنع الله فى كتابه على لسان الراوى بمعنى أنه قد بلغ ذروة التهيج وهو يجامع البنت الفرنسية وآن أوان القذف؟ الواقع أننى لا أدرى من أين أتى بها، فهل يتكرم السيد صنع الله ويفيض علينا من علمه الغزير ويشرح لنا مصدره الذى استقاه منه. كنا نسمع فى الريف قديما أن فلانة "عليها ظهرها"، أى حائض، أما أن يقول رجل عن نفسه: "جاءنى ظهرى" فهذا ما لا علم لى به. فليتفضل المؤلف بتعليمنا ما لا نعلم، فكلنا آذان صاغية.

وعبثًا يتساءل القارئ الكريم عن الحكمة فى تضمين الكاتب كتابه تلك المناظر الجنسية، بل تلك العلاقة الجنسية ذاتها التى كانت بين الراوى وبين كل من الجارية وبولين، إذ من الممكن جدا حذف الصفحات التى تتضمن الحديث عن هذا الموضوع دون أن يختل شىء فى الكتاب على الإطلاق. ذلك أن مجامعة الراوى للجارية لم تترك أى صدى فى حياته، كما أن العلاقة التى قامت بينه وبين بولين لم تؤثر بشىء على شخصيته ولا غيرت فكره فجعلته يحب الاحتلال الفرنسى مثلا ويكره وطنه ومواطنيه تحت تأثير اشمئزاز عشيقته الفرنسية منهم ووصفها لهم بكل نقيصة أو يترك مصر ويهاجر معها إلى فرنسا حين غادرت أرض الكنانة عائدة إلى بلدها، ولا هى طورته ثقافيا فشرع يقرأ بالفرنسية كتب المستشرقين ويقتنع بما يقولون عن الإسلام وأهله أو يقرر وضع الدراسات فى تفنيد ما يقولون عن أمته ودينه، أو تحوَّل ذوقه الفنى فصار يحب الموسيقى الكلاسيكية الغربية التى كانت تعزفها أمامه أحيانا وتحدّثه بانبهار شديد عن مبدعيها الكبار كموتسارت وبيتهوفن. بل لقد ظل على ذوقه القديم الذى كان له فى النساء قبل أن يعاشرها ويجامعها ويرى كيف تختلف عن النسوة المصريات (اللاتى يعرفهن على الأقل) من حيث بياضها وسمرتهن، ونحافتها وسمنتهن، وصغر صدرها وضخامة أثدائهن، وثقافتها العصرية المتنوعة وجهلهن... إلخ. كما أنه ظل يصلى ويصوم رغم كل ما اجترحه معها من زنا، إذ لم تترك علاقته بها ولا ما ارتكبه معها مرارا من الفاحشة أى أثر فى نفسه من هذه الناحية فظل بعدها مثلما كان قبلها، وكأن شيئا لم يكن. وهو أمر غريب غاية الغرابة، إذ كان لا بد أن يشعر بالذنب والاضطراب والحيرة والسخط على نفسه ويندفع فى الاستغفار والابتهال إلى الله أن يسامحه ويحاول التماسك حتى لو سقط فى الفاحشة مرة أخرى وأخرى وأخرى. أما أن يمارس الأمرين معا وكأنه لا شىء فى الزنا فهذا أمر عجيب لا يدخل العقل، اللهم إلا إذا كان ملحدا منافقا أو أن تكون الحملة الفرنسية بتداعياتها المختلفة واختلاطه بالفرنسيين وتشربه أفكارهم ومفاهيمهم وقيمهم قد نال من إيمانه بالله واليوم الآخر فاتخذ من اللذة والجرى وراءها ديدنه ودينه، وهو ما لم يحدث، وإلا لكان على الكاتب أن يذكره لنا ويقنعنا به. أما ما نعرفه عن الراوى كما يعرضه علينا المؤلف فى كتابه فهو يدل على أن ما صنعه به هو اضطراب شنيع فى رسم شخصيته يدل على أن فنه لا يزال فِجًّا نيئا لم ينضح بعد رغم كل هاتيك السنين التى صرفها فى تأليف القصص والروايات.

إن كل ما كتبه صنع الله عن العلاقة الجنسية بين الراوى وبين تَيْنِكَ المرأتين لا تمثل أكثر من جملة اعتراضية ليس لها أى محل من الإعراب فى الكتاب. إنه أشبه بالرقصة الشرقية التى لا يكاد يخلو منها فلم مصرى قديم رغم انعدام الصلة بينها وبين بقية عناصر الفلم، وإن كانت المناظر التى ضمنها صنع الله كتابه المتهافت هى من النوع الذى يُعَدّ بجانبه هز البطن والأرداف فى أفلامنا غير المحترمة عملا محترما غاية الاحترام. وحتى لو كان لتلك العلاقة بين الراوى وبولين دور فى الكتاب لما سوَّغ ذلك شيئا من الفحش الذى يطفح به، إذ يمكن المؤلف فى هذه الحالة أن يومئ مجرد إيماء إلى ما يريد قوله، وما أجمل الإيماء فى تلك الأمور!

فإذا تبين لنا أن الكتاب لا علاقة له وثيقة بفن الرواية ظهر لنا وجه الحقيقة القبيح عاريا ورأينا بأم أعيننا أن الكاتب لا يعرف كيف يُحْكِم تأليف ما يكتب. ذلك أن الموضوع لا صلة بينه وبين الوقائع التى يسجلها الراوى فى أوراقه السخيفة، تلك الأوراق التى لا معنى لها ما دامت هناك يوميات الجبرتى بكل ما تتسم به من حيوية وفنٍّ وَصْفىٍّ بلغ الغاية وأسلوب عجيب وروح شعبية. ليس ذلك فحسب، بل إن قصة الغرام بين الراوى وبولين لا تقوم على أى أساس، فالحب لا ينشأ هكذا كالنبات الشيطانى دون سبب. ذلك أن بولين فتاة فرنسية مثقفة فى الوقت الذى لم يكن لدى الراوى شىء مما لديها من ثقافة تراها هى على الأقل ثقافة رفيعة. بل إننا لا نعرف له شيئا من ثقافة سوى أنه كان يكتب للجبرتى ما يمليه عليه من تاريخه، فضلا عن أن تلك الفتاة إنما تمثل الغزو الفرنسى الذى يحتقر مصر والمصريين احتقارا شنيعا ظهر فى أكثر من حديث لها مع تلميذ الجبرتى وآلمه إيلاما صعبا، وإن لم يمنعه من استمرار العلاقة غير المنطقية بينه وبين المرأة الفرنسية. كما كان يتهافت عليها عدد من الفرنسيين الذين أَتَوْا فى ركاب نابليون لغزو مصر، بل إن نابليون ذاته قد اتخذها عشيقة له رغم وجود زوجها معها، إذ كان ضابطا فى الجيش الفرنسى الموجود على أرض مصر، فلم تكن إذن تشكو جفافا فى اهتمام الرجال بها حتى يقال إنها لم تجد أمامها إلا الراوى فاتخذت منه مشبعا لرغباتها الجنسية، والسلام. علاوة على أنه لم يسبق بينهما موقف عاطفى أو مثير أغراها بأن تسلم نفسها إليه ثانى مرة يصعد معها إلى مسكنها فوق المجمع العلمى الذى كانت تشتغل معه فيه. ثم إنه لم يكن على شىء من وسامة أو أناقة أو لباقة، وفوق هذا كان مبتدئا فى اللغة الفرنسية بحيث لا يستطيع أن يعوض شيئا من هذه النواقص عن طريق التغزل فى محاسنها مثلا، لأنه لو فعل لجاء كلامه مكسرا يبعث على الضحك والاستهزاء. ويزيد الطين بِلّةً أنها لم تكن تمارس معه الفاحشة وحده، بل كانت تمارسها كذلك مع زوجها ومع نابليون دون أن ترى فى ذلك شيئا مستغربا. بل إن الرواى هو أيضا لم ير فيه ما يستوجب قطع علاقته بها، فالمهم هو أن يمارس معها الجنس، وليكن بعد ذلك ما يكون، رغم أنه قد تألم فى البداية لا من أجل ذلك، بل تصورا منه أنه لن يصل إليها فيما بعد. ومن هنا فحين عادت الأمور بينه وبينها إلى "مجاريها" كما يقال (فنحن فعلا فى مجارٍ وفضلات ووساخات) لم تشغله المخادنة التى كانت بينها وبين نابليون فى قليل أو كثير.

أضف إلى ذلك أنه لا معنى لتسجيل الراوى وقائع الزنا بالجارية وبالفتاة الفرنسية فى يومياته. ذلك أنه لم يكن من عادة المسلمين قبل العصر الحديث أن يسجلوا مثل تلك الأمور كتابة، وإلا فليدلنا السيد صنع الله على بعض الأمثلة التى تنقض ما نقول. ولو افترضنا أن الأمر على خلاف ذلك، وهو ما لا يكون، أو غضضنا الطرف عن هذا العيب القاتل وقلنا: الطيب أحسن، فلا تؤاخذ يا ابن الحلال الأستاذ صنع الله إبراهيم بكل صغيرة وكبيرة، بل عليك أن تفوّت له أشياء كثيرة، وإلا فلن ننتهى، فلسوف يثور فى وجوهنا سؤال فنى هام يريد جوابا، وجوابا مقنعا. ألا وهو: من يا ترى ذلك الشخص الذى قد أدى إلينا هذه اليوميات؟ أو كيف عثرنا عليها؟ فالمفروض أن الراوى شخصية تاريخية ما دام المؤلف قد ربطه بالجبرتى على هذا النحو اللصيق، وإن كنا نعرف تماما أنه ليس له وجود تاريخى على الإطلاق، بل هو من صنع خيال المؤلف السقيم، لكن هذا موضوع آخر، فالمفروض هو أن يكون الأمر بخلاف ذلك كما يقتضيه الفن السليم، وما دام الأمر كذلك فكيف وصل إلينا يا ترى مخطوط تلك اليوميات؟ إن كل شىء فى الفن الراوئى لا بد أن يكون مسوغا، وإلا كان العمل فاشلا، وهذا الأمر الذى نحن بصدده الآن يحتاج إلى تسويغ وإقناع حتى يدخل العقل.

ولتقريب المسألة أذكر للقارئ الحيلة التى لجأ إليها الفيلسوف مالك بن نبى فى أول ترجمته الذاتية فى كتابه الخطير المشهور: "مذكرات شاهد القرن"، إذ حكى لنا أنه بينما كان يصلى العصر وحده فى ركن منعزل بمسجد قسنطينة بالجزائر شعر بشخص يتسلل إلى جانبه وهو ساجد فى ركعته الثانية ويترك ربطة أوراق ثم يمضى، وحين انتهى هو من صلاته ووجد الربطة ولم يظهر صاحبها اضطر إلى فتحها فوجد مذكراتٍ شخصيةً هامة كتبها بعضهم ورأى هو، نظرا لأهميتها الشديدة، أن ينشرها على الناس. لقد كان على مالك بن نبى أن يبين لنا كيف بلغته تلك المذكرات التى ينشرها على القراء ما دام لم يشأ أن يذكر أنه هو صاحبها وكاتبها، وإلا لقد كان ينبغى أن يقول بصريح العبارة إنه هو الصاحب والكاتب، وهو ما لم يشأ أن يفعله لأمر أو لآخر، فكان لا بد إذن من اصطناع تلك الحيلة، وإن كانت حيلة مكشوفة كما نرى وكما لابد أن يكون هو أيضا قد شعر، ولكن هذه نقرة أخرى.

وفوق هذا فصنع الله حريص، دون أدنى شىء يستند إليه، على تشويه الجبرتى وتصوير منزله على أنه أقرب ما يكون إلى بيت الدعارة، فالجوارى فيه مبذولاتٌ لمن "يطلع فى دماغه" فى أى وقت أن ينام مع من يصادفها منهن فى أية غرفة ، بغض النظر عن حِلّ هذا له أو لا. ذلك أن الجارية التى كان الراوى يمارس معها الجنس هى جارية الجبرتى، ومع هذا نراه يقدم على الزنا بها متى ما أراد. وحين يظهر عليها الحمل يكذب على سيده ولا يصارحه بأنه هو الفاعل، راجيا أن تقع فى عُبّ المؤرخ الكبير! ولكن هل كان بيت الجبرتى هكذا؟ فأين الدليل؟ إن الجبرتى ليس شخصا خياليا حتى يجوز للكاتب أن يشكله على النحو القبيح الذى يريد، بل الجبرتى شخصية تاريخية حقيقية، ومن ثم لا بد من المحافظة على حقائق التاريخ عند الحديث عنه. لقد كان على الكاتب الالتزام بحقائق التاريخ لا أن يذهب فى وادى الأوهام فيقدم لنا صورة للرجل غير صادقة، وبخاصة أن الراوى ليس شخصية تاريخية حقيقية، بل هو من صنع خيال المؤلف. ولكن ماذا كنا ننتظر من شخص هو "من صنع" صنع الله؟

هذا مع الجارية، أما مع بولين عشيقة نابليون فإلى القارئ أول شىء وقع بينهما فى ميدان الجنس: "بمجرد دخولنا مسكنها التفتت إلىّ واحتضنتني ثم وضعت شفتيها على شفتى. وفجأة حدث شئ غريب. فقد أدخلت لسانها في فمي. لم أدر ما جرى بعد ذلك. فقد وجدنا أنفسنا فوق أريكة مجاورة وأنا فوقها وعضوي داخلها. احتضنتني في قوة، وفجأة جاء ظهري فتشبثت بي وهي تردد لاهثة: انتظر. ثم انفصلت عني وجففت مائي بطرف ثوبها. وأحسست أنها مستاءة. أزاحت عمامتي وعلقت على رأسي الحليقة قائلة: شعرك ناعم وجميل. لماذا تحلقه؟ لو أرسلته يكون شكلك أجمل.

قلت: أعوذ بالله. تريدين أن أصبح مثل المخنثين.

فكت جدائل شعرها الطويل فتحسست خصلاته التي تدلت فوق كتفيها حتى خصرها وشممت رائحة الصابون تنبعث منه. قالت إنها تجد صعوبة في تنظيمه في خصلات متموجة، وتستخدم لذلك عاكصا من الورق. وإنها تفكر في قَصِّه حسب الموضة الجديدة إلى خصلات قصيرة تنسدل فوق الجبهة. نهضت واقفة وأخذتني من يدي إلى الغرفة الداخلية. كان فراشها وسط الحجرة عبارة عن سجادة مبسوطة على ألواح خشبية تحيط بها أربع مخدات فخمة، وأعلى ذلك غطاء من الحرير أو الموسلين. وحولت عيني بسرعة عن الفراش. تناولت حقا صغيرا فوق منضدة بجوار الفراش. رفعت غطاءه فرأيت مسحوقا أحمر. قالت: إنه روج لتحمير الخدين لكني لا أستخدمه. هل تعرف أن سيدات البلاط الملكي في فرنسا كن يستعملن لزينة وجوههن ١٣ ظلا مختلفا واحدا فوق الآخر؟ أنا أكتفي بكريم إسمه: "ندى السوسن" أدهن به وجهي قبل النوم. وعند الخروج أبلل إصبعي الصغير وأمر به على حاجبي ورموشي حتى تلمع.

كانت تتحدث كالأطفال. أحطتها بذراعيّ فدفنتْ رأسها في عنقي. كانت أقصر مني قليلا. قبلتها في عنقها فرفعتْ رأسها ووضعتْ لسانها في فمي. غنيت لها: "قال لي غزالي: أديني جيت، وافعل كما تختار فيَّه، أركِّبك صدر برمّان، وتحل دكة ألفية". شرحت لها معاني الكلمات وكيف أن "الدكة الألفية" هي حزام مطرز بألف لون. جذبتها إلى الفراش. وفي هذه المرة خلعت ملابسي حتى صرت عاريا وساعدتها على خلع تنورتها وقميصها الداخلي. وبدت نحيلة للغاية. تأملت مبهورا جسدها العاجي ثم تحسست نهديها فقالت إنهما صغيران. وإنها عندما كانت في الثانية عشرة كانت تضع عند الخروج أربعة مناديل تحت العباءة يمينا ويسارا مكان الثديين. نصحتها أن تفعل مثل بناتنا. فهن يضعن لبابة الخبز الساخن بين النهدين للتعجيل بنموهما.

قالت: لكني لم أعد صغيرة.
قلت: عندي علاج آخر.

التقطت ثديها بفمي وأخذت أمتصه وأجذبه إلى الخارج. ثم فعلت المثل بالثدي الآخر. انتفخت حلمتاها وبدأت تتنهد. أردت أن أثني ساقيها إلى الخلف لكنها رفضت وباعدت بينهما. ثم ولجتها برفق. قالت: تعرف ماذا تفعل كي لا أحمل؟ أومأت برأسي فهمست: لا تتعجل
.
جززت على أسناني محاولا السيطرة على نفسي. وعندما فقدت السيطرة غادرتها وأفرغت مائي فوق بطنها. سمعتها تصرخ ثم بدا لي أنها غابت عن الوعي. تطلعت إليها مصعوقا ثم تلفت حولي بحثا عن قلة ماء. وإذا بها تمسك بيدي باسمة ثم ترفعها إلى فمها وتقبلها. اعتدلت على ظهرها وتنهدت في رضا. ثم وضعت يدها على بطنها وبللت أصابعها من مائي ثم دعكت ثدييها. وقالت في خبث: هذا أفضل لنمو الثديين. استلقيت إلى جوارها واحتضنتها. أفلتت من أحضاني وقالت: لا بد أن ننزل الآن قبل أن يأتي أحد". وأرجو من القارئ الكريم أن يلتفت إلى أن الراوى لم يكن يعرف من الفرنسية، وبالذات فى أول معرفته ببولين، إلا شظايا وشذرات قليلة نيئة لا تغنى فى مثل هذه المحاورة بشىء، إلا أن صنع الله على كل ما يناقض المنطق والواقعية جِدُّ قدير، وبه جِدُّ خبير، وهو ما سوف نعود إليه تفصيلا فيما يُقْبِل من صفحات!

وقد تكرر هذا الدنس مرات، وكانا يأخذان راحتهما دون أى احتراس وكأنهما يعيشان وحدهما فى هذا العالم حتى إنه كان يذهب إلى مسكنها والحراس واقفون على الباب حماية لها لأنها عشيقة نابليون، فيمر بالحراس دون أن يسأله أحد إلى أين هو ذاهب، فضلا عن أن يمنعه من الدخول، بل دون أن يفكر أحد فى تبليغ بونابرت خبر تردده عليها وبقائهما وحدهما فى الطابق الثانى لمدد طويلة. وواضح تماما لمن يقرأ الكتاب أن الكاتب لا يقبض على زمام فنه، بل كل همه هو الإثارة الجنسية مع أنها لا تليق به وبسنه المتقدمة. ولو أن هذا صدر عن شاب أرعن لما كان مقبولا، فكيف من شيخ فى سن صنع الله إبراهيم؟ وكيف، والعمل الذى ورد فيه لا يتطلب شيئا من ذلك ولا له فيه دور يمكن أن يؤديه؟ إنما هو إثارة رخيصة ليس إلا. ثم إن راوى الكتاب شخصية غير تاريخية، فكيف يقيم الكاتب بينه وبين شخصية تاريخية معروفة جيدا، وكانت بينها وبين نابليون مخادنة، علاقة عشق وزنا؟

وفوق هذا ففى الكتاب أخطاء لغوية فادحة وفاضحة تدل على أن الكاتب ليس لدية أية فكرة عن التمرهندى فى مجال اللغة رغم أن اللغة والبراعة فيها إنما هى مَجْلَى موهبة الأديب، ورغم أن الكتاب قد تمت مراجعته لغويا من قِبَل أحد الشعراء حسبما يقول المؤلف فى مؤخرته. وليعذرنى القارئ الكريم حين أستخدم كلمة "المؤخرة" هنا، فقد جاءت هكذا دون سابق تدبير، وما إلى شىء مما يقصده إخواننا وأخواتنا البعداء من المتنورين والمتنورات من ذوات المؤخرات الـمُتْأَرات قد أردتُ، بل كل ما قصدته هو "نهاية الكتاب"، ولكنْ بتلك الكلمة جرى المقدور، وليس من المقدور مهروب. وهذه بعض أخطاء الكاتب الكبير، بل أكبر كاتب فى بَرّ مصر، بل أكبر كتاب العرب والعجم أيضا والإنس والجن وسكان العالم العلوى والسفى جميعا، حماه الله من عيون الحاسدين والشانئين، ومن لا يعجبه فليشرب من البحر، وعنده بحران لا بحر واحد: الأحمر والمتوسط، اللذان سبق عبد الناصر فشرب منهما وشربنا معه حتى كيعاننا بعد الهزيمة المدوية أم جلاجل، تلك التى سموها، بعيدا عنكم وعن السامعين والقارئين أجمعين: "نكسة"، وكانت النية متجهة إلى أن تشرب منهما أمريكا وإسرائيل، لولا أنه ("الله يرحمه" على رأى أنور السادات) قد فوجئ بالضربة تأتيه من الغرب، على حين كان يتوقع إتيانها من الشرق لأن إسرائيل خائنة العهود لم تحترم توقعه واستنذلت فيها وباغتته من الجهة المعاكسة، وإن كنت لا أدرى أى غرب يقصده الزعيم الملهم، فقد أتتنا الضربة من الشرق فعلا، لكنه لم يجد شيئا يقوله، فكان هذا التنطع الذى يبرع فيه الزعماء الخالدون.

ما علينا. نعود إلى الأستاذ صنع الله، الذى هو أكبر كاتب مصرى وعربى وعجمى وإنسى وجنى وعلوى وسفلى فى اللحظة الراهنة وفى كل اللحظات من راهنة ومقبلة وماضية، فنقول إننا سوف نورد بعض أخطائه، وهى أخطاء عبقرية مثله، لأن كل إناء بما فيه ينضح، وأخطاء العباقرة لا بد ولا مناص ولا معدى ولا مفر من أن تكون عبقرية مثلهم: ونفتتح بهذا التعبير المضحك الذى يفاجئنا به أكبر كاتب فى العالم فى أول الكتاب: "ناس تخبّ فوق حميرها". ذلك أن الناس إنما تركب الحمير، فكيف يمكن أن تخب فوقها، والخبب إنما هو نوع من الجرى؟ والمقصود أن الحمير هى التى كانت تخبّ، لكن المؤلف لا يعرف كيف يعبر التعبير الدقيق. عبقرى! ماذا نفعل؟ ويقول أيضا: "رفعتُ عيناى"، و"رفعتْ هى عيناها إلىّ" برفع المفعول به، وهذه من علائم عبقريته. فالرجل لا يعرف كيف يكتب كتابة سليمة شأن كل عبقرى تنويرى، وهذه من مخازى العصر الحديث حيث يكثر تسمية فلان وعلان أديبا وكاتبا ومفكرا كبيرا فيما هو لا يستطيع أن يسطر سطرا واحدا غُفْلاً من الأخطاء الفاحشة. ومنها: "سيكتشفوني" بنون واحدة رغم أنه لم يسبق الفعل ناصب ولا جازم لانشغاله بالسين. وكان حريا به لو لم يكن عبقريا لا يخضع لما نخضع نحن له من القواعد والقيود أن يقول: "سيكتشفوننى". ولكن نونا واحدة أو نونين لا تستحق أن نحدث لغطا بسببها. ومنها كذلك أنه يجعل لكل صلاة "آذانا". لماذا؟ لا أدرى. أو ربما خلق لها آذانا حتى لا تكون أقل من الحيطان، لأنه إذا كانت الحيطان لها آذان، فهل الصلوات أدنى منها؟ كلا وحاشا! وقد كرر حكاية الآذان هذه عدة مرات كيلا ينسى القراء، فاعتبروا يا أولى الألباب. وأنا متأكد أنه لن يدرك مقصدى من هذه السخرية، فعبقريته أكبر من أن تساعده على إتقان اللغة أو فهم تصحيحات المصححين. ومنها قوله: "وعبرت الرواق الجديد ذي السقوف المذهبة"، بدلا من "ذا السقوف المذهبة" كما يقول عباد الله غير العبقريين من أمثالنا. ومنها استعماله كلمة "بلوة" عوضا عن "بلوى" على طريقة طلبة هذه الأيام الذين لا يقرأون ولا يعرفون الألف من كوز الذرة، فتراهم يقولون: "فُصْحَة" و"فَتْوَة" و"نجوة" و"سلوة" و"دعوة" و"بلوة" فى "فُصْحَى، وفتوى، ونجوى، وسلوى، ودعوى، وبلوى". إنها حقا وصدقا بلوى، وأى بلوى! إنها ثقافة الآذان التى لا يعرفون سواها. ولم لا، وقد جعل الأستاذ صنع الله من قبل للصلوات آذانا؟

ومن الأخطاء العبقرية فى الكتاب قوله: "اتخذ مكانه فوق سرادق مذهب يطل على النيل الممتلئ". وواضح أنه يقصد بــ"السرادق" شيئا يُجْلَس عليه. إلا أن المعاجم السخيفة، تلك التى وُضِعَتْ لقوم غير عبقريين ككاتبنا العبقرى الذى هو أعظم الكتاب فى عصرنا وفى كل العصور، تقول للأسف شيئا آخر. ولسوف نكتفى منها بــ"تاج العروس" للزبيدى المعاصر للجبرتى حتى لا نذهب بعيدا، وفيه نقرأ: "السرُّادِقُ كعُلابِطٍ...: الذِي يُمَدّ فَوْقَ صحْنِ البَيْتِ... وقالَ ابنُ الأثِيرِ: هو كلًّ ما أحاطَ بشَيء من حائِط أو مَضْرِب أو خباء... وفي التَّنْزِيل: "أَحاطَ بِهمْ سُرادِقُها". قال الزَّجّاجُ: أَي صارَ عَلَيْهِم سُرادِقٌ من العَذابِ، أَعاذَنا الله تَعالَى منها. والسُّرادِقُ: البَيْتُ من الكُرْسُفِ نَقَله الجَوْهَريُّ، وأَنْشدَ لرؤبَةَ، وهكذا وقَع في كتاب سِيبَوَيْهِ، قالَ الصاغانيُّ: وليسَ لَهُ، وإِنَّما هُو للكَذّابِ الحِرْمازِيِّ:

يا حَكَمُ بن المُنذِر بنِ الجارُودْ
أَنْتَ الجَوادُ ابنُ الجَوادِ المَحْمُودْ
سرُادِقُ المَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ"

أى أن السرادق لا يُجْلَس عليه كما فهم كاتبنا العبقرى.

وهو يستعمل الصيغة العامية لكمة "الـمُوسَى" فيقول: "مُوس"، ويجمعها على "أمواس" بدلا من "مواسىّ"، وكله عنده صابون! ومن استعمالاته العامية أيضا التى لا يعرف وجه الصواب فيها قوله: "فتسابقوا لبعض بالبشارة"، و"ابتعادنا عن بعض" بدلا من "بعضهم لبعض"، و"بعضهم عن بعض" على التوالى. وقس على ذلك قوله: "وبقينا مدة فى أحضان بعضنا"، وهو ما يذكرنى بأغنية الحاجة شادية: "حبينا بعضنا، وبحنا بسرنا، عقبالنا كلنا، وتبقوا زينا، فى الهوااااا سوااااا". ومن الاستعمالات العامية كذلك: "الأهرامات" و"الرسومات"، وهو ما يذكرنى بقولنا ونحن أطفال صغار فى بداية تعليمنا: "الكُتُُبَات" بدلا من "الكتب". ياه! لم أكن أعرف أننا كنا عباقرة إلا اليوم. ألسنا كنا نفعل مثلما يفعل أكبر كاتب فى الشرق والغرب والشمال والجنوب؟ فماذا نريد أعظم من ذلك؟

ومن تلك الأخطاء أيضا قوله: "قال إن أغا يوناني حضر من الإسكندرية"، جاهلا أن الصواب: "يونانيا" بالنصب لأنها نعت لاسم "إن"، وهو "أغا". ومنها كذلك قوله: "حتى يبدون"، والصواب: "حتى يبدوا" بحذف نون المضارع لأنه منصوب. ومنها قوله: "يخطئوهم" مع أنه لم يسبق الفعل ناصب ولا جازم فوجب إثبات نون الرفع. ومنها "جاء ظهرينا"، بنصب الفاعل، وقد تكرر، وهو من فتوح اللغة التى سوف يذكرها التاريخ له وتقرَّر على طلبة المدارس المعاتيه حتى يزدادوا بمشيئة الواحد الأحد عَتَهًا فوق عتههم. ومنها "نفذ صبرى" بالذال، وصحتها: "نَفِدَ صبرى" بالدال وكسر الفاء. وكذلك "شيقة"، وإن لم يكن عدلا منى أن أتوقع معرفة صنع الله وجه الصواب فيها، وهو "شائق" لأن "شيق" معناها "مشتاق" كما فى قول شوقى محدّثا النهر العظيم عن عروس النيل التى يقال إنها كانت ترمى نفسها فيه عن حبٍّ فداء لوطنها: "وأتتك شَيِّقَةً حواها شيِّقُ". ومنها "وتلى علينا آخر قصائده، وبها هذين البيتين"، التى "انتصب" فيها المبتدأ بدلا من الرفع اتباعا لقواعد النحو الجديد التى دشنها عبقرينا المتربع على رقاب كتاب العالم، علاوة على كتابته الفعل "تلا" بالياء، وصوابه أن يكتب بالألف لأن أصل الألف واو (هكذا: تلا يتلو تلاوة). وليسامحنى القارئ أيضا فى "انتصب" هذه، فما لى عنها مفر. ومثل ذلك قوله: "بها بابَيْ حانوتين" بدلا من "بها بابا حانوتين" على الابتداء. وقريب منه قوله: "هل تعرف من هم الضحايا الحقيقيين؟ الفلاحين"، إذ إن كلتا الكلمتين الأخيرتين خبر، ومن ثم فحقها الرفع. ومنها "خَشَتْ" و"نَسَتْ" بدلا من "خَشِيَتْ" و"نَسِيَتْ". ومنها "لا شيء ذي أهمية" بخفض "ذى"، وهو ما لا يمكن أن يكون. وكذلك "٢٠٠٠ قنطارا" بنصب "قنطارا"، على حين أنها مجرورة. ومنها "تجمَّعَ بميدانها الجاف أرباب الملاهى والبهلويين" بجر الكلمة الأخيرة رغم استحقاقها للرفع لانعطافها على فاعل، فضلا عن أنها "البهلوانات" لا البهلويون". ومثلها قوله: "وخرج النصارى البلديين". ثم هذه: "ورأيت بينهم قبط وشوام وأجانب ويهود وضباط كبار"، حيث الصواب الذى لا صواب غيره هو: "ورأيت بينهم قبطا... ويهودا وضباطا كبارا". ومثلها كذلك قوله: "ودخل جندي فرنساوي يرتدي سترة ذات شرائط مذهبة وبنطلون ضيق لصيق بالجلد" بدلا من "يرتدي سترة ذات شرائط مذهبة وبنطلونا ضيقا لصيق بالجلد" كما لا يخفى إلا على كبار الكتاب العباقرة مثلما هو واضح.

ومن تلك الأخطاء العبقرية كصاحبها قوله: "يدفع منها كل سنة مائة ألف وستة وثمانون ألف ريال فرانسه" برفع "ثمانون" رغم انعطافها على مفعول به منصوب كما هو جلىٌّ بيّنٌ إلا للعباقرة الذين لا يلتفتون إلى هذه التفاهات. ومنها قوله عن امرأتين: "باعا" بدلا من "باعتا": "طيف بأمرأتين (لاحظ وضع الكاتب الهمام همزة على الألف الأولى من الكلمة رغم أنها همزة وصل) فى شوارع مصر بين يدى الحاكم، ينادَى عليهما: هذا جزاء من يبيع الأحرار. وذلك أنهما باعا امرأة لبعض نصارى الأروام بتسعة ريالات". وطبعا ليس هذا خطأ من كاتبنا العبقرى، لكنها محاولة للتسوية بين الرجال والنساء حتى لا يكون هناك ذكر وأنثى. ألم تعترض إحداهن على أنْ ليس لها عضو ذكورة؟ فهذا هو كاتبنا يجيب عليها ويلغى التفرقة بين الجنسين. ولكنه بهذه الطريقة يثبّت ما يسمونه: "ذكورية اللغة"، إذ يلغى ضمائر التأنيث ويبقى على الضمائر التذكيرية وحدها، وهذه مشكلة أخرى لا أدرى كيف سنواجهها. ولعل القارئ لم ينس ما كنت كتبته فى ردى على شريف الشوباشى حين طالب منذ سنوات بإلغاء التذكير والتأنيث من لغة القرآن، فقلت له إن هذا يكون وجيها لو لم يكن بين الجنسين تلك الفروق التى لا يمكن تجاهلها، كما أنكم بهذا إنما تريدون إلغاء شخصية المرأة لأنكم تعملون على حذف الضمائر والصيغ الصرفية الخاصة بها من لغتنا واستخدام ضمائر الرجال لها بدلا منها، وليس فى هذا ما يخدم قضيتها بحال من الأحوال. حيرنا هؤلاء الناس والله حيرة عظيمة! ولكنْ واضحٌ أن كل ما يهمهم هو تدمير الثوابت أيا كانت النتائج والثمار، وليذهب كل شىء بعد ذلك إلى الجحيم.

وبعد، فإنى أتساءل: إذا كانت هذه أخطاء صنع الله، الذى هو أكبر كتاب مصر والعرب والمسلمين والدنيا كلها بأرضها وسمائها، ودعونا من الأخطاء الإملائية والترقيمية، وهى أكثر من الهم على القلب، قلبى أنا وأمثالى طبعا، أما قلبه هو فربُّنا لا يملأ له قلبا بهمٍّ ولا غمٍّ، وليعش طوال عمره السعيد المديد خالى القلب من كل شىء، فقد كُتِبَتْ له الأولوية على الكتاب جميعا فى الأرضين السبع والسماوات السبع وتربَّع على رقابهم، ومن لا يعجبه فليشرب من البحر، وعنده بدل البحر الواحد بحران اثنان كما قلنا، والمهم أن يستعد لنكسة أخرى كنكسة سبع وستين أو أشد، فكيف كان يكون الأمر لو لم يخضع كتاب جنابه العالى من قبلُ لتصحيح صديقه الشاعر؟ العجيب أن كل من يمسك بالقلم هذه الأيام من كتابنا التنويريين التقدميين "الشرفاء" (ولا بد من "الشرفاء" هذه التى كان الكتاب اليساريون فى الستينات حريصين أشد الحرص على وصف أنفسهم بها دون سائر عباد الله غير الشرفاء، "وأحسن من الشرف مافيش" كما كان يقول توفيق الدقن!)، أقول: إن كل من يمسك بالقلم هذه الأيام من كتابنا التنويريين الشرفاء تقريبا لا يختلف فى ذلك عن عبقرينا الكبير الذى ليس كمثله شىء بين الكتّاب فى أنحاء الكون كله. ولنا الله مع هؤلاء العباقرة! فاللهم سترك وكرمك ولطفك! ومعروف أن لكل صنعة أصولها ومبادئها، ومن لا يتقن هذه الأصول والمبادئ فهو غشيم فى الكار. فالنجار مثلا لا بد أن يعرف أول ما يعرف كيف يدق مسمارا دقا سليما، وكيف يغرّى الخوابير الخشبية، وإذا لم يستطع أن يتقن ذلك لم يصلح أن يكون نجارا. وقس على ذلك سائر الحرف والمهن. فلماذا يراد للأدب أن يشذ عن هذا فيقال لمن يجهل كيف يستخدم لغته إنه أديب كبير بل أكبر أديب فى مصر بل فى الكون؟ إنها لمهزلة، وأى مهزلة. وهذا دليل على الإفلاس الفكرى والأدبى عندنا. بيد أن الأمور فى دنيا الأدب لا تؤخذ بالنبابيت مهما تَبْدُ مواتية لكل ذى نبوت، والتاريخ لا يتوقف عند وقتنا الحاضر، بل هو ممتد ومتحرك لا يتوقف، وغدا ستعتدل الأحوال المائلة. ولقد خلق الله الكون بميزان، أى بقوانين دقيقة، ومن ثم لا يمكن أن تستمر أو تستقر السيادة للهلس وشغل الثلاث ورقات مهما كانت أيدى البهلوانات والحواة خفيفة لا تمكن ملاحظتها. قد يدوم ذلك نقطة أو نقطتين: يوما أو يومين، أو أسبوعا أو أسبوعين، أو شهرا أو شهرين، أو سنة أو سنتين. قل: "ان شالله"! أما أن يستمر إلى الأبد فهو ما لا يمكن أن يكون.

ثم إن الأسلوب الذى صيغ به الكتاب لا يلائم عصر الحملة الفرنسية، وإن لجأ صنع الله أحيانا إلى الاستعانة ببعض ألفاظ أو عبارات من الجبرتى، فعندئذ وعندئذ فقط، تنفح السطور ببعض من رائحة ذلك العصر، أما فيما عدا هذا فلم ينجح الكاتب فى الإيحاء بأننا نعيش مع بطل الكتاب وراوى أحداثه فى العصر الذى يفترض أنه كان يعيش فيه. وأقول: "يفترض" لأن صنع الله لم يقدر على إقناعنا بذلك، إذ جاءت صورة ذلك الرجل مهتزة اهتزازا عنيفا. بل إنه لم يعطه اسما، فبقى على طول الكتاب مجهَّلا غامضا لا ندرى شيئا عن أصله ولا فصله سوى أنه هاجر من الصعيد إلى العاصمة أيام الطاعون. أما من أية مدينة أو قرية، وأما إلى أية أسرة ينتمى، وأما فى أية بيئة اجتماعية أو ثقافية نشأ وتربى وتشكلت جذور شخصيته، وأما أى تعليم تلقاه... إلخ فهذا كله لا ندرى عنه شيئا. لماذا؟ لا ينبغى أن نطالب الكاتب بجواب على أى من هذه الأسئلة، فهو أكبر كاتب فى مصر بل فى العالم. ومثله، إن كان له مثل، لا يتدهدى إلى الرد على تلك الأسئلة السخيفة. أوليس مضحكا أن يكون هذا هو مستوى رسم الشخصية الأولى فى الكتاب؟

ولنأخذ مثلا السطور التى بدأ بها الكتاب على لسان الراوى: اندفعت وسط الجموع الصاخبة. الحرارة خانقة. الشمس لاهبة. التراب يملأ الجو. العرق يسيل على وجهي وأسفل إبطي. تعثرت في نتوء وسط الطريق كونته القاذورات والعفوشات المتراكمة. توقف الكنس والرش منذ ظهر الفرنسيس علي تخوم القاهرة. أوشكت على الوقوع لولا أن لحقني أحدهم وشدني من ساعدي. سقطت عمامتي فوق الأرض، وانفك عقدها. التقطتها وأعدت ربطها فوق رأسي. سكك ودروب. سوق السمك. وكالة القمح. وكالة الأرز. جامع المعلق. وكالة الكتان. وكالة الزيت. وكالة الابزارية. وكالة الملايات. درب القصاصين، درب البرابرة، موقف الحمير، جامع أبو العلا، سكة أبو العلا. بالأمس ذاع خبر هزيمة مراد بك في انبابة. وخرج عمر مكرم نقيب الأشراف من القلعة حاملا بيرقا كبيرا أسماه العامة "البيرق النبوي". تبعته الألوف بالنبابيت والعصي ورجال الطرق الصوفية بالطبول والزمور والأعلام والكاسات. جاء في أعقابهم العجزة والشحاذون والمسلولون والعميان والمجذومون. أُغلقت الدكاكين والأسواق. اتجه الجميع لبر بولاق لينضموا إلي إبراهيم بك الذي حشد مماليكه لملاقاة الفرنسيين. توزع أبناء الطوائف بين المساجد والخرابات. نصبوا خياما لاقامتهم ومبيتهم. تطوع البعض للإنفاق على الآخر. جهز التجار جماعات من المغاربة أو الشوام بالسلاح والأكل. ولم يفد هذا كله بشئ فسرعان ما انهزم ابراهيم بك وولى هاربا. وبدأت رحلة العودة إلى المدينة. رددت مع الصائحين: ياخفي الألطاف نجنا مما نخاف. زعق أحد خلفي: بالك. التفت لأرى حصانا يمتطيه مملوك شاب في سروال كبير أحمر اللون وصديري واسع ذي أكمام طويلة وعمامة ملفوفة حول طربوش طويل. كانت الدماء تلوث ملابسه. شق طريقه بعنف بين الجارين فأوقع بعضهم أرضا ودهسهم. التصقت بالجدار. مال فوق فرسه ولوح بسيفه. التقط عمامة أحد أولاد البلد وانفجر ضاحكا. تكشفت عمامة الضحية عن رأس حليقة لم يتبق من شعرها سوي خصلة واحدة. لوح بسيفه مرة أخرى في اتجاهي. ارتميت علي الأرض. لعنته في سري فلم أجرؤ علي الاحتجاج. ابتعد المملوك فنهضت واقفا. وضعت ذيل جلبابي بين أسناني وجريت. مررت بشونة قمح. ثم حانوت الكتان المستورد من ألمانيا الذي تملكه الزوجة الثانية للشيخ الجبرتي، ويديره ابنه خليل. ثم منزله تجاه جامع ميرزه جوربجي. يقضي به الصيف عادة ولم ينتقل إليه بعد. وكالات القطن والحنا والسكر والزعفران والبن والصمغ والعاج. أزقة ضيقة لا تتسع لمرور رجلين متقابلين. حواري دائرية يتوه فيها من لا يعرف المنطقة جيدا. عويل النساء في البيوت. رجال مهرولون وأمتعتهم فوق رؤوسهم. نساء حاسرات يحملن أطفالهن فوق الأكتاف. المقس المقفرة التي تكاد تخلو من العمران. امرأة بطرحة مطوحة خلف الكتف وصرة. فلاحات عجفاوات في جلاليب سوداء ورجال ضامرون في قمصان زرقاء تشدها علي خصورهم حبال غليظة من التيل. الأزبكية. بيوت الأمراء والأعيان. الأتباع يكدسون الأمتعة فوق الجمال. ناس تخب فوق حميرها. درت حول البركة. أوشكت أن أصطدم ببغلة يمتطيها شيخ عجوز. لحقت به جماعة من الإنكشارية، جند الوالي التركي. تميزهم ريشة ذات شعبتين فوق طراطيرهم. حاذى أحدهم العجوز فدفعه جانبا وأوقعه ثم التقط مقود البغلة وجرها خلفه. ساعدت العجوز علي النهوض وأخذ يولول على بغلته المخطوفة. واصلت الركض. تراجعت الشمس وخف لهيبها. الموسكي. عبرت القنطرة بصعوبة. خيل لي أنها ستقع من فرط الزحام. قطعت شارع الأشرفية حتى نهايته في مبتدأ شارع الغورية. عطفت على خُطّ الصنادقية. اندفعت من باب الحارة المفتوح. رأيت مدرسة السنانية التي تعلم بها شيخي مغلقة الأبواب. في مقابلها وكالة السلطان اينال مغلقة وبجوارها البيت. توقفت أمامه ألهث أسفل المشربيات المغلقة النوافذ. باب مقنطر موارب. مدخل قصير بجوار مصطبة منحوتة من الحجر. باب آخر يفتح على رحبة واسعة في وسطها حديقة صغيرة. الشيخ عبد الرحمن الجبرتي واقف قرب الباب الداخلي للبيت ومسبحته في يده. الاضطراب ظاهر علي وجهه. إلى جواره ابنه خليل الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، ويصغرني بعامين. منصور، عبده الأسود يداه مضمومتان إلى صدره وعيناه مثبتتان على عيني سيده. يدرس رغباته لينفذها قبل أن ينطق بها. لحقني جعفر بقلة الماء. حكيت لأستاذي ما وقع من أحداث. كيف قاتل المماليك في شجاعة. الواحد منهم يطلق أولا قربينته ثم يدسها تحت فخذه وبعدها يطلق طبنجاته ويقذف بها من فوق كتفه ليلتقطها خدمه، ثم يقذف بسهام الجريد الفتاك، وأخيرا يهاجم بسيفه الأحدب، وأحيانا يحمل سيفين في آن واحد ويضرب بهما ولجام الجواد بين نواجذه. لكنهم تراجعوا أمام الفرنساوية الذين نظموا أنفسهم في مربعات غريبة الشكل".

فهل يمكن أن يدور فى خَلَد عاقل أن الأسلوب العربى قد عرف قبل هذه الأيام النحسات تلك الطريقة العجيبة ذات الجمل القصيرة المتقطعة التى لا تتصل أية جملة بالتى قبلها أو التى بعدها بأى رابط، فضلا عن أن يكون ذلك فى أواخر العصر العثمانى لدن مجىء الحملة الفرنسية؟ إن هذا الأسلوب لم يعرف فى الكتابات العربية قبل العقود الأخيرة وعلى أيدى أمثال صنع الله. ولقد ارتكستُ فيه ذات مرة فكتبت قصة قصيرة به فى أوائل سبعينات القرن الماضى عندما كنت أظن أننى قصاص موهوب، ثم سرعان ما برئت من تلك اللُّوثة بفضل الله بعد أن وضعت عقلى فى راسى وعرفت خلاصى. وها هى ذى كتب النثر العربى متتاحة لكل من يريد، فليدلنى من يخالفنى فى هذا الكلام على ما ينقض قولى، وأنا زعيمٌ برجوعى عما قلته. وهذا الأسلوب بما يتسم به من انفصال جمله بعضها عن بعض وكثرة الجمل الاسمية هو فى الواقع عَرَضٌ من أعراض الشعور بالدونية تجاه الغرب، إذ يقلد فيه الكاتب العربى نظيره الأوربى الذى لا تعرف لغاته ما تعرفه العربية من روابط تصل عادة بين الجمل المتتابعة، فضلا عن أن تلك اللغات لا تتضمن إلا الجمل الاسمية، على عكس الحال لدينا حيث نستخدم نوعين من الجمل: اسمية وفعلية. وقد ذكر صنع الله فى "يوميات الواحات" أنه لجأ، فى كتابة قصة له وهو فى السجن بعنوان "أميرتى السمراء"، إلى هذه الطريقة التى تخلو من حروف العطف والربط كلون من التجديد.

صحيح أن الراوى قد حرص على تضمين كلامه الألفاظ التالية: "عفوشات، والبيرق النبوى، والطبول والزمور والأعلام والكاسات"، لكن لا شىء هنالك فى السطور المقتبسة سوى هذا. ولا ننس كذلك أنه كان حريصا طوال الوقت على ذكر كل ما يمر به من أماكنَ ومبانٍ أو يشاهده من وقائعَ وأحداثٍ أو يقابله من بشر وحيوان، وكأنه معلِّقٌ كروى من معلقينا الثرثارين الذين لا يتركون شاردة ولا واردة إلا وصدعوا أدمغتنا بها مهما تكن تفاهتها، ومعظمها بحمد الله تافه لا يستحق عناء الذكر، وبخاصة أن التلفاز يضع تحت أبصارنا كل شىء بحيث لا نحتاج إلى شىء من هذا اللت والعجن. فإذا أضفنا إلى هذا كله أن الراوى كان محشورا بين الجموع التى تجرى هنا وههنا فى ذلك الحر الخانق والعرق السائل وأنه لم يكن لديه فسحة من الوقت ولا من هدوء الأعصاب ولا من انفساح المكان بحيث يمكنه رؤية ما يوهمنا المؤلف أنه كان يراه ويسجله فى مصورته الذهنية التى لا تند عنها تفصيلة من التفصيلات تَبَيَّنَ لنا أن هذا الذى يعمله صنع الله هو الغشم الفنى بعينه. لقد بلغ من كَرْب الراوى وهو سائر فى الطريق أنه كان يقع من شدة الزحام فتنفك عمامته ويجد فى إعادة لفها وكبسها فوق رأسه مشقة شديدة وأنه لم يكن يستطيع أن يعبر عن غيظه بكلمة واحدة خوفا من فرسان المماليك الذين كانوا يخطفون أغطية الرأس من فوق أدمغة المهرولين من أولاد البلد وهم يقهقهون، فكيف بالله يمكننا أن نصدق أن ذلك الرجل كان لديه من الوقت وفراغ البال وروقان الخاطر ما يجعله ينخرط فى تلك الثرثرة البغيضة التى أخذ صاحبها على عاتقه القيام بدَوْر المرشد السياحى الخام الذى لا يترك للسائح المسكين فرصة يلتقط فيها أنفاسه ويعطى آذانه إجازة فيندمج اندماجا مباشرا فى المناظر التى يمر بها ويرتاح قليلا من الثرثرة التى لا تنتهى، أو بدَوْر البنت الخليجية فى رواية "برهان العسل" لسلوى النعيمى السورية المتبرّسة، أى التى تعيش فى باريس وتتصرف فى كل شىء، وبالذات فى ميدان الجنس، كما تتصرف نساء باريس بل كما لا تستطيع أولئك النسوة أن يتصرفن لأنها تفوقهن بمراحل على نحو لا يخطر على البال. فماذا قالت النعيمى عن تلك البنت الخليجية؟ قالت، والعهدة عليها، أو بالأحرى: على صديق من أصدقائها حكى لها ما كانت تصنعه البنت الخليجية معه فى الفراش، وإن كنت لا أصدقها ولا أصدقه: "حلوة ممتلئة، صدرها يجنن. ولكنها صرعتنى. فى السرير. لم تسكت: تغنى. تنتحب. لم تتوقف عن الكلام الطالع النازل. تصف ما نفعل أولا بأول كأفضل معلق رياضى فى البث المباشر. فى البداية هيجتْنى أكثر، ثم بدأتُ أحسّ وكأن كلماتها نوع من التشويش. حاولتُ إسكاتها بالقبل مطبقا على فمها. لا فائدة. ما إن أتوقف لحظة حتى تعاود البث. لم أعرف كيف انتهيت. أوف!". وهذا بالضبط ما نشعر به تجاه ثرثرة بطل الكتاب، أو بالأصح: ثرثرة مؤلف الكتاب. المضحك فى الأمر أننى فتحت "برهان العسل" الآن فقط وأنا فى عز اندماجى فى كتابة الفقرات الحالية من هذه الدراسة، فكان ما كان من وقوعى على ذلك النص فقررت اقتباسه والاستشهاد به. ورب صدفة خير من ألف ميعاد! ثم ما لزوم تعداد راوى الكتاب لأسماء تلك الأماكن دون أن يعرف القارئ عنها شيئا ودون أن يشير هو إلى مواضعها من القاهرة؟

ونفس الثرثرة البغيضة تلقانا عند وصف الراوى لبيت الجبرتى: "نفذنا من الباب الداخلي وأغلقته. عبرنا الحوش واتجه جعفر إلى غرفة الخدم بينما ولجت الغرفة المخصصة لي. كانت جدرانها مطلية بالجير وذات لون أبيض ناصع. انحنيت فوق صندوق حاجياتي ورفعت غطاءه. أخرجت حاشية كبيرة ووسادتين وملاءة. جذبت حصيرة من سعف النخيل بمربعات سوداء وصفراء بحيث تواجه الباب التماسا للطراوة. وبسطت فرشتي فوقها. طاردت الذباب والناموس. وخرجت مغلقا الباب خلفي. دخلت كوة كرسي الراحة ذات المدخل المكوع. لم تفلح فتحة التهوية العلوية في تبديد الرائحة. تبولت وغسلت يدي بجذور عيش النون الصفراء التي لا رائحة لها. عدت إلى غرفتي فوجدت خادما قد أحضر لي الأكل على طبلية. رفعت القماش الذي يغطيه. ملوخية بها قطعة من اللحم. فجل وبصل وخيار وطماطم. بنجر وخيار منقوعان في الخل. رغيفان مستديران من الخبز. لاحظت أن حجمهما أصغر من المعتاد. ولمست طعم التراب عندما مضغت لقمة. ومع ذلك أكلت في حماس. فلم يدخل جوفي شيء منذ الصباح. شربت كوبا من شربات الورد. تجشأت. دفعت الطبلية ونهضت واقفا. ولجت كرسي الراحة، ودعكت أسناني بالجذور الصفراء وتوضأت. عدت إلى غرفتي فجففت يدي وصليت العشاء. خرجت من جديد إلى الحوش المظلم. الجو حار وخانق. إلى اليسار أقبية بها اصطبل الدواب ومخزن الغلال ومطبخ كبير به ركن للأخشاب والفحم. إلى اليمين حجرات الخدم والعبيد والضيوف. أبوابها مفتوحة تتصاعد منها همهمة خافتة. تجاوزت الحجرة الواسعة المخصصة للطلبة والمجاورين وحلقات التدريس. تطلعت حولي فلم أر أثرا لأحد. اقتربت من الباب الداخلي ودفعته. صعدت سلما قليل الدرج إلى الطابق الأعلى. هاجمتني الرائحة المطهرة لنبات الشيح الممزوج بخشب الصبر. ممشي دائري يشرف علي الحوش. عقود وأعمدة من الرخام الملون. مصابيح مبلورة وقناديل فضية مضاءة. غرف مغلقة. مستوقد تسخين المياه الذي يجري في مواسير إلى الحمّام. خلعت أحد القناديل وحملته في يدي. اقتربت من قاعة مرتفعة درجتين. دفعت الباب ودخلت. رفعت القنديل إلى أعلى وأجلت البصر حولي. السقوف والجدران مزينة بالخشب المحفور والمبخور وبالقيشاني الملون. ساعة حائط من البندقية. بجوار الحائط خزانتان متقابلتان فيهما الآنية الفاخرة. أرائك وشلت حريرية فوق السجاجيد. تحف منثورة في الزوايا ومعلقة على الجدران. الاسطرلاب الذي ورثه عن أبيه ويجري عليه أبحاثه في الفلك. ثريات بفروع من البلور. شماعد. يدعو الشيخ هذه القاعة "مجلس العقد الداخل" في صدرها أبيات من الشعر مطرزة على قطعة من الحرير. تهنئة من الشيخ مصطفى الصاوي بتمام البناء. بابان ملبّسان بالأصداف والنحاس البراق. أحدهما يفضي إلى خزانة الكتب وغرف النساء والعيال. والثاني إلى فسحة بها كرسي راحة ثم القاعة الكبرى التي يجلس فيها كبار الزائرين".

إن صنع الله يذكّرنا بما يفعله الطباخون فى برنامج "فتافيت" التلفازى مثلا حين يطبخون أمام المشاهدين شيئا. ذلك أنهم لا يكفون عن شرح كل خطوة يقومون بها، والحديث عن كل عنصر من عناصر الطبق الذى يطبخونه، وتحديد الوقت اللازم لكل خطوة يخطونها فى سبيل إعداد الأكلة... ولم يكن ينقصه إلا أن يشرح لنا ماذا يصنع فى "كرسى الراحة" وبالتفصيل الممل وبالبث المباشر صوتا وصورة، والحمد لله أن صناعة البث لم تتقدم بعد إلى المدى الذى تنقل معه الروائح أيضا! ولا أظن أحدا من القراء يصدق أن يروح الراوى فى نوبة وصف لكل شىء فى بيت الجبرتى وكأنه يشاهده لأول مرة. إن هذا خَبَلٌ وصفىٌّ لا أظن الراوى كان مصابا به، فضلا عن أن تبلغ إصابته به هذا الحد!

لقد حاول الأستاذ صنع الله تسويغ كثرة التفاصيل التى من هذا النوع فى كتابه فقال، فى الحوار الذى أجراه مع "السياسة" الكويتية" السالف ذكره، إن "هناك كتابات أخرى كثيرة اعتمدتُ عليها ربما في جملة، أو أسعار السلع. وهي كتابات متناثرة هنا وهناك، خصوصا دراستين لنيللي حنا وليلى عنان. وكل هذه المصادر تمكنت خلالها من الحصول على التفصيلات التي كنت أحتاج إليها. أهمها كيف عاش الناس في تلك الأيام لأنه من وجهة نظري أن الرواية هي فن التفاصيل. وكان من الممكن بدلا من أقوم بالبحث وراء التفاصيل أن أقول إنه في سنة كذا دخلت الحملة الفرنسية على مصر ثم خرجت سنة كذا, وأملأ بذلك ألف صفحة. إذن الرواية تحتاج إلى التفاصيل حتى تعطي مصداقية للقارئ. فالأسعار والأماكن والعلاقات الشخصية تفاصيل مهمة جدا في بناء الرواية وكما في الجزء الخاص بالعبدة السوداء "ساكتة" كيف أنها في حالة صمت دائم. لذلك أطلقوا عليها هذا الاسم. حتى في الجنس لا تتكلم لأنها عبدة".

لكنه نسى شيئا مهما، ألا وهو أنه لا بد أن تأتى مثل هذه التفصيلات فى سياقها الروائى الطبيعى دون ثرثرة ودون تكلف، وإلا بدا الأمر وكأنه شراب مر يجَرَّعه القارئ تجريعا دون أن يكون هناك ما يستدعى تجرُّعه كما هو الحال هنا. أما بالنسبة إلى ما قاله عن الجارية فهو كلام مضحك جدا جدا، إذ من قال إن الجوارى كن يلزمن الصمت عندما يمارسن الجنس مع سادتهن؟ هذه أول وآخر مرة أسمع فيها هذا المنطق العجيب. ترى هل كان كل من يجامع جارية يضع بجواره على الفراش خيزرانة يلهبها بها كلما تأوهت أو غنجت أو حتى تنفست فهى تخشى إن تنفست أو قالت لها كلمة من نفسها أن يمسك بالخيزرانة ويلهبها؟ طيب يا فالح. أوتستطيع أن تقول لى: وكيف يستمتع أصحاب الجوارى بهن وهن صامتات متخشبات ينظرن بعيون ميتة كجاريتك حسب وصفك لها؟ إن هذا ليس جنسا، بل مأتما! فأل الله ولا فألك يا صنع الله!

الحمد لله أنه لم يزعم أنهم كانوا ينزعون بالكلابات ألسنة الجوارى من حلوقهن حتى يضمنوا ألا يسهون ويصدرن صوتا على سبيل الخطإ عند الجماع، إذ من المعروف أن كل بنى آدم خطاء، فلا بد إذن أن تسهو الجارية وتقول لها كلمة من نفسها مهما اتُّخِذَ من احتياطات واحترازات. أليست من بنات حواء، اللاتى تفضل الواحدة منهن أن تموت ولا تسكت أبدا حتى لو طارت فيها رقاب وقامت الحرب الكونية الثالثة، بل حتى لو قامت القيامة ذاتها؟ كما أن معالجة خطئها بإلهابها بالخيزرانة بدلا من نزع لسانها من اللغلوغ يتطلب من صاحبها أن يتوقف عما هو بسبيله إلى أن يضربها، ثم يستأنف عمله مرة أخرى بعد ذلك. وفى هذا من التنغيص والتنكيد ما فيه، فلذلك كان الأحوط هو الأخذ بمبدإ "الباب الذى يجىء منه الريح، سُدّه لتستريح". وبالنسبة إلى قوله عقب ذلك إن "الجنس في الرواية يكشف عن الوضع الاجتماعي السائد في ذلك الوقت، أما العلاقة التي كانت بين الراوي و"ساكتة" فهي مختلفة تماما عما كان بينه وبين الفرنسية "بولين" حيث كان في العلاقة كلام وحوار وحب، علاقة إنسانية وقصة" فهو كلام فى الهجايص، إذ أين العلاقة الإنسانية بين ذلك الخلبوص الفاقد الكرامة الذى كان يشعر بالزهو لأن نابليون يزنى بالبنت التى يزنى بها وبين تلك البنت نفسها التى تسلم نفسها لعدة رجال فى ذات الوقت؟ وأين العلاقة الإنسانية فى الفحشاء التى كان يرتكبها ذانك النجسان؟ ثم أين الحوار والحب بينهما، ولم يكونا يتحدثان إلا عن أعضائهما الجنسية وما يتعلق بها تقريبا؟ وهل كانت النجسة الفرنسية تنظر إليه على أنه مساوٍ لها فى الثقافة والتحضر والجنسية؟ أم تراه هو أيضا كان يمارس الجنس معها وهو ساكت ينظر إليها بعيون ميتة كعيون السملك المنتن؟ لكنه يقول إنه كان يغنى لها حينئذ وهو منسجم بل منشكح آخر انشكاح! حاجة تحير والله!

وعَوْدًا إلى الجارية ومزاعمه السخيفة حولها ننقل السطور التالية من بعض الكتب التراثية عن الجوارى لنرى هل كن يصمتن عند الجماع: يقول ا لجاحظ فى كتابه: "الحيوان"، ولم يكن للجاحظ بالمناسبة زوجة بل جارية، فهو يتكلم كلام خبير: "حدَّثنا المازنيُّ، قال: ابتاع فتًى صَلِفٌ بَذَّاخ جاريةً حسناءَ بديعةً ظريفة، فلمّا وقع عليها قال لها مرارًا: ويلَكِ، ما أوسَعَ حِرَك! فلمّا أكثَرَ عليها قالت: أنت الفداءُ لمن كان يملَؤُه... وزعم أبو الحسن المدائني أن رجلاً تبع جاريةً لقوم، فراوغَتْه فلم ينقطع عنها، فحثّتْ في المشي فلم ينقطع عنها، فلمّا جازَتْ بمجلس قومٍ قالت: يا هؤلاء، لي طريقٌ ولهذا طريق، ومولاي ينيـ...ـني. فسَلوا هذا ما يريدُ مني؟ وزَعَمَ أيضا أن سيارا البرقيّ قال: مرّت بنا جاريةٌ، فرأينا فيها الكِبْرَ والتجبُّر، فقال بعضنا: ينبغي أن يكون مولى هذه الجارية ينيـ...ـها. قالت: كما يكون. فلم أسمع بكلمة عامّية أشَنََعَ ولا أدلّ على ما أرادت ولا أقصَر من كلمتها هذه... ودخل قاسم منزل الخُوارزمي النخَّاس، فرأى عنده جارية كأنها جانّ، وكأنها خُوط بانٍ، وقد قال جحشويهِ في شعر شبيها بهذا القول، حيث يقول: وكأنّها جَدْل عِنان، وكأنه الياسمين نعْمةً وبياضًا، فقال لها: أشتريك يا جارية؟ فقالت: افتحْ كيسَك تسرَّ نفسَك. ودخلت الجارية منزل النخّاس، فاشتراها وهي لا تعلم. ومضى إلى المنزل، ودفعها الخوارزميُّ إلى غلامه، فلم تشعر الجارية إلا وهي معه في جَوْف بيت. فلما نظرتْ إليه وعرفتْ ما وقعَتْ فيه قالت له: ويلكَ! إنك واللّه لن تَصِل إليّ إلا بعد أن أموت. فإن كنت تجسُرُ على نَـ...ـك من قد أدرجوه في الأكفان فدونَك واللّهِِ. إن زلتُ منذ رأيتك ودخلتُ إلى الجواري أصف لهنَّ قبحك وبليّةَ امرأتك بك. فأقبل عليها يكلِّمها بكلام المتكلمين، فلم تقبل منه، فقال: فلم قلتِ لي: افتَحْ كيسَك تسرَّ نفسك؟ وقد فتحتُ كيسي فدَعيني أَسُرّ نفْسي، وهو يكلِّمها وعينُ الجارية إلى الباب، ونفْسُها في توهُّم الطّريق إلى منزل النخّاس. فلم يشعر قاسمٌ حتّى وثبَتْ وثبةً إلى الباب كأنّها غزال، ولم يشعر الخوارزمي إلاّ والجارية بين يدَيه مغشيٌّ عليها. فكرَّ قاسمٌ إليه راجعا وقال: ادفعْها إليّ أشفي نفسي منها. فطلبوا إليه فصفَح عنها، واشتراها في ذلك المجلس غلامٌ أملحُ منها، فقامت إليه فقبَّلت فاه، وقاسمٌ ينظرُ، والقومُ يتعجَبون ممّا تهيأ له وتهيَّأ لها. وأما عيسى بن مروان كاتب أبي مروان عبد الملك بن أبي حمزة فإنّه كان شديد التغزُّل والتّصندل، حتَّى شرب لذلك النبيذَ وتَظَرَّف بتقطيع ثيابه وتغنَّى أصواتا، وحفظ أحاديثَ من أحاديث العشّاق ومن الأحاديث التي تشتهيها النساء وتفهمُ معانِيها. وكان أقبحَ خلْق اللّه تعالى أنفا، حتَّى كان أقبحَ من الأخنَس ومن الأفطس والأَجدع. فإمّا أن يكون صادَقَ ظريفةً، وإما أنْ يكونَ تزوَّجها. فلما خَلاَ معها في بيتٍ وأرادها على ما يريد الرَّجلُ من المرأة امتنعت، فوهب لها ومنَّاها وأظهر تعشقها وأرَاغَها بكلِّ حيلة. فلما لم تُجِب قال لها: خبِّريني، ما الذي يمنعُك؟ قالت: قُبْح أنفِك وهو يَستقِبلُ عيني وقتَ الحاجة. فلو كان أنفُك في قفَاك لكان أهونَ عليَّ. قال لها: جُعِلْتُ فِداك! الذي بأنفي ليسَ هو خِلقةً، وإنّما هو ضربةٌ ضُرِبتُها في سبيل اللّه تعالى. فقالت واستغربَتْ ضحِكًا: أنا ما أبالي في سبيل اللّه كانَتْ أو في سبيل الشَّيطان. إنَّما بيَ قُبْحُه. فخذْ ثوابَك على هذه الضَّربة من اللّه، أمَّا أنَا فلا".

ومن "أخبار النساء" لابن الجوزى: "قال عليّ بن الجّهم: لمّا أفضت الخلافة إلى جعفر المتوكّل على الله أهدي إليه ابن طاهرمن خراسان هديّةً جليلةً فيها جوارٍ، منهنّ جاريةٌ يقال لها: "محبوبة" كانت قد نشأت بالطّائف، وكان لها مولىً قد عُنِيَ بها، فبرعت في فنون الأدب وأجادت الشّعر. وكانت راويةً ظريفةً مجيدةً للغناء. فقربت من قلب المتوكّل وغلبت عليه. قال: فخرج عليّ يوما وقال لي: يا علي، دخلت السّاعة على قينة وقد كتبت بالمسك على خدّها جعفرا، فما رأيت أحسن منه، فافعل فيه السّاعة شعرا. فأخذت الدّواة والقرطاس، فانقفل عليّ حتّى كأنّي ما عملت بيتا قط. فقلت: يا أمير المؤمنين، لو أذنتَ لمحبوبة أن تقول شيئا عسى أن ينفتح لي. فأمرها، فقالت مسرعةً، وأخذتِ العود فجسته وصاغت لحنا، واندفعت وغنّت:

وكاتبةٍ بالمسك في الخدّ جعفرا * بنفسي خطّ المسك من حيث أثرّا
لئن أودعتْ سطرا من المسك خدّها * لقد أودعت قلبي من الشّوق أسطرا.
فاعجب لمملوكٍ يظلّ مليكه * مطيعا له فيما أسرّ وأجهرا

قال عليّ: وغضب عليها مرّة، وكان لا يصبر عنها، فأمر جواري القصر أن لا تكلّمها واحدةً منهنّ. فكانت في حجرتها أيّاما، وقد تنغّص عيشه لفراقها. فبكرتُ عليه يوما، فقال: يا علي. قلت: لبّيك يا أمير المؤمنين. قال: رأيت الليلة في منامي كأنّي رضيتُ عن محبوبة، فصالحتها وصالحتني. فقلت: خيرا يا أمير المؤمنين، أقرّ الله عينك وسرّك. إنّما هي عُبَيْدتك. والسّخط والرّضا بيدك. فوالله إنّا لفي حديثنا إذ جاءت وصيفة فقالت: يا أمير المؤمنين، سمعت صوت عودٍ من غرفة محبوبة. قال: فقم بنا يا عليّ ننظر ما تصنع. فنهضنا حتّى أتينا حجرتها، فإذا هي تضرب العود وتغنّي:

أدور في القصر، لا أرى أحدا * أشكو إليه ولا يكلّمني
كأنّني قد أتيت معصيةً * ليست لها توبةٌ تخلّصني.
فهل شفيعٍ لنا إلى ملكٍ * قد زارني في الكرى فصالحني
حتّى إذا ما الصّبح لاح لنا * عاد إلى هجره فصادمني؟

قال: فصاح أمير المؤمنين، وصحت معه. فتلقته وأكّبت على رجله تقبّلها، فقال: ما هذا؟ فقالت: يا مولاي رأيت في ليلتي هذه كأنّك صالحتني، فتعلّلتُ بما سمعت. قال: فأنا والله قد رأيت مثل ذلك. وقال: يا عليّ، أرأيت أعجب من هذا، وكيف اتّفق ورجعنا إلى الموضع الذي كنّا فيه؟ واصطلحا. وما زالت تغنّيه هذه الأبيات يومنا ذلك. وازدادت حظوتها عنده حتّى كان من أمره ما كان".

وفى "ألف ليلة وليلة" حكايات عشق وغرام بين سادة وجوارٍ، وليس هناك صمت ولا خَرَس، بل ضحك وفرفشة كما ينبغى أن يكون الأمر فى مثل تلك الحال. والحمد لله أن الجوارى عاقلات فاهمات للحياة ولطبيعة الممارسات الجنسية ولا يُصِخْن لهذا السخف الماسخ، ويتصرفن التصرف الطبيعى فى مثل تلك الظروف، وإلا لاستحال الأمر إلى كابوس! ويكفى أن أحيل القارئ إلى حكاية غانم بن أيوب مع قوت القلوب جارية هارون الرشيد، وحكاية على بن بكار وشمس النهار، وهى محظية من محاظى الرشيد أيضا، ليرى كيف تتصرف كل من الجاريتين اللتين لم تُبْلَيا بشىء من أفكار الماركسيين الشاذة الغريبة ولا تعرفان تخشُّبًا ولا بَكَمًا ولا تنظران نظرات لا معنى لها كالجارية البلهاء فى كتاب صنع الله إبراهيم. والنسخة التى فى يدى الآن، أو بالأحرى: أمامى على شاشة الكاتوب، مصرية تماما روحًا ولغةً. فهل يقال بعد هذا إن الجوارى كن يعامَلْن فى المباضعة معاملة تختلف عن معاملة الحرائر؟ هذا كلامٌ سخيف من كلام الشيوعية الذى مللناه لحد الموت عن الطبقية والسادة وأقنان الأرض وما إلى هذا. ألا يعرف صنع الله أن كثيرا من خلفاء المسلمين وأولادهم قد أنجبتهم جوارٍ؟ إن فى كتب التراث كثيرا جدا من قصص الجوارى تصورهن منعَّمات معشوقات متحكمات فى أحرار الرجال متلاعبات بقلوبهم. ماذا يريد أكثر من هذا إن كان هناك أكثر من هذا؟ وأخيرا أتظن يا صنع الله أن الجاحظ، الذى لم يكن يستطيع الكف عن الضحك، وإلا مات، كان يطيق أن يجامع جاريته وهى ساكتة خرساء لا تحدثه ويحدثها، ولا تُضْحِكه ويضحكها؟ كنت أتمنى أن يكون الجاحظ حيا. إذن لعلمك كيف تفكر، ولجعل منك أمثولة للأجيال القادمة إلى يوم الدين مثلما جعل من أحمد بن عبد الوهاب حين وضع فى التهكم به "رسالة التربيع والتدوير". وفى الجبرتى كثير من الأخبار التى تبدو فيها الجوارى سعيدات يعاملهن سادتهن معاملة جد كريمة ويرفهون عيشهن ترفيها كبيرا.

وقد كنت نويت أن أقف عند هذا الحد لولا أننى بالمصادفة لمحت على شاشة كاتوبى كتاب إدوارد وليم لين، الذى أنزلته من المشباك منذ ليلتين رغم وجود نسخة ورقية نادرة فى حوزتى، ففتحته فوجدت يه النصوص التالية عن الجوارى فى مصر فى القرن التاسع عشر: وفى أول نص نرى فريقا من الأغنياء يستعينون بامرأة تعلم بناتهم وجواريهم الصلاة والقرآن والقراءة والكتابة. لاحظ: بناتهم وجواريهم معا دون تفريق: "Some of the rich engage a "sheykhah" (or learned woman) to visit the hareetn daily; to teach their daughters and female slaves to say their prayers, and to recite a few chapters of the Kuran ; and sometimes to instruct them in read ing and writing". وفى نص آخر نقرأ أن الجوارى البيض مفضلات عند المصريين من أصل تركى على الحرائر، وأن كثيرات منهن يفضلن البقاء مع سادتهن على العتق والعودة إلى أهليهن حُرّاتٍ لما يتمتعن به من معاملة ممتازة كلها تدليل ورفاهية:

"

The white slaves, being often the only female companions, and sometimes the wives, of the Turkish grandees, and being generally preferred by them before the free ladies of Egypt, hold a higher rank than the latter in common opinion. They are richly dressed, presented with valuable ornaments, indulged, frequently, with almost every luxury that can be procured, and, when it is not their lot to wait upon others, may, in some cases, be happy : as lately has been proved, since the termination of the war in Greece, by many females of that country, captives in Egyptian hareems, refusing their offered liberty, which all of these cannot be supposed to have done from ignorance of the state of their parents and other relations, or the fear of exposing themselves to poverty". ثم النص التالى: "Often, indeed, if mutual attachment subsist between her and her master, the situation of a concubine-slave is more fortunate than that of a wife".

إلا أننى وجدت ايضا هذا النص الذى يقول أيضا إن ملابس الجارية لا تختلف عن ملابس الحرة فى مصر بما يعنى أنه ليست هنا تفرقة فى هذا المجال: "The dresses of the female slaves are similar to those of the Egyptian women".

والآن لندلف إلى لغة القصة، وأول ما يخطر لنا من سؤالات هو: هل كانت كلمة "الغدارة" معروفة فى ذلك الحين؟ لقد بحثت عنها فى الجبرتى عبثا، ولو كان يستعملها لأتى على ذكرها. ذلك أن ابن الحلال يزعم أن الجبرتى قد اشترى غدارة وبارودا كى يحمى بيته وأسرته من عدوان الغوغاء أيام هيجان المصريين ضد الحملة الفرنسية. فهل كان الجبرتى يستعين فى الدفاع عن نفسه بالغدارات والبارود؟ أترانا فى شيكاغو المحطة حيث يكثر الكاوبويات الملاعين فى الحانات وحولها، وفى جيب سروال كل منهم مسدس يخرجه عند اللزوم فى لمح البصر أو هو أقرب، ثم يديره فى الهواء بحركة بهلوانية نصف كُمّ، ثم "طاخ طوخ طيخ"، فإذا بالخصم مجندل يتشحَّط فى دمائه على الأرض، ولا أحد يسأل عن صحته؟ تصوروا الجبرتى وقد لبس قبعة وسروالا واسع الساقين (مُودَة "رِجْل الفيل") مغلَّفا بِوَاقٍ جلدى فضفاض (ولاتسألونى عن السبب فى وجود هذا الواقى الجلدى، فأنا لم أكن كاوبويًا فى يوم من الأيام)، وقد وضع فى جانب فمه سيجارا ضخما وهو يرطن بالإنجليزية على طريقة الأمريكان التى يعوّجون فيها أفواههم ويلوون ألسنتهم، وبالذات الكاوبويات منهم، وبالذات بالذات الكاوبويات المجرمون القراريّون! أدفع نصف عمرى وأرى الجبرتى فى هذا الوضع، وهو يُحَرِّق الأُرَّم وينظر إلى صنع الله شَزْرًا لما افتراه عليه فى هذا الكتاب ثم يستل "غدارته" فى "لا وقت: in no time" ويفرغها فى كرشه، وهو يتمتم من بين أسنانه (بالأمريكانى طبعا): "علشان تحرَّموا تاكْلوا جِلاَسْ، وتقطّعوا فى فَرَاوِى الناسْ: Alashan tiharramu taklu glaas, witkatta’u fi farawi-nnaas"!

كذلك نراه، أى نرى الأستاذ صنع الله (أو بالأحرى: نرى الراوى، فصنع الله فى الواقع هو الراوى، والراوى هو صنع الله)، قد استخدم كلمة "الشمّاعين" بمعنى "كاسحى المجارى": "الرائحة العفنة تأتي من ناحية الحفرة التي تُفْرَغ بها كراسي الراحة. لم يأت أحد من الشماعين لكسحها منذ أيام". ولأنى لم أعد أطمئن أبدا إلى مقدرته الفنية ولا معارفه التاريخية فقد رجعت إلى الجبرتى الذى اعتمد عليه كثيرا، بل كان جل اعتماده عليه، وإن لم يستطع أن يفيد من ذلك الاعتماد كما ينبغى بسبب من قصوره الفنى والفكرى، فوجدت النص التالى، وهو، فى حدود علمى، النص الوحيد فى الكتاب الذى وردت فيه كلمة "شمّاعون": "وانعدم وجود السمن والزيت والشيرج وزيت البزر وزيت القرطم لاحتكارها لجهة الميري، وأغلقت المعاصر والسيارج، وامتنع وجود الشمع والعسل والشمع المصنوع من الشحم لاحتكار الشحم والحجز على عمال الشمع فلا يصنعه الشمّاعون ولا غيرهم". وفى معجم "تاج العروس" للزبيدى معاصر الجبرتى وصديقه، وكان يسكن القاهرة حيث مات فى الطاعون قبل دخول الفرنسيس بسنوات، أن "الشمّاع" هو من يعمل الشمع، وهذا هو معناها فى كل المعاجم التى نعرفها. فما معنى هذا؟ معناه أن صنع الله إبراهيم يحول الشمع والعسل إلى خراءٍ ومجارٍ، ولله فى خلقه شؤون. ثم يصفه أحدهم بأنه كبير الكتاب، على غرار "كبير الرحيمية"! اللهم إلا إذا قيل إنهم فى ذلك الوقت، ولشُحّ الشمع نظرا لاضطرابات القاهرة التى أوقفت المراكب السائرة، كانوا يغشّون فى صناعة الشمع ويصنعونها من الفضلات البشرية. ألا نكتشف الآن فى مصر أن بعض الجزارين يبيعون للناس لحم الحمير الميتة على أنها لحم ضأن، والناس تأكل ولا هى هنا، بل مبسوطة وآخر انسجام؟ فما وجه الغرابة إذا قلنا ذلك عن الشمع تبييضا لوجه المؤلف على الأقل، وهو رجلٌ علينا جِدّ عزيز، ومن أجله يرخص الغالى؟

وما دمنا فى المراحيض والمجارى فلعله أن يكون من المستحسن الإشارة إلى ما تكرر فى الكتاب من استعمال الراوى كلمة "كرسى الراحة" للدلالة على المرحاض. وقد بحثت عنها وكررت البحث فى كتاب الجبرتى أستاذ الراوى صاحب تعبير "كرسى الراحة" فلم أجدها بتاتا. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فإننا فى قريتنا التابعة لمركز بسيون بمحافظة الغربية كنا نسمى المرحاض بــ"الكرسى" ("الكرسى" فقط دون شىء آخر). كذلك وجدت فى "عجائب الآثار" كلمة "الملاقى"، وكنا نستخدمها فى القرية للدلالة على فتحة المرحاض البلدى التى من شأنها تلقِّى فضلات المتغوط. أما كلمة "كنيفات" التى وردت فى الكتاب مرة على الأقل فهى من معجم الجبرتى كما حَزَرْتُ، ومفردها: "كنيف". فلماذا لم يستمر الكاتب على تلك اللفظة بدلا من الحذلقة؟

وكذلك الأمر فى قول كاتبنا الهمام فى شخص الراوى: "أكلتُ فى حماس"، إذ لا وجود لعبارة "فى حماس" أبدا عند الجبرتى، بل لا وجود لكلمة "حماس" البتة. والموجود فقط هو لفظ "حماسة"، أى شِعْر الحرب والنفخ فى عزائم الرجال. بل إن كلمة "حماس" لا وجود لها بهذا المعنى فى لغة الضاد، بل تعنى نوعا من الشجر. وهذا من قلة تبصر الكاتب الذى كان ينبغى أن يبذل جهدا أكبر كثيرا مما بذل، إذ الفن لا يسلم مقادته لكل من هب ودب، بل لا بد من العرق والسهر والدموع والمعاناة والألم. هكذا هى طبيعة الفن كما فهمها حتى أجدادنا من العرب القدماء أمثال زهير بن أبى سلمى والحطيئة والفرزدق، الذين لم يكن أحد منهم متنورا حداثيا! ومن تفانين الشيخ صنع الله، بارك الله فيه وأعلى مراتبه ونصره على من يعاديه، تسمية بطل الكتاب لمعجم "الصِّحَاح" الذى ألفه الجوهرى بــ"القاموس العربى للجوهرى"، ولا أدرى ولست إخال أدرى من أى واد من أودية عبقر اصطاد هذه التسمية الحلمنتيشى. ألم أقل إنه لا يصبر على متطلبات الفن؟ إن الرجل لا يعرف إلا سلق البيض، ودمتم!

ومن هذا الوادى العبقرى العجيب حيث تسكن الجن والشياطين التى تلهم عباقرة الشعراء بكل معجز غريب، قوله على لسان الراوى: "حوليّات الإسحاقى"، يقصد بــ"الحوليات" كتابا فى التاريخ يسجل فيه صاحبه الحوادث عاما وراء عام كما صنع الجبرتى مثلا. وقد اكتفى بذكر اسم الكتاب دون أن يعرّفنا شيئا عنه وكأنه من الشهرة بمكان، مع أنه يطنب كثيرا فى أشياء تافهة. المهم لقد وجدت الكتابين التاليين لمحمد بن عبد المعطى بن أبي الفتح بن أحمد الاسحاقي: "لطائف (الـ)أخبار الأُوَل فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول"، و"دوحة الأزهار الإسحاقية فيمن ولي الديار المصرية"، فهل هذا هو المراد؟ ولكنى لم أعثر على شىء اسمه: "حوليات الإسحاقى". وبغض النظر عن هذا كله هل كانت كلمة "حولية" معروفة لدن تأليف الإسحاقى كتابه، وهو من أهل القرن الحادى عشر الهجرى؟ أو حتى فى عصر الجبرتى؟ لقد نظرت فى "تاج العروس" للزبيدى، معاصر الجبرتى وصديقه كما هو معروف، فلم أجد هذا المصطلح. وكل ما عثرت عليه هو "جملٌ حَوْلِىٌّ، ونباتٌ حولى، وكل ذى حافر أَوْفَى سنةً هو حولى"، بمعنى "مَرَّ عليه حَوْلٌ"، أى عام. وفى شعر نابغة بنى شيبان مثلا: "قهوة حولية"، أى خمرٌ مرَّ عليها فى الدِّنَان عام. ومن أمثال العرب القديمة: "لا تحبق فى هذا الأمر عَنَاقٌ حولية"، أى أمر لا قيمة له ولا تأثير. وفى "محيط المحيط" لبطرس البستانى من أهل القرن التاسع عشر: أن "الحولية"، وجمعها "حوليات"، هى القصائد التى كان زهير بن أبى سلمى ينظم الواحدة منها فى حولٍ، أى عام، رغبةً منه فى التجويد. وهذا كل ما هنالك. فأين من هذا ما كتبه صنع الله إبراهيم، الذى يطنطن له المطنطنون؟ وأين هذا منه؟

ومما يؤخذ على الكاتب أيضا من ناحية عجزه عن استخدام أسلوب يوحى بالعصر ويمثل اللغة التى كانت مستخدمة أيامها، استعماله تعبير "أنا الآخر": "نهضت واقفا منزعجا أنا الآخر"، مع أن هذا التعبير لم يكن له وجود فى العربية فى ذلك الحين، بل دخل فيما بعد إلى لغة الضاد حين اتصلت لغة القرآن ولغة الفرنسيس ونشطت حركة الترجمة من هذه إلى تلك فاستخدم بعض الكتاب عندنا هذه العبارة على سبيل التقليد للفرنسيين فى قولهم مثلا: "Nous autres. Vous autres... إلخ". وهناك من لغويينا من لا يقبل ذلك، مؤكدا أنه لا يصح استعماله فى العربية.

وفى موضع آخر من الكتاب نقرأ ما كتبه الراوى فى يومياته إذ يقول: "ووجدنا أن الفرنساوية أحدثوا حديقة للحيوان وأخرى للطيور وخصصوا جانبا من الأرض للتجارب الزراعية. وجانبا آخر لمرصد ومطبعة ومجموعة آثار وورشة تصنع بها أجهزة جراحية وبراجل وعدسات تلسكوبية وميكروسكوبية وأدوات رسم ومساحة وأصباغ للطباعة وشفرات سيوف وقبعات"، فهو يستعمل كلمتى "تلسكوبية وميكروسكوبية"، ولا أظنهما كانتا معروفتين فى مصر آنذاك، وبخاصة أنهما لم تردا فى كتاب الجبرتى، بل الذى ورد فيه هو كلمة "النظارة" للدلالة على المنظار المقرّب، وقد رصدتُها مرة واحدة.

وأظرف من هذا أنه يجعل مصابيح الأزهر تضاء بالغاز. وهذا هو النص المقصود، وهو من كلام الراوى لبولين: "وشرحت لها معني المجاورة حيث التغذية مضمونة من خلال التوزيع اليومي لحوالي قنطارين من الخبز، بالإضافة إلى الغاز الضروري لإنارة المصابيح وفي كل شهر يوزعون علينا عطايا للمصاريف". ولا يدرى القارئ ماذا يقصد المؤلف بالغاز: هل يقصد "الغاز"، تلك المادة الهوائية فعلا؟ لكن هل كانت الجراية تتضمن نصيبا من الغاز لكل مجاور؟ لم نسمع بهذا من قبل. ثم أين كانوا يحتفظون بهذا الغاز؟ هل كانت هناك أنابيب؟ أم هل يريد الكاتب ما يسميه عامة المصريين: "الجاز"؟ لكن هل كان المصريون، إن كانوا يعرفون الجاز فى ذلك الوقت، يسمونه بهذا الاسم؟ وهل كانوا ينطقون الجيم غينا على هذا النحو؟ أيا ما يكن الأمر فلا وجود لتلك الكلمة فى الجبرتى ولا فى "تاج العروس". ومثلها قول الراوى عن الجبرتى: "سألته بعد انصراف الشيخ المهدي عما إذا كان..."، فهذا التركيب لم يكن معروفا فى الأساليب العربية فى ذلك الوقت، بل هو ترجمة حرفية تمت فيما بعد لعبارة "whether… \if I asked him" الإنجليزية أو عبارة "Je l’interrogeai si…" الفرنسية. وأذكر أن الأستاذ العقاد قد أخذ على د. أحمد فؤاد الأهوانى استعماله هذا التركيب فى بعض ما كتب، وإن كنت لا أذهب إلى المدى الذى ذهب إليه العقاد، ولكن مع عدم تحبيذى للجوء إليه إلا للضرورة، وفى أضيق نطاق.

كذلك يستعمل الراوى المصطلح ا لجغرافى: "رأس الرجاء الصالح"، وهو المصطلح الذى يدل على رأسٍ قريبٍ من طرف القارة الإفريقية الجنوبى المطل على المحيط الهندى. وهذا المصطلح لم يكن معروفا بعد فى العربية، وهو لفظ أطلقه الأوربيون على ذلك الموضع أيام الكشوف الجغرافية تفاؤلا به بعد أن كان يسمى قبلا: "رأس العواصف"، ولم يكن هذا الطريق طريقا للعرب أو المسلمين، بل طريقا اكتشفه الأوربيون فى بحثهم عن سبل أخرى للوصول إلى الهند دون المرور ببلاد المسلمين. وهو بالإنجليزية والفرنسية: "The Cape of Good Hope. Le cap de Bonne Éspérance ". وحتى لو افترضنا أنه كان معروفا للمصريين فى وقت الحملة الفرنسية فلا يمكن أن يكون بنفس الترجمة التى عُرِف بها بعد ذلك واستقر العرف عليها حتى الآن، بل لا بد أن يمر عليه وقت يقضيه فى قلق واضطراب ويتخذ صورة أو صورا أخرى قبل أن ينتهى إلى وضعه الحالى كعادة أمثاله من المصطلحات. وما دمنا لا نعرف أحدا فى ذلك العصر استعمل هذا المصطلح فمعنى ذلك أن ابن بجدته هو راوى وقائع الكتاب، الذى لم تكن ثقافته ولا معرفته باللغة الفرنسية ولا العربية لتؤهله لترجمة المصطلح على ذلك النحو الدقيق والأنيق بحيث يكسب القبول النهائى دفعة واحدة لا مثنوية فيها. ليس ذلك فحسب، بل إن مصطلح "رأس" ذاته بهذا المعنى الجغرافى لم يكن، فيا يبدو لى، معروفا فى لغة الضاد، إذ لم أجده فى كتبنا الجغرافية القديمة التى وقعت فى يدى كــ"الأزمنة والأمكنة" للمرزوقى، و"معجم البلدان" للحموى وأمثالها، مثلما لا وجود له فى المعاجم العربية القديمة من أقدمها إلى آخرها وأكبرها وأشملها، وهو "تاج العروس" الذى كان صاحبه معاصرا للجبرتى، وكانت بينهما صداقة. ولعل رفاعة الطهطاوى فى الجيل التالى بعد ذلك هو أول من استخدم هذا المصطلح فى مصر، وذلك فى كتابه: "التعريبات الشافية فى علم الجغرافية" تعريبا لكلمة "Le cap". ومع هذا فقد وجدت ج. ف. روفى (J. F. Ruphy) يترجمها فى معجمه: "Dictionnaire abrégé français-arabe" (الصادر عام١٨٠٢م عن مطبعة الجمهورية ببارييس) بــ"رأس"، وأغلب الظن أنه يقصد الرأس الجسدى، وإلا لوضَّح الأمر وأفهم القارئ أن الكلمة تعنى المعنيين جميعا: الرأس الجسدى والراس الجغرافى كما فعل إلياس بقطر (Ellious Bocthor) أستاذ العامية العربية فى مدرسة اللغات الشرقية الحية بباريس، الذى وضع فى معجمه: "Dictionnaire français-arabe" (الصادر فى باريس عن مكتبة فرمان ديدوه عام ١٨٢٨م) قارئه على المحجة البيضاء، إذ أثبت حذاء اللفظ المذكور كلمتى "promontoire, tête"، ثم ذكر المقابل العربى له، وهو "رأس". والكلمة فى الفرنسية، حسبما هو واضح، تعنى هذا وذاك، ولعلها اكتسبت المعنى الجغرافى فى لغة الضاد متابعة للغة الفرنسيس.

ومن المصطلحات التى لم تكن قد عُرِفَتْ فى العربية، أو على الأقل: لم تكن عرفت بالمعنى الحالى، كلمة "الاستقلال"، وكلمة "وطنىّ" اللتان استعملهما الرواى بمعناهما الحالى، على حين يستعمل الجبرتى الأولى فى مثل "استقل فلان بالإمارة"، لا فى مثل قولنا: "استقلت مصر عن بريطانيا" وأمثاله، أما الثانية فلا وجود لها فى "عجائب الآثار". ومن المصطلحات التى لم تكن قد عُرِفَت فى ذلك العصر أيضا كلمة "الجمهورية"، التى وردت على لسان الراوى ترجمة لقول بولين إن نابليون "أنقذ الجمهورية من ثورة الغوغاء وقضى عليهم بلا رحمة". ذلك أن الترجمة الفرنسية لكلمة "La Republique" حسبما جاء فى إحدى الاتفاقيات بين سلطات الاحتلال الفرنسى وممثلى الدولة العثمانية هى "المشيحة" لا "الجمهورية". وهذا هو النص كما نقله الجبرتى مرتين بنصّه ضمن الاتفاقية المذكورة فى حوادث شهر شعبان سنة ١٢١٤هـ: "صح وثبت وتقرر بختوماتنا الخاصة بنا بالمعسكر حيث وقعت المداولة بحد العريش في شهر يلويوز سنة ثمان من إقامة المشيخة الفرنساوية"، "صح وجرى بمحل العسكر العام بالصالحية في ثامن شهر يلويوز سنة ثمان من المشيخة". ونفس المصطلح نجده فى النص التالى الذى يتحدث عن نية كليبر فى أن تُرْسَل كسوة الكعبة "إلى مكانها بمكة وتكسى بها الكعبة على اسم المشيخة الفرنساوية"، والقصة موجودة فى حوادث رمضان سنة ١٢١٥هـ، وكذلك فى قول الجبرتى إنه "قد وصل لساري عسكر أمر من المشيخة بوصول مراكب الموسقو التي تحمل الذخائر الى الفرنساوية". أما فى نص التحقيق القضائى الثانى مع سليمان الحلبى فنجد مصطلح "الجمهورى" بلفظ التذكير: "نهار تاريخه ستة وعشرين من شهر برريال السنة الثامنة من انتشار الجمهوري الفرنساوي". والملاحظ أن أسماء الشهور هى أسماؤها حسب التقويم الثورى لا حسب التقويم الميلادى، ولسوف نعود بالتفصيل إلى هذه النقطة فيما بعد.

قد يقال إنك تكلف الأستاذ صنع الله إبراهيم شططا من الأمر، إذ ما له وهذه الدقائق؟ إنه مجرد قصاص! وهنا مربط الفرس، فالقصاص الحقيقى هو الذى يُعْنَى أشد العناية بمثل تلك الدقائق ويتقنها ويدرسها جيدا قبل أن يمسك بالقلم. أما إجراء القلم على الورق فهذا مما يستطيعه كل أحد، ولا يصعب على أى إنسان. وإلا لقد كان عليه فى تلك الحالة أن يلجأ إلى رواية كتابه بضمير الغائب، وعند ذاك يمكنه أن يكتب على راحته بأسلوبه هو، لأن المتكلم حينئذ هو صنع الله المعاصر لنا، وليس تلميذ الجبرتى الذى كان يعيش فى عهد الغزو الفرنسى. صحيح أن صنع الله استخدم عددا من الكلمات التى كانت شائعة فى ذلك العصر، لكنْ ينبغى ألا يفوتنا أنه كان ينقل كلام الجبرتى كله تقريبا كما هو، أما حين يستقل قليلا عنه فقد كانت خطاه تضطرب ويترنح فى مشيته ويحتاج إلى من يمسكه ويتولاه حتى لا يسقط أرضا.

لكن أكانت هناك ضرورة لتقديم كتاب "العمامة والقبعة" بضمير المتكلم أصلا؟ لقد سئل المؤلف فى حوار معه فى جريدة "السياسة" الكويتية السؤال التالى: "رغم أنك اعتمدت على ما كتبه الجبرتي إلا أنك اخترت أن تروي الأحداث من وجهة نظر أحد تلاميذه. لماذا اخترت شخصية "المصري" بطل الرواية التلميذ التابع للجبرتي ليدون الأيام والأحداث مثل أستاذه؟" فأجاب قائلا: "بدايةً العمل الروائي يطرح سؤالا: من يكون الصوت في الرواية؟ هل أنا الكاتب أم راوٍ آخر أم أحكي من خلال شخصيات عدة؟ وأستريح دائما لصيغة الأنا للمتكلم، وأغلب أعمالي تقوم على ذلك البناء. وكنت أريد تقديم لوحة بصرف النظر عن تفصيلات الأحداث أو الشخصيات وغيرها لهذا العصر وأهتم بتفاصيل كثيرة مثل: كيف يعيش الناس؟ وما يأكلونه ويشربونه؟ وماذا يرتدون؟ وكيف يتحدثون مع بعضهم؟... ورأيت أنه يمكن أن يحدث ذلك من خلال دخول بيت الشيخ الجبرتي الذي يعتبر الشخصية الرئيسية في الرواية. و في رأيي الجبرتي قام بعمل نقلة نوعية في تسجيل التاريخ ووقائعه من خلال "عجائب الآثار في التراجم والأخبار". وأصبحت هناك فرصة لدخول أفضل إلى عالمه من خلال وجود مرافق له. هذا التلميذ يدون الأيام مثل أستاذه بل وينقل ما يحدث من أحداث جسام ويطلب منه الجبرتي أن يخرج ويشاهدها ويحكيها له ليدونها ويتبادل الاثنان الحكايات. وهذا ما يسمح لنا أن نجعل هذا التلميذ يتعرف إلى امرأة فرنسية ليحتك بعالم آخر مغاير".
هذا جواب المؤلف، أما أنا فأقول غير متردد ولا مجمجم: لا ليست هناك أية ضرورة لذلك، بل كل الضرورات كانت تستوجب تقديم ذلك الكتاب للقارئ بضمير الغائب، ولا يصح أن يتخذ صنع الله إبراهيم من ميله نحو استخدام ضمير المتكلم ذريعة للّجوء إلى هذا الاسلوب، ففى الفن ليست المسألة هى: ماذا تريد؟ بل ماذا ينبغى أن تفعل؟ ولكن لماذا قلت إنه ليست هناك ضرورة تستوجب تقديم الكتاب بهذه الطريقة؟ لعدة أسباب أجتزئ منها بما يلى: أولا أن الراوى الذى قدم لنا بلسانه أولا، ثم بقلمه ثانيا، وقائع الكتاب لم يكن له دور هام بحيث تقل قيمة الرواية، فضلا عن أن ينقصها شىء، لو كانت قد رويت بضمير الغائب. ذلك أن الشىء الوحيد الذى يختص به الراوى هو مجامعته لبولين عشيقة نابليون، وهذا أسوأ ما فى الرواية خلقيا وفنيا على السواء كما سبق بيانه، فلا موجب من ثم لتكرار القول فيه. وثانيا لقد رأينا أن صنع الله لم يحسن إنطاق الراوى بلغة عصره، اللهم إلا حين كان يأخذ كلام الجبرتى كما هو دون تصرف تقريبا. ولو أنه ألقى بالراوى خارجا لأراح واستراح، وتحول الكتاب إلى كتاب تاريخى كما ينبغى أن يكون، لا قصة فنية كما حاول صنع الله دون جدوى أن يجعله. وثالثا أن الراوى لم يقدم لنا شيئا لم يقله الجبرتى حتى لو كان معتمد الأستاذ صنع الله على مصادر أخرى غير مؤرخنا المصرى الكبير، إذ إن الجبرتى قد غطى كل شىء تقريبا حتى إن الراوى لم يأت تقريبا بأى جديد، على الأقل فى الأمور التى تهمنا، علاوة على أن أسلوب الجبرتى، رغم ما يظهر فيه أحيانا من أخطاء لغوية قليلة، يحلق فى سماء عالية من حيث الوصف والحيوية والدقة والأصالة والعمق لا تُطال أبدا، فضلا عن أن يكون المتطاول هو راوى الكتاب، الذى هو فى الواقع صنع الله نفسه بلحمه وشحمه كما هو معروف من الأدب بالضرورة، وليس أحدا آخر. ورابعا لقد ارتكب الأستاذ صنع الله أخطاء قاتلة وسخيفة معا فى رسمه شخصية الراوى وفى رصده لملامحه النفسية وتصرفاته: فمثلا فى الوقت الذى نراه لا يزال مبتدئا فى اللغة الفرنسية التى كان قد التقط بعض ألفاظها وعباراتها من تاجر فرنسى كان يشتغل عنده قبل الانتقال إلى بيت الجبرتى، وهى ألفاظ وعبارات لا تقدم ولا تؤخر كما لا أحتاج إلى أن أنص على ذلك، إذا به يتناقش مع بولين فى أعقد الموضوعات حتى وهما يمارسان العشق والغرام ويستمع إلى المحاضرات التى تلقى فى المجمع العلمى الفرنسى بغاية السهولة، لنفاجأ به بعد ذلك كله يعجز أمام ترجمة عبارة "الموت الزؤام" إلى الفرنسية فى المنشور الذى كتبه قرب نهاية الرواية لتعليقه فى الأماكن العامة بالقاهرة بغية تحريض الناس على مقاومة الاحتلال الفرنسى. بالذمة أليست هذه حاجة تكسف؟ أوقد تَرْبَسَتْ مع صاحبنا الذى كان يتراطن والبنت الفرنسية بكل طلاقة فى السرير وخارج السرير ولا يعجز معها عن شىء لا فى لغة اللسان ولا فى لغة السِّنان، فلم يقدر على ترجمة "الموت الزؤام" يا سيد صنع الله؟ ثم إن ذلك الولد لم يُبْدِ طوال الكتاب تقريبا أية علامة على أنه يتمتع بكرامة شخصية أو وطنية، ولم يظهر أية نخوة دينية، بل رأيناه يجترح الفاحشة بضمير بارد، وإن كان العيب عيب صنع الله لا عيبه هو، لكن هذه ليست هى القضية الآن، فما عدا مما بدا حتى ألفيناه فجأة يفكر فى مقاومة الفرنسيين بالمنشورات المضحكة التى طَقَّتْ فى يافوخه دون سابق إنذار والتى لم يلصق منها سوى نسخة أو اثنتين قبل أن يمسكوه ويعتقلوه بضعة أيام كان فيها مثالا للجبن الذليل ليطلقوا سراحه فيعود إلى تنبلته المعهودة، وكأن شيئا لم يكن. لقد بلغ من بلادة حسه وضميره أنه كان طوال مرافقته تقريبا للحملة الفرنسية على الشام يتحدث فى يومياته (فى يومياته: لاحظ) على أنه واحد من الفرنسيين، مسجلا ما يرتكبونه ببرودة دم، واصفا العرب والمسلمين الذين يضربهم الفرنسيون بالمدافع والقنابل ويقتلونهم تقتيلا بــ"العدو". طبعا كله من الأستاذ صنع الله، منه لله، لأن هذا الولد ليس له وجود إلا فى خيال المؤلف كما نعلم جميعا.

والحق أنى لا أفهم لماذا اختلق الأستاذ صنع الله شخصية ذلك الراوى، وعندنا الأصل متمثلا فى أستاذه المؤرخ العظيم الذى يصوره المؤلف حقودا، أو على الأقل: غيورا من تلميذه. وإنى لأتساءل: فيم يغار من ذلك المفعوص؟ هل كان سيأخذ منه عضوية الديوان الفرنسى مثلا؟ ولم يا ترى كان الولد المفعوص يحرص على إخفاء ما يسطره فى مكان لا تقع عليه العين، وليس فيه ما يستدعى هذا الإخفاء؟ صحيح أن فيه إشارة إلى زناه بالجارية وببولين، ولكن متى كان العرب والمسلمون قبل العصر الحديث يسجلون مثل تلك الأمور؟ إن صنع الله هنا إنما يصور نفسه لا الراوى، وما هكذا يكون القص كما هو معلوم. ومن يرجع إلى "يوميات الواحات" ير أنه كان يريد أن يسجل، فيما كان يكتبه من يوميات فى السجن، "مشاعره (مشاعره فقط؟) الجنسية" لولا أنه كان يخشى وقوعها فى يد مسؤولى السجن أو المباحث أو أحد من زملائه. ثم ما الذى أوجب فى نظر الراوى أن يكتب هذه الأشياء التى لا تهم أحدا آخر غيره، اللهم إلا إن كان يتبرك بها؟ والجنون فنون. والمضحك أن الراوى الذى رأيناه حريصا على الاحتفاظ بسرية ما يكتب لا يأتى إلا بما فى كتاب الجبرتى، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: أهو مجنون فى عقله خلل يدفعه إلى الإتيان بتصرفات لا منطق فيها ولا سبب لها؟ ثم إن رسم شخصبة هذا الولد مضطربة أشد الاضطراب: خذ عندك مثلا علاقته ببولين، ودعنا من لامنطقيتها كما بينّا من قبل، وتعال بنا إلى موقفه ومشاعره بعدما علم أن نابليون يزاحمه فى عشقها: فمرة نراه يبكى وهو واقف على مقربة من مسكنها يرى بونابرت يدخل عندها، طبعا ليمارس معها الجنس. عظيم! لكنه هو نفسه لم يكن يجد أية غرابة فى أن تعشقه بولين وتعشق بونابرت فى ذات الوقت، بل إنه كان يشعر بالزهو لأن بونابرت يشاركه مخادنتها (إخص عليك يا ولد!)، ويتحدث معها فى ذلك الموضوع دون أدنى حرج أو غضب أو ألم كأنه يتحدث فى أمر لا علاقة له به. ومرة نسمعه يسألها، وهو فوقها (تصوروا!) عن قوة نابليون الجنسية والمدة التى يقضيها فى جماعها قبل أن يقذف. سمك، لبن، تمر هندى! ولم لا، ونحن مع أكبر كاتب فى العالم؟

وإلى جانب ما مضى، وهو كثير مزعج، نستطيع أن نشير إلى العيوب التالي. وسوف أتتبع هذه العيوب فى خط مستقيم بادئا بأول أحداث الكتاب، حيث نشاهد جرى الناس فى الشوارع على غير هدى وتصادمهم ووقوع بعضهم على الأرض وسط ذلك الزحام الشديد والحرارة الخانقة والأتربة المثارة، إذ نرى مملوكا فوق فرسه عائدا، كما هو واضح، من ميدان القتال الذى هُزِم فيه المماليك أمام القوات الفرنسية لاستخدامها أدواتٍ وأساليبَ قتاليةً متطورةً لم يكن للماليك بها عهد، وكان على المملوك آثار دماء، إلا أن ذلك كله لم يمنعه من خطف عمائم بعض الناس والقهقهة بصوت عال سرورا بما يصنع. فكيف بالله يمكن أن يكون المملوك العائد من ميدان المعركة مع الفرنسيين مهزوما ومغطى بالدماء، رائق المزاج إلى حد أن يختطف عمامة أحد أولاد البلد فى وسط هذا الحشد وينفجر فوق ذلك ضاحكا؟ الواقع أننا نحن الذين ننفجر مغتاظين من المؤلف الذى ليس عنده حس بالواقع يستطيع به أن يقدر أبعاد الموقف تقديرا سليما.

وفى الحوار التالى نسمع عجبا لم نكن نظن أنه يمكن خطوره لأحد على بال حتى سمعناه من صنع الله: "قال أستاذي إن إبراهيم بك سيء الحظ. من أسبوع ضبطته زوجته يجامع إحدى إمائه فضربته.
 وسكت عليها؟
 لا يستطيع معها شيئا فهي ذات مكانة عظيمة، ولها كرامات ويأتيها الوحي من النبي". وبمستطاعنا ان نبتلع أى شىء فى هذا النص إلا أن يقول الجبرتى إن الوحى يأتيها من النبى. ترى هل النبى إله يُوحِى لمن يشاء؟ وبأى شىء كان يوحِى إليها يا ترى؟ أبأن تضرب زوجها؟ وقبل ذلك كله هل يمكن أن يقول الجبرتى هذا؟ ألم يجد صنع الله إلا الجبرتى ليجرى على لسانه هذا الكفر؟ وحتى لو افترضنا أنه قد خرج من الملة، فهل كان يجرؤ أن يجاهر بهذا القول فى مجتمع مسلم كمجتمع القاهرة آنذاك؟ ولو افترضنا أنه جُنَّ فقال ما قال، فهل كان تلميذه ليسكت على هذه الشُّنْعة؟ أنحن فى حلم أم فى علم يا إلهى؟ ولقد ذهبتُ فقلبتُ "عجائب الآثار" للجبرتى تقليبا فلم أجد شيئا من هذا على الإطلاق.

كذلك يخبرنا الراوى أنه قد قر قراره على تأريخ يومياته بالتاريخ الميلادى. لماذا؟ لا ندرى، فهذا أمر لا يمكن أن يدور فى عقل مسلم آنذاك. وحتى عندما بدأ المسلمون فى مصر استعمال التاريخ الميلادى كانوا يستعملونه مع التاريخ الهجرى ويضعونه بعده بحيث تكون الأولوية لتاريخنا العربى، على الأقل من الناحية الرسمية. وها هو ذا الجبرتى أستاذه يسير على سنة جميع المؤرخين المسلمين قبله فيعتمد التاريخ الهجرى الذى لم يكن ليخطر سواه فى ذهنه بحال. فلِمَ يشذ التلميذ عن هذه السُّنّة إلى تلك الطريقة المرهِقة التى لا توصله، إن كانت صحيحة، إلى تحديد اليوم والشهر، بل تقتصر على السنوات فقط؟ إنه صنع الله الذى يفكر بهذه الطريقة لا الراوى، اللهم إلا إذا سخرنا وقلنا: لعل الراوى كان قد اتفق مع دار نشر فرنسية تطبع له الكتاب فى باريس كى يقرأه الفرنسيون، الذين سوف يسرهم أن يطالعوا ماكتبه بالتفصيل هذا الخلبوص عما وقع بينه وبين بولين فى غرفة نومها. كذلك فالطهطاوى فى رحلته إلى فرنسا المسماة بــ"تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" إنما يعتمد التاريخ الهجرى، والتاريخ الهجرى وحده، فى الحديث عن المراحل التى قطعها فى النيل وفى البحر المتوسط قبل أن يصل إلى فرنسا، وكذلك فى كلامه عند عودته من تلك البلاد، وهذا موجود فى بداية الرحلة وفى نهايتها. والطهطاوى يمثل الجيل التالى للراوى، فما بالنا بالراوى الذى كان سابقا فى الزمن؟ بل إن المراسلات التى كان يكتبها المسيو جومار المشرف على البعثة إلى رفاعة فى باريس وكذلك المستشرق سلفستر دى ساسى، كانت مؤرخة بالتاريخين: الميلادى والهجرى معا. كذلك يستخدم على مبارك فى خططه التوفيقية التقويم الهجرى على طول الخط، وهو تال فى الترتيب التاريخى لرفاعة. وقد أرخ بهذا التقويم كل الوقائع التى أدرحها فى كتابه، ومنها وقائع الاحتلال الفرنسى لأرض الكنانة، مثلما صنع الجبرتى بالضبط. الواقع أن موضوع اعتماد الراوى التاريخ الميلادى فى مذكراته السخيفة هو عيب شنيع ينال من الكتاب فوق ما يعانى منه من عيوب قاتلة.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل قل بالأحرى: إنه إنما بدأ. ذلك أن الفرنسيين فى ذلك الوقت لم يكونوا يستعملون التقويم الميلادى يا سيد صنع الله يا كبير الكتاب يا عبقرى، بل كانوا يستعملون منذ قيام ثورتهم قبل عدة سنوات تقويما جديدا خاصا ليس فيه يناير ولا فبراير ولا مارس ولا إبريل... ولا السنوات الميلادية، بل كان شيئا لا عهد لهم ولا لأحد آخر به من قبل، فصرنا نسمع بأسماء الشهور الجديدة على النحو التالى: nivôse, pluviôse, ventôse, germinal, floréal, prairial, messidor, thermidor, fructidor, vendémiaire, brumaire, frimaire، وصرنا نسمع العام الأول من قيام الجمهورية (I. ANNÉE DE LA RÉPUBLIQUE)، والعام الثانى من قيام الجمهورية... وهكذا دواليك. وكان العام يبدأ فى اليوم الذى يوافق الثانى والعشرين من سبتمبر، وكانت مدة الشهر ثلاثين يوما على الدوام، على أن تكون هناك خمسة أيام فى نهاية العام مكملة، وستة فى السنين الكبيسة. وكان كل شهر يتكون من ثلاثة أسابيع، وكل أسبوع عشرة أيام. وظل العمل بهذا التقويم سارى المفعول لمدة ثلاثة عشر عاما منذ بدء الأخذ به. أى أنه استمر إلى ما بعد خروجهم من مصر ببضع سنوات. ومن يرجع إلى كتاب "Description de l’Egypte"، وصحيفة "COURIER DE L’ÉGYPTE" يجد أن ضباط الحملة الفرنسية وعلماءها وفنانيها ومهندسيها ومن يعاونهم من الموظفين كانوا يستخدمون في العادة هذا التقويم الجديد. فكيف يقال إن الراوى قد أخذ التقويم الميلادى عن التاجر الفرنسى الذى كان يعمل عنده، وتعلم تحويل التواريخ الهجرية إلى ميلادية على يديه، رغم أن التاجر الفرنسى ذاته لم يكن يستعمل التقويم الميلادى أصلا؟

وحتى لو ضربنا عن كل ذلك صفحا، وهو ما لا يمكن الضرب عنه صفحا بحال، فإن أسماء الشهور الإفرنجية التى اعتمدها الراوى المخبول لم تكن قد عُرِفَتْ بعد على هذا النحو الذى نعرفه الآن، إذ كان رفاعة الطهطاوى فى الجيل التالى لذلك الراوى يكتبها بالشكل الآتى، وذلك موجود فى كتاب "التعريبات الشافية لمريد الجغرافية": "ينويه، فبريه، مارث، أبريل، مايو، يونية، يولية، أغسطوس، سطمبر، أقطوبر، نونمبر، دقمبر". فهل يعقل أن يتوصل الراوى إلى الطريقة التى استقر عليها العرف فى مصر بالنسبة إلى نطق تلك الشهور ورسمها الإملائى قبل حدوث ذلك بهذا الوقت الطويل متخطيا جهود رفاعة ومحاولته فى هذا السبيل، رغم أنه لم يكن شيئا مذكورا إلى جانب رفاعة سواء من ناحية الثقافة أو الخبرة أو العيش بين الفرنسيين فى بلادهم ست سنوات كاملات؟

كما أن طريقة تحويل التاريخ التى ذكرها إنما تصح مع الأعوام فقط لا الأيام، وهذا إن صحت، وهى لا تصح، وإلى القارئ نص ما كتب: "دونت التاريخ الهجري. ثم استبدلته بالتاريخ الميلادي بالطريقة التي تعلمتها من التاجر الفرنسي. ضربت العدد المعبر عن السنة الهجرية في ١٣١ وقسمت الناتج على ١٣٥ ثم أضفت إلى خرج القسمة الرقم ٦٢١ فحصلت على السنة الميلادية الموافقة". والصواب هو ما يلى: "للتحويل من السنة الهجرية إلى السنة الميلادية نستخدم العلاقة التالية: ميلادي= ٦٢٢ + هجري (٣٢ على ٣٣) فبداية السنة الهجرية ١٤١٠ توافق إلى ميلادي = ٦٢٢ + ١٤١٠ × (٣٣ على ٣٢) = ٦٢٢ + ١٣٦٧.٣ = ١٩٨٩ م. أما إذا أردنا توخي الدقة في التحويل، كأن نود الحصول على التواريخ الموافقة بالأيام من الشهر والسنة، فعلينا عندئذ أن نتبع الطريقة التالية: بما أن السنة الهجرية القمرية ٠.٩٧٠٢٣ من السنة الشمسية اليوليانية، والسنة الشمسية اليوليانية = ١.٠٣٠٧١ سنة هجرية، وعند التحويل من التأريخ الهجري إلى الميلادي نتبع الخطوات التالية: 1- نحذف السنة الهجرية التي لم تستكمل شهورها ٢- نحسب ما يكافىء السنين الهجرية من سنين ميلادية بضربها في رقم ٠.٩٧٠٢٣٣ ٣- نضيف الناتج إلى المدة المنقضية من اول التاريخ الميلادي إلى اليوم من الشهر من السنة الهجرية المراد حساب مكافئه. فالناتج هو المكافىء بالسنين اليوليانية ٤- نضيف إلى الناتج ١٣ يوما للحصول على التاريخ وفق التقويم الغريغوري". ولينظر القارئ الآن مدى الاستهتار لدى صنع الله إبراهيم. ولم لا يستهتر ملء هدومه، وقد قالوا له إنك أكبر كاتب فى الحتة؟

ومن مظاهر اللامنطق الذى يصل إلى حد الخبل أن يذهب بطل الكتاب إلى بيت صديقه حنا ويظل يلح عليه حتى يخرج معه إلى الشارع على ما فى ذلك، حسبما يقول الكتاب، من خطر رهيب عليه بوصفه نصرانيا، إذ كانت صدور الناس تشتعل غيظا وغضبا من النصارى لما صنعوه لدن مجىء الفرنسيين من الترحيب بهم والتعاون معهم وانتهاز الفرص للتنكيل بالمسلمين كقطعهم رواتبهم واستيلائهم على أوقافهم وتطاولهم عليهم بالإهانة حتى صاروا يأمرونهم بالقيام عند مرورهم، ثم شددوا في ذلك حتى كان إذا مر بعض عظمائهم بالشارع، ولم يقم إليه بعض الناس على أقدامه، رجعت إليه الأعوان وقبضوا عليه وأصعدوه إلى الحبس بالقلعة وضربوه، واستمر عدة أيام في الاعتقال، وعندما يستجيب حنا ويخرج معه إلى الشوارع بعد تغييره هيأته وطريقة مشيته وزيه على سبيل التخفى ويريد منه أن يرافقه إلى مكان معين نفاجأ ببطلنا يعتذر ويفضل العودة إلى البيت تاركا حنا وحده فى الشارع، وكأن الخطر الذى صدّعا أدمغتنا به قبل قليل قد تبخر فى الهواء ولم يعد له وجود. ما رأيكم فى أن نقرأ الحكاية "من طقطق لسلامو عليكو"؟ على أن نكبّر مخنا ولا نلقى بالا إلى عدم اهتمام كاتبنا الهمام بمسألة الترقيم، فكله عنده صابون، أو قل: كله عنده نقط، وكأنه لا يوجد علامات ترقيم أخرى غير النقطة حتى لنكاد من جراء ذلك نصاب بالنقطة. وكذلك ينبغى ألا نهتم بغرامه الشديد غير المفهوم بحذف أدوات العطف وروابط الجمل: "لمحتُ جمعا من الناس وبعض العسكر الانكشارية. فاتجهت مباشرة إلى بيت حنا. كان في مثل عمري وكنت قد تعرفت عليه لدي تاجر الحبوب والعقاقير الفرنسي الذي عملت عنده قبل أن يضمني الجبرتي إلي بيته. أما هو فقد انتقل إلى بيت الشيخ البكري الذي اتخذه سكرتيرا. واستمرت صداقتنا. طرقت الباب عدة مرات. فتحه لي شاحب الوجه. جذبني إلى الداخل في لهفة. تبعته وأنا أردد بصوت مرتفع: دستور. يا ساتر. لتنبيه النساء. جلسنا في قاعة مجاورة للباب. أحضر لي كوبا من الماء الذي يحرص الأقباط على غليه. حكيت له مشاهداتي. عرضت عليه أن يخرج معي لنتفرج. هز رأسه مترددا. ألححت عليه. غادرالغرفة وعاد مرتديا عمامة القبط سوداء اللون. كان ممنوعا علي القبط واليهود لبس العمامة الخضراء أو الحمراء أو البيضاء أو انتعال المراكيب الحمراء والصفراء. امتنع عليهم أيضا ركوب الخيل والبغال. أو البقاء فوق حميرهم عندما يمرون بالمساجد. سألته عما به فقال إنه لم ينم جيدا لأن أطفال سكان الطابق الأعلى كانوا يمرحون بالقباقيب الخشبية ويلعبون بدق الهون. استمهلني عند الباب وواربه. ترددت في الخارج صيحات تدعو إلى قتل النصارى واليهود. اصفر وجهه وارتعشت أنفه الكبيرة. قلت له: غيّر ملابسك. قال كيف؟ قلت غيّر العمامة. ضع واحدة بيضاء والبس مركوبا أصفر. قال: سيكتشفوني. قلت: لا تخش شيئا. الفرنسيون الآن هم الذين يحكمون وهم من ملتك. دخل وعاد مرتديا عمامة بيضاء. غادرنا البيت. وجدته يتجه تلقائيا إلى يسار الطريق كعادة الأقباط الذين يتحتم عليهم ترك الجانب الأيمن من الشارع للمسلمين. جذبته من ذراعه ليسير إلى جواري ناحية اليمين. خرجنا إلى الشارع وسط صيحات الحمارين. قال: نذهب إلى بيت البكري فأنا قلق عليه. قلت: لن يصيبه أذى فهؤلاء الشيوخ يفلتون دائما من كل مصيبة. قال: أنا خائف على زينب.

التفت إليه مصعوقا: زينب من؟
_أطرق برأسه إلى الأرض: إبنة الشيخ البكري
 يا وقعة سودة. احكي لي.
 في البداية لم أكن أراها أو حتى أسمع صوتها. كنت أظل بالحجرة المخصصة لي أسفل مسكن الحريم مباشرة. وتبلغني الوكيلة أوامرها. ثم سُمح لي بالصعود إلى الحجرة المجاورة. وصارت تملي على أوامرها بنفسها عبر باب مفتوح بين الغرفتين. هكذا سمعت صوتها.
 رأيتها؟
 لم تكن تخرج إلا لماما. وفي هذه الحالة ترتدي السبلة الواسعة التي تتدلى حتى الأرض وتغطي وجهها بالبرقع الذي لا يكشف سوي عينيها. في مرة برزت فجأة من حجرتها. كانت سافرة. طالعني وجه مثل القمر في تمامه تحيط به ضفيرتان من الشعر ويعلوه اكليل مرصع. كانت في ثوب حريري رقيق مشقوق من أعلى الصدر فوقه قباء من المخمل مشدود إلى خصرها بمنطقة من الحرير الدمشقي الثمين. وتدلى من أذنيها قرطان تألفا من جوهرتين كبيرتين. لم أعرف النوم من لحظتها.
 هذا كل شئ؟
 تكررت رؤيتي لها سافرة. كانت تمر من أمام باب حجرتي دون حجاب.
 هل تعرف عمرها؟
 أظنها في السادسة عشرة.
أرادني أن أصحبه حتى بيت البكري في الأزبكية لكني فضلت العودة". إذن لم ظللتَ وراء الرجل حتى أخرجته من بيته ما دمت تريد العودة إلى البيت؟ لقد افتعل الكاتب المسألة كلها كى يحدثنا عن الاضطهاد الواقع على النصارى، وإلا أفكان من الممكن أن واحدا مثل الراوى مقطِّعًا السمكة وذيلها يغيب عنه هذا إلى أن يخبره به حنّا فى بيتهم وإلى أن يسمع الناس فى تلك اللحظة، وبالمصادفة المحضة، يا للهول، تهتف فى الشارع بالويل والثبور وعظائم الأمور له ولبنى طائقته؟ ثم أيمكن التصديق بأن الجماهير التى كانت تتوعد النصارى خارج البيت لا تعرف أن ذاك البيت هو بيت نصرانى فتقتحمه وتنكل بأهله بدلا من انتظارهم حتى يخرجوا بما يترتب على ذلك من تضييع الوقت وتجرع مرارة الانتظار وناره، مع أن من الممكن الانتهاء من الأمر فى غلوة واحدة؟ أنا بطبيعة الحال أتهكم على هذا المستوى الفنى المضحك فى الكتابة والتأليف! وشىء آخر فاتنى أن أسأل الكاتب عنه، وهو حكاية إغلاء النصارى للماء. لقد أشار إلى أن هذه عادتهم، لكن لماذا كانت هذه عادتهم؟ لم يكلف سيادته نفسه أن يشرح لنا السبب فى أن هذه كانت عادتهم. ذلك أن هذه كانت ومازالت عادته: أن يقول شيئا بين الحين والحين يثير حيرتك ثم لا يكلف نفسه شرح ذلك. أما تعلُّق حنا ببنت الشيخ البكرى فلا تأخذها فى بالك "منك له له له"، فالرجل إنما يمارس الوحدة الوطنية، التى نحرص كلنا عليها حرصنا على حياتنا. ثم هل يملك أحد قلبه، وهو (كما جاء فى الحديث الشريف) بين إصبعين من أصابع الرحمن؟ صحيح ان أصابع صنع الله إبراهيم هى التى تلعب هنا، وهى التى تحرك كل شىء بخيوط، وصحيح أيضا أنها خيوط مرئية ساذجة مفضوحة وأن الأصابع التى تحركها أصابعُ غشيمةٌ تنقصها مهارة الفن وحساسيته، لكن كما قلنا: لا بد من التفويت، وإلا انفعت مرارتنا غير ما هى مفقوعة! ولا بد أن ننكتم أيضا فلا نتساءل: من أين لحنا، وهو النصرانى الذى يجب أن يرتدى ملابس معينة لا يعدوها، بالعباءة البيضاء وغيرها مما ليس من زى النصارى؟ ذلك أن الأستاذ صنع الله "رجل جاهز" لاتأخذه أية مفاجأة على سبيل البغتة. وعلينا كذلك أن نغضى النظر عن همز المؤلف، على لسان الراوى، للمشايخ (أى علماء الدين المسلمين لا غيرهم، حتى يكون الكلام واضحا)، وكأن الراوى ليس شيخا مثلهم، وإن كان شيخا صغيرا أو مشروع شيخ، وكأنه أيضا لا يشتغل مع واحد من أكابرهم، وإن كان يَنْفِس عليه ويحاول منافسته حتى يكون مؤرخا كبيرا مثله ويحظى مثله أيضا بمديح أرنولد توينبى فى القرن العشرين، فيبادل الشيخُ الكبيرُ تلميذَه الشيخَ الصغيرَ "بسلامته" تربصا بتربص، ولا أدرى لماذا، ولكن هكذا شاءت إرادة مولانا الشيخ صنع الله، ولا رادَّ لمشيئته. نعم علينا أن نغضى النظر عن هذا أيضا، وإلا فلن نفرغ من الكتاب إلى يوم النشور والنفخ فى الصُّور! ودَعُونا أخيرا وليس آخرا من قول الراوى لصديقه حنا: "احكى لى" بإثبات الياء فى آخر فعل الأمر وكانه يخاطب امرأة لا رجلا بشوارب يقف عليها الصقر، فهذا هو مستوى صنع الله وأشباهه من العباقرة أكابر الكتاب فى العالم العربى وغير العربى على السواء، أو بالأحرى: على غير السواء، ولا ينبغى أن نشغلهم بتلك التفاهات.

وفى موضع آخر من الكتاب يكتب مؤلفنا بقلم الراوى فى يومياته ما يلى: "الخميس 15 نوفمبر: اكتشفت أن أستاذي أوجز الحديث في أوراقه عن المشايخ المقتولين بالقلعة ولم يذكر أسماءهم"، على حين أن كل ما قاله بنَصِّه وفَصِّه هو بعض ما قاله الجبرتى، بل لقد أورد الجبرتى تفصيلات أكثر. وهذا كلام مؤرخنا الكبير: "ثم إنهم فحصوا على المتهمين في إثارة الفتنة فطلبوا الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان والشيخ أحمد الشرقاوي والشيخ عبد الوهاب الشبراوي والشيخ يوسف المصيلحي والشيخ اسمعيل البراوي وحبسوهم ببيت البكري. وأما السيد بدر المقدسي فإنه تغيب وسافر الى جهة الشام، وفحصوا عليه فلم يجدوه. وتردد المشايخ لتخليص الجماعة المعوقين فغولطوا. واتُّهِم أيضًا ابراهيم أفندي كاتب البهار بأنه جمع له جمعًا من الشطار وأعطاهم الأسلحة والمساوق وكان عنده عدة من المماليك المخيفين والرجال المعدودين فقبضوا عليه وحبسوه ببيت الآغا‏.‏

وفي يوم الأحد ثامن عشره توجه شيخ السادات وباقي المشايخ الى بيت صاري عسكر الفرنسيين وتشفعوا عنده في الجماعة المسجونين ببيت الآغا وقائمقام والقلعة فقيل لهم: وسعوا بالكم، ولا تستعجلوا. فقاموا وانصرفوا‏.‏

وفيه نادَوْا في الأسواق ولا أحد يشوش على أحد مع استمرار القبض على الناس وكَبْس البيوت بأدنى شبهة، وردَّ بعضهم الأمتعة التي نُهِبَتْ للنصارى‏.‏ وفيه توسط القلقجي لمغاربة الفحامين وجمع منهم ومن غيرهم عدة وافرة وعرضهم على صاري عسكر فاختار منهم الشباب وأولي القوة وأعطاهم سلاحًا وآلات حرب ورتبهم عسكرًا، ورئيسهم عمر المذكور، وخرجوا وأمامهم الطبل الشامي على عادة عسكر المغاربة، وسافروا جهة بحري بسبب أن بعض البلاد قام على عسكر الفرنساوية وقت الفتنة وقاتلوهم وضربوا أيضًا مركبين بها عِدّةٌ من عساكرهم فحاربواهم وقاتلوهم. فلما ذهب أولئك المغاربة سكنوا الفتنة وضربوا عَشْمَا وقتلوا كبيرها المسمى بابن شعير ونهبوا داره ومتاعه وماله وبهائمه، وكان شيئًا كثيرًا جدا، وأحضروا إخوته وأولاده وقتلوهم ولم يتركوا منهم سوى ولد صغير جعلوه شيخًا عوضًا عن أبيهم. وسكن العسكر المغربي بدار عند باب سعادة ورتبوا له من الفرنسيس جماعة يأتون إليهم في كل يوم ويدربونهم على كيفية حربهم وقانونهم ومعنى إشاراتهم في مصافاتهم فيقف المعلم والمتعلمون مقابلون له صفًّا وبأيديهم بناقدهم، فيشير إليهم بألفاظ لغتهم كأن يقول: مردبوش، فيرفعونها قابضين بأكفهم على أسافلها، ثم يقول: مَرْش، فيمشون صفوفًا إلى غير ذلك...

وفي ليلة الأحد حضر جماعة من عسكر الفرنسيس الى بيت البكري نصف الليل وطلبوا المشايخ المحبوسين عند صاري عسكر ليتحدث معهم، فلما صاروا خارج الدار وجدوا عدة كثيرة في انتظارهم فقبضوا عليهم وذهبوا بهم الى بيت قائمقام بدرب الجماميز، وهو الذي كان به دبوي قائمقام المقتول، وسكنه بعده الذي تولى مكانه، فلما وصلوا بهم هناك عَرَّوْهم من ثيابهم وصعدوا بهم الى القلعة فسجنوهم الى الصباح فأخرجوهم وقتلوهم بالبنادق وألقَوْهم من السور خلف القلعة، وتغيب حالهم عن أكثر الناس أيامًا. وفي ذلك اليوم ركب بعض المشايخ إلى مصطفى بك كتخدا الباشا وكلموه في أن يذهب معهم إلى صاري عسكر ويشفع معهم في الجماعة المذكورين ظنًّا منهم أنهم في قيد الحياة، فركب معهم إليه وكلموه في ذلك، فقال لهم الترجمان: اصبروا. ما هذا وقته؟ وفي يوم الثلاثاء حضر عدة من عسكر الفرنسيس ووقفوا بحارة الأزهر فتخيل الناس منهم المكروه ووقعت فيهم كرشة وأغلقوا الدكاكين وتسابقوا الى الهروب وذهبوا الى البيوت والمساجد، واختلفت آراؤهم ورأَوْا في ذلك أقضية بحسب تخمينهم وظنهم وفساد مخيلهم. فذهب بعض المشايخ الى صاري عسكر وأخبروه بذلك وتخوف الناس، فأرسل إليهم وأمرهم بالذهاب فذهبوا وتراجع الناس وفتحوا الدكاكين ومر الآغا والوالي وبرطلمين ينادون بالأمان، وسكن الحال...

وفيه كتبوا أوراقًا وألصقوها بالأسواق تتضمن العفو والتحذير من إثارة الفتنة وأن من قتل من المسلمين في نظير من قتل من الفرنسيس‏.‏ وفيه شرعوا في إحصاء الأملاك والمطالبة بالمقرر فلم يعارض في ذلك معارض ولم يتفوه بكلمة، والذي لم يرض بالتوت يرضى بحطبه‏.‏ وفيه أيضًا قلعوا أبواب الدروب والحارات الصغيرة غير النافذة، وهي التي كانت تُرِكَتْ، وسُومِح أصحابها وبرطلوا عليها وصالحوا عليها قبل الحادثة وبرطلوا القلقات والوسايط على إبقائها، وكذلك دروب الحسينية. فلما انقضت هذه الحادثة ارتجعوا عليها وقلعوها ونقلوها الى ما جمعوه من البوابات بالأزبكية ثم كسروا جميعها وفصلوا أخشابها ورفعوا بعضها على العربات إلى حيث أعمالهم بالنواحي والجهات وباعوا بعضها حطبًا للوقود، وكذلك ما بها من الحديد وغيره‏.‏

وفي ليلة الخميس هجم المنسر على بوابة سوق طولون وكسروها وعبروا منها إلى السوق فكسروا القناديل وفتحوا ثلاثة حوانيت وأخذوا ما بها من متاع المغاربة التجار وقتلوا القلق الذي هناك وخرجوا بدون مدافع ولا منازع‏.‏ وفي يوم الخميس المذكور ذهب المشايخ إلى صاري عسكر وتشفعوا في ابن الجوسقي شيخ العميان الذي قُتِل أبوه، وكان معوقًا ببيت البكري، فشفَّعهم فيه وأطلقوه"‏.‏

والواقع أن هذا هو الوضع الطبيعى، إذ ليس للراوى وجود تاريخى، بل هو مجرد شخصية روائية لم يستطع صنع الله أن يصنع منها شيئا فكان هذا الخبص واللبص والزعم على الجبرتى بما هو منه براء، على حين أنه ما من شىء أساسى فى الكتاب تقريبا إلا وهو مأخوذ من الجبرتى. وهو دليل فشل فنى لا يليق، ومع هذا تطنطن لصاحبه الأقلام. لقد افتعل صنع الله افتعل صراعا بين الراوى والجبرتى، ولكن على أى شىء؟ ولأى هدف؟ لا أدرى.

ويبلغ التناقض فى تصرفات الراوى أن يبدو فى غير قليل من الأحيان وكأنْ قد أصابه العَتَه. انظر كيف يخاف أن يضع أوراق يومياته تحت صندوق متاعه فى غرفته الخاصة ببيت الجبرتى حتى لا يحرك الخدم الصندوق من مكانه فتنتكشف أوراقه. إلى هنا ويستحق أن نضرب له تعظيم سلام، وإن كنا لا نفهم خوفه من اطلاع الآخرين على تلك الأوراق، فليس فيها شىء لم يكتبه الجبرتى فى مخطوطه، اللهم إلا حكاية مجامعته للجارية السوداء والفاحشة التى يرتكبها مع بولين، وكان المفروض أن يحذف ذلك لأنه لا فائدة فيه ما دام لا ينوى أن يطلع الناس على تلك الأسرار، ولأن الناس فى العالم الإسلامى فى ذلك الوقت وبعد ذلك الوقت بزمن طويل لم يكونوا يفعلون هذا لأن صنع الله وزمرته ومن على شاكلتهم لم يكونوا قد شَرَّفوا بعد، ولا يمكن بطبيعة الحال أن تجرى الأمور فى الأدب بأثر رجعى. إلا أننا نفاجأ بالراوى بعد اللَّتَيّا والتى قد وضع أوراقه فعلا تحت الصندوق رغم كل شىء بعد أن دق تحت الصندوق مسامير قال إنها ستحمل الأوراق وتبقيها بعيدا عن الأرض خوفا من أن يتسرب الماء إلى أسفل الصندوق الذى يسميه لفقره اللغوى: "قاع الصندوق"، جاهلا الفرق بين قاع الصندوق من الداخل من الجهة الفوقية، وأسفل الصندوق من الخارج من الجهة التحتية. ولكن بالله ماذا يمنع الخدم من تحريك الصندوق واكتشاف الأوراق المخبوءة هناك كما كان يخشى أولا؟ هل لأنه دق أربعة مسامير تحت الصندوق؟ وماذا فى ذلك مما يمنعهم من تحريك الصندوق؟ قالوا: سرقوا الصندوق يا أبا لمعة. قال: لكن مفتاحه معى. يا ذكاءك يا أخى! بُلَّ المفتاح إذن واشرب ماءه! ألم أقل إن هذا الراوى فى بعض الأحيان يتحول إلى معتوه؟

ثم انظر إليه بعد ذلك بقليل وهو يقول: "بالليل وأنا على أهبة النوم تخيلت أن الأوراق تراكمت بحيث صارت كتابا يحمل اسمي". طبعا، فقد قيض الله لك الأستاذ صنع الله مكتشف المواهب وصانع النجوم والكواكب والمجرات فوق البيعة فنشر كتابك الوهمى الذى لا وجود له إلا فى عقله هو، وأعطاه اسم "العمامة والقبعة"، على غرار "الكنكة والفنجان" و"السلم والثعبان" و"الفيل والمنديل" و"الفِلّة والفانلّة" و"التوت والنبوت". وعما قليل سوف يتصلون بك من باريس ويعرضون عليك نشر كتابك على مستوى المعمورة بعد ترجمته إلى كل لغات العالم مثلما اتفقوا مع صاحبة "برهان العسل"، ذلك العسل الذى ينبع من نقطة التقاء فخذيها ويحرص عشيقها على ذوقه بمجرد أن يراها ولا يصبر حتى تخلع ملابسها طبقا لكلامها هى لا كلامنا، فنحن ناس غلابى لا نعرف شيئا من هذا الحرام. لكنهم سوف يسمون كتابك: "غيط البصل" كلون من التمييز بيين الكتابين، وإيماءً إلى أن صاحبه شيخ أزهرى خنشور حالِق جَلْط، وليس بنتا شامية مغناجا بيضاء كلهطة القشدة! ابسط يا عم، ماشية معك آخر حلاوة وبقلاوة!

كذلك هل من المعقول أن تأخذ بولين راوينا الفَتِك إلى مسكنها فوق المكتبة فيمارسا الجنس معا على راحتهما ويغنى لها بعض الطقاطيق والمواويل البلدية ويترجم ما يغنيه ثم يجامعها مرة أخرى ويشرح لها بعض الأمور المتعلقة بالجماع وما إلى ذلك، كل هذا بطمأنينة بال وهدوء أعصاب، وكأن زوجها لا يمكن أن يأتى فجأة فى أى وقت مثلا؟ مع أن هذا الخلبوص نفسه قد ذكر بعظمة لسانه الذى سيأكله الدود (آسف: بل أكله منذ أكثر من قرنين، وبقى لسان صنع الله) أن ذلك الزوج كان يغار على زوجته ويعاملها بطريقة وحشية، ولا يطيق أن تكون عشيقة لبونابرت. اللهم إلا إذا رد علينا الأستاذ صنع الله بأن ذلك الضابط كان ذا ميول اشتراكية، فهو يؤمن بأن الناس (الشغيلة والكادحين والمشايخ الفقراء الشبان كالراوى وأمثاله فقط من فضلك لأن المسألة ليست سائبة دون ضابط ولا رابط) شركاء معه فى امرأته، إذ لا يحق له أن يستبد بذلك الجمال وحده من دون المحرومين، وإلا فكيف يكون اشتراكيا؟ ومعروف أن للاشتراكيين والشيوعيين فى أمور الجنس بدوات شاذة لا تدركها عقول أمثالنا.

ثم هل من المعقول أن يمارس الراوى الزنا بهذه السهولة ودون إحساس بالإثم ولذع الضمير؟ إن هذا أمر غريب لا تهضمه النفس، فهو يصلى وتلميذ للجبرتى ويعيش فى بيته معاونا له. ولا يُعْقَل ألا يترك ذلك كله فى نفسه أثرا فلا يشعر بتأنيب الضمير فى مثل تلك الظروف. للأسف الشيدد فإن الأستاذ صنع الله يقيسه على الشيوعيين وأمثالهم من الملوثين. والمضحك أنه بعد أن زنا بالبنت الفرنسية مرات لا يعلم عددها إلا الله دون خالجة من ندم أو شعرة من تردد رغم أنه كان يصوم ويصلى جميع الصلوات بما فيها التراويح نجده فجأة يحاول أن يقاوم ويستغفر الله. ليس ذلك فقط، إذ لا يعقل أن يترك بونابرت عشيقته هكذا دون رقابة بحيث يدخل عليها واحد من أبناء البلد ويجامعها على راحته، وفى حضور المرأة الشامية التى كانت تقوم على خدمتها وتسوقه إلى مخدعها حين مجيئه؟ وأدهى من ذلك أنه يجامعها ومسكنها يقف أمام بابه العسكر الفرنسى ويرونه وهو يدخل عليها ويغيب عندها. ولعلهم كانوا يسهرون على راحة المحروس حتى يقضى وطره فى أمان وسكينة ودون خوف. الحق أن قصة الراوى مع بولين من ألفها إلى يائها إنما تشبه حكايات أبى لمعة، ولا أدرى كيف خطرت لصنع الله، إذ الحب أو الجنس لا يتم بهذه الطريقة ولا بتلك السهولة فى مثل هذه الظروف. إنها أشبه بحكايات الجائع الذى يحلم بسوق الحب. ومعلوم أنه ما على الجائع الحالم من حرج!

كما سبق أن قلنا كان لا بد أن يكون هناك أسباب لوقوع تلك البنت فى غرامه بهده السرعة الصاروخية وانهيارها معه فى الزنا دون مقدمات، فما هى تلك الأسباب؟ هل كان وسيما إلى درجة مذهلة؟ هل كان من أسرة غنية لها مكانة فى مصر تلفت الأنظار وترى بولين من مصلحتها أن توثق علاقتها به لهذا السبب؟ هل كان ولدا فالنتينو بارعا فى الغزل لا تثبت أمامه النساء فاستطاع أن يغزو قلبها الجاف لأن أحدا ممن حولها من الفرنسيين لا يبالى بها؟... إلخ. لقد كانت هذه المرأة تحتقر المصريين وتتأفف من قذارتهم وتجبه الراوى بهذا فيتألم ويغضب رغم أنه هو أيضا كثيرا ما توقف عند تلك القذارة وهو يصف الناس والشوارع والبيوت، وهو ما يجعل الأمر كله بزرميطا فى بزرميط، فكيف تقع فى حبه وبهذه السرعة والبساطة وعند أول بادرة، ومن تلقاء نفسها؟ أليس هو واحدا من هذا الشعب القذر كما تصفه؟ ثم لقد شبعنا من الموضوع المتهالك، موضوع وقوع البنت الأوربية فى غرام الشاب العربى، وبخاصة أن نتائجه فى الغالب كارثية رغم ما يبدو على السطح من أنه ظفر وانتصار، إذ الغرب لا يبالى بأن تزنى بناته ونساؤه مع شبابنا ما دمن يؤدين له خدمة الإيقاع بالشبان الشرقيين فى حبائل العمالة له عن عمد أو غير عمد.

وهناك التجهيل الذى ضرب الكاتب نطاقه حول الراوى حتى إننا نظل طوال الرواية لا نعرف اسمه كما سبق القول رغم أنه قد حانت عدة فرص كان ينبغى ذكر اسمه فيها، لكنه أصر على موقفه فبقى مجهَّلاً حتى الرمق الأخير من الكتاب، كما هو الحال مثلا حين تعارف وبولين لأول مرة فسألها عن اسمها فذكرته له، ثم سألته عن اسمه فقال: "اسمى..."، مكتفيا بثلاث نقاط لا تعنى شيئا، ولا أدرى كيف نطق هذه النقاط الثلاث وهو يكلمها، وكما هو الحال كذلك فى اليومية التالية التى كتبها خلال مرافقته للحملة الفرنسية إلى الشام: "كتبت أحداث الأيام الماضية في الصباح. واستدعاني قبطان. قال: اسمي الكابيتان هويه. وأنت؟ وقرأ اسمي من ورقة أمامه"... إلخ. ولكننا، من جهة أخرى، إذا ما أعدنا التفكير فى الأمر ألفينا أن هذا أمر طبيعى لأن الراوى ليس له دور يؤديه كما أوضحنا من قبل، إذ هو لا يأتى بشىء من عنده، بل يسطو على ما كتبه الجبرتى ثم يزعم أن الجبرتى لم يقل هذا أو ذاك ليتضح فى النهاية أنه هو كلام الجبرتى، اللهم إلا جماعه للزنجية التى فك تكتها وكأنه قد فتح عكا، ثم مواقعته لبولين. ولأن الراوى ليس له دور، بل هو كشرابة الخرج، فمن الطبيعى أن نراه، عند وصفه فى يومياته المزعومة لضرب العريش، يتحدث بضمير الفرنسيين كأنه واحد منهم وراض بما يصنعون، مع أنه مصرى مسلم، وفوق هذا كان يؤلمه أشد الألم أن تعيب بولين المصريين. إنه يتحدث عن العدوان الفرنسى الشيطانى على البلاد والعباد فى مدن فلسطين وقراها بروح باردة لا ألم فيها ولا صراع ضمير ولا إحساس بالقهر والغم والخوف من الله لاشتراكه فى الرحلة اللعينة وقيامه بمساعدة أولئك المجرمين الكلاب. بل إنه، فى يومياته التى يكتبها لنفسه، ليسمى أهل فلسطين على طول الخط بــ"العدو". وكان يستطيع أن يهرب ويختفى عن الأنظار قبل الرحلة حتى لا يشترك فى هذا الضلال والكفر أو حتى أثناءها بعدما رأى العدوان الإجرامى على أهل دينه وعروبته. ومن المضحك المبكى أن يتحدث عن اضطراره لكسر الصيام أثناء ذلك. فأى صيام يتحدث عنه، وهو الزانى القرارى المشارك فى العدوان الكافر على ملته وأمته؟

وهنا أنتهز الفرصة فأنقل الآن للقارئ العزيز بعض إنجازات الفرنسيين أثناء حملتهم إلى الشمال لتعرف الأجيال الجديدة المغيبة العقل والإرادة أن التنويريين الخنازير عندنا يضللونهم حين يشيدون بحضارة الفرنسيس التى أحضروها معهم إلى بلادنا، لكننا، ككل كافر للنعمة صلب المخ عنيد غبى، لم ننتهز الفرصة السانحة، وآثرنا على العكس من ذلك مقاومتهم على الترحيب بهم والتعلم منهم والجلوس تحت أقدامهم كى يدوسوا على وجوهنا ورقابنا وأفواهنا بأحذيتهم ليبتهج التنويريون، لا أبهجهم الله أبدا: "أشرفنا على العريش مع شروق الشمس. طالعتنا غابة نخيل قرب البحر. وبدا أن المكان لا يضم غير مجموعة أكواخ عتيقة يحرسها نفر قليل من جند الأتراك. أطلقنا المدافع عليها. ثم تقدمنا من البيوت وهنا انهال علينا وابل من الطلقات. دخلنا البلدة بعد معارك طاحنة استمرت طول اليوم. ولأول مرة أشهد بشاعة الحرب. فقد قتل الفرنساوية الأهالي بالسناكي. لم يكن بالبلدة أقوات فبدأنا نتضور جوعا. وقتل الجنود الجمال والخيول وأكلوها. أكلت معهم بعد أن كسرت صيامي مرة أخرى. أفردوا لي مكانا في خيمة المترجمين. وخفت على حماري فربطته إلى فرشي. وكان معي قبطي ومالطي وعراقي واثنان من الشوام. ولم أتمكن من كتابة شىء بسبب انعدام الضوء...

شن الفرنساوية ليلة أمس هجوما مباغتا على جنود المعسكر التركي الذين لا يقاتلون عادة بين الغروب والفجر. فدخلوا المعسكر بعد منتصف الليل دون أن يلحظهم أحد حتى بلغوا قلبه. وقتلوا الرجال النيام بالسناكي.

أضاف هوية ملحقا عن القتلي والجرحى وأسباب الوفاة. ثلاثة فرنساوية مقابل ٥٠٠ قتيل و٩٠٠ أسير من الأعداء. استبشعت عدد القتلى فقال إن المصريين والعرب متوحشون. وإن الله أرسل بونابرته لمعاقبتهم...

تمت الاستعدادات للهجوم على المدينة. وبعد أن رفضت الحامية التسليم واحتجزت الرسول بدأ الهجوم الساعة الثانية بعد الظهر. وأحدث رجال الخنادق ثغرة في سور المدينة وبعد ساعات سقطت المدينة واستسلمت حاميتها لكن الجنود أعملوا السيف في حوالي ٢٠٠٠ منهم. راح الفرنساوية يقتلون كالمجانين طوال المساء والليل كله دون تفرقة بين المسلمين والمسيحيين والرجال والنساء. وبقيت في المعسكر خوفا من أن يتعرض لي أحد منهم. وفي آخر الليل أيقظني صوت الصباغ يناديني. خرجت إليه فقال إنه لا يستطيع النوم بعد كل ما شاهده في البلدة. وإن الفرنساوية تحولوا إلى وحوش يطعنون الشيوخ والفتيات ويهتكون أعراض البنات وهن لا يزلن في أحضان أمهاتهن. وإن صرخات الإسترحام تضاعف هياجهم...

(لكن كان عقل الراوى فى واد آخر:) الجمعة ٨ مارس: اليوم عيد الفطر، واجتمع المسلمون لصلاة العيد في العراء. أتساءل عما إذا كان يقدر لي أن أرى بولين مرة أخرى؟ عدت بعد الصلاة إلى خيمة الكابيتان فوجدته قد سجل أعداد قتلى الأمس بــ ٤٤١٠ قتيلا. ولعله لمح شيئا في وجهي فقال لي: إنها الحرب يا صغيري. قرب الظهر أرسل بونابرته اثنين من ياورانه أحدهما ابن زوجته وكلاهما حدثان إلى قلعة يافا. فناداهما الترك من نوافذ القلعة وصاحوا بأنهم على استعداد للتسليم إذا وعدوا بألا يعاملوا كما عومل بقية أهل يافا. فوعدهم الشابان بأنهم لن يقتلوا. فخرجوا وسلموا سلاحهم. وحكى لي إبراهيم الصباغ في المساء أن بونابرته عندما رأى ياورانه يعودان مع بضعة آلاف من الأسرى اصفر وجهه وقال ساخطا: ماذا سأفعل بهم؟ ثم أمر بإعدامهم.

السبت ٩ مارس: انهمك الفرنساوية صباحا في فصل المغاربة عن بقية الأسرى وجمعوا الآخرين أمام خيمة نابليون ومنعوا عنهم الطعام. وقادوا المغاربة إلى شاطئ البحر. وتبعتهم من بعيد فرأيتهم يصفونهم عند الماء ثم تقدمت كتيبتان منهم وبدأت في إطلاق النار عليهم. جرى البعض في محاولة للفرار فنادى عليهم الفرنساوية قائلين آن بونابرته عفا عنهم فعادوا. وفور اقترابهم أطلقوا عليهم النيران. وألقى بعضهم نفسه في الماء وحاول الهرب سباحة فاصطادهم الجنود على مهل. فاصطبغ ماء البحر بدمائهم وانتشرت جثثهم فوق سطحه"... وهلم جرا.

وبرغم كل ما شاهدناه من تصرفات الراوى وملامح شخصيته نراه، وهو الذى لم يكن يبالى بشىء على الإطلاق إلا بجماع بولين مهما فعل الفرنسيون فى فلسطين ومصر، يزعم فجأة أنه يشعر بالخجل والكرامة (شيئا لله يا أبا كرامة أنت ومؤلفك!) وأنه لن يذهب إلى المجمع ردا على ما صنعه الفرنسيون من فرض غرامة ثقيلة على المصريين وبَصْق أحد المارة عليه عندما رآه يخرج من الديوان، وكأنه لم يكن يذهب إلى الديوان كل يوم دون أن يبصق عليه أحد. يا أخى، ستمائة طُظّ فيك وفى عدم ذهابك إلى الديوان! أوتظن أن "بسلامته" الديوان سيقف حاله إذا لم تذهب؟ أَمَا إنك لغبىٌّ بصحيح. ولكن العيب ليس عليك، بل على مؤلفك الذى لم يحسن أدبك. نعم لم يحسن أدبك، وأقصد الأدب بمعنى الـخَلْق الفنى وبمعنى التهذيب جميعا. ومن ذلك أيضا أن الراوى ما إن يسمع كلام سليمان الحلبى عن الجهاد ردًّا على تبذُّل الفرنسيين حتى يتأثر به ويشاركه الرأى والموقف، مع أنه كان قد سبق أن رأى كل المباذل والقتل والنهب وساهم فى تذليلها للفرنسيين وكان من رجالهم، ولم يحدث أن ترك هذا رغم بشاعاته وشناعاته شيئا فى نفسه. ألم أقل: سمك، لبن، تمر هندى؟

كذلك ما الذى يا ترى تستفيده الرواية أو يستفيده القراء من وصف الراوى لمعالم الطريق الذى سلكه حين أراد لصق المنشور الذى كتبه للفرنسيين، وبالذات وصفه للطريقة التى تُُعَدّ بها كرات اللحم الملفوفة فى ورق العنب فى أحد المطاعم، وكذلك ألاعيب الحاوى الصغير؟ ترى فى أى شىء نحن يا رجل: فى ... أم فى شَمّ وَرْد؟ الواقع أنك حاجة باذنجان خالص! ولسوف أترك القراء يحكمون بأنفسهم بعدما يقرأون كلامك بأنفسهم: "نويت أن أعلق واحدة في ميدان الرميلة وعند باب الوزير قرب القلعة وعند قناطر السباع، وعند المجمع العلمي في الناصرية. أما الثلاث الأخريات فقررت أن أعلقها في الشمال. واحدة عند باب النصر وواحدة قرب حارة الأفرنج في الأزبكية والثالثة عند باب زويلة. صليت العصر وتسحبت خارجا بعد أن وضعت ورقة في صدري. اتجهت إلى المشهد الحسيني ومضيت في شارع سيدنا الحسين حتى تقاطع السكة الجديدة ثم شارع وكالة التفاح ومررت بقصر الزمرد حتى وصلت شارع وكالة الصابون المتخصصة في بضائع بلاد الشام. مررت بكنيسة الشوام والمدرسة الفارسية. ثم بمحل شواء لحم مفروم على هيئة كرات صغيرة مغلفة بأوراق العنب موضوعة في أسياخ من الخشب. وأشرفت على مئذنة جامع الحاكم بأمر الله وبعد عدة عطف اقتربت من المدرسة الجنبلاطية الملاصقة لباب النصر. لمحت من مبعدة بضعة عساكر من أهل البلد ومعهم عسكريان فرنساويان متجمعين عند الباب. أبطأت سيري وجعلت أتفرج على الدكاكين وأغلبها لتجارة المنسوجات. توقفت أمام بائع حمص وترمس واشتريت منه. كنت أريد أن أعلق الورقة في موضع يسهل على الفرنسيين رؤيتها منه. فكرت في تعليقها على جدار المدرسة الجنبلاطية لكني عدلت عن الفكرة فهي بعيدة عن مرمى رؤيتهم كما أن التلاميذ يمكن أن ينزعوها. وقفت في مدخل دكان قبورجي يطرز الحرير والجوخ والكشمير بخيط معدني في إبرة معقوفة. ولمحت طوبة بجوار الحائط فأعددت المسمار في يدي. تابعت العساكر بركن عيني وهم يتضاحكون دون أن يغيب عنهم تأمل المارة والتمعن فيهم. ظهر حاو معه صنبور تسيل منه المياه ثم تنقطع فجأة لتسيل بعد لحظات وذلك حسب أمره. وتجمع بعض الصبية وجعلوا يهللون. ولم ينطل الأمر على الفرنساوية فأخذوا يسخرون منه. عندئذ أخرج كأسا وتحدث طويلا بمداعبات وتهريج ثم نفخ في قوقعة كبيرة ورفع غطاءالكأس فظهرت بيضة ثم قلب الكاس ورفع غطاء قاعه فظهر كتكوت. التف العساكر حوله وجعل الفرنساوية يمازحونه. وانشغلوا عن الباب. ورأيت في الجدل الدائر فرصتي فانحنيت وتناولت الحجر وأخرجت الورقة من صدري وعلقتها على جدار الباب ودققت المسمار ثم رميت الطوبة وابتعدت على الفور وقلبي يدق بشدة في صدري". عليك بــ"طاسة الـخَضَّة" يا رجل، وسوف يكون كل شىء عال العال!

ثم بعد أن صار رجلا مجاهدا فى سبيل الله ويقبض عليه الفرنسيون ويحبسونه مع غيره فى القلعة نراه يتذكر ما كان بينه وبين القحبة الفرنسية واجدا فيها عزاء: "اقتادوني إلى القلعة حيث ضربوني بالكرابيج على كفوفي ووجهي ورأسي طالبين أسماء شركائي وأماكن إخفاء الأسلحة. ولما لم يتحصلوا مني على شيء أودعوني الحبس. قضيت الليلة الأولي بمفردي نائما فوق الأرض الباردة. ووجدت السلوى في تذكر ما جري بيني وبين بولين وظل طيفها يلف بمخيلتي. وفي الفجر أخذت أرتعش من البرودة. فكنت أقفز كالقرد لكي تسري الدماء في عروقي". بالضبط حسبما ذكر لنا صنع الله إبراهيم فى "يوميات الواحات" أنه ورفاقه الشيوعيين كانوا يصنعون فى السجن، إذ كانوا "يقفزون كالقرود" (بنفس التعبير) من البرد كى يحصلوا على بعض الدفء. كما أخبرنا هناك أيضا أنه لم يستطع النوم ليلة قتل شهدى عطية زميله فى السجن إلا بعد أن استمنى خفية. إذن فالمؤلف إنما يخلع نفسه على الراوى. والمفروض أنه، وإن استعان بتجاربه وخبراته فى تأليف قصصه، لا ينبغى أن ينسى أن لكل حالة ولكل شخصية ظروفها وسماتها الخاصة التى تميزها عن غيرها.

"وقعت اليوم مفاجأة غريبة. فقد وصل ثلاثة محابيس قادمين من قلعة الرحمانية وإذا بأحدهم هو عبد الظاهر. وضعت فرشته إلى جواري وقضينا الوقت يحكي كل منا ما مر به. وأكد لي واقعة القبض عليه كما ذكرها حنا وإن كان قد تشكك في أنه هو الذي أبلغ عن الأمر. وحكيت له ما فعلته من تعليق الأوراق فأثنى علىّ. ثم حكيت له قصتي مع بولين فتلى (يقصد: "فتَلاَ") علي مقتطفات من كتاب "مكايد الناس" (لعلها "مكايد النساء"؟) للبتانوني الأباصيري تبين جهل النساء بالشريعة وأن لديهم شبقا جنسيا ولا يعرفون (الصواب: "يعرفن") حدودا وأنهن ناقصات عقل ويورطن الرجال في ارتكاب جريمة الزنا وان امرأة كانت وراء مقتل علي بن أبي طالب وولده الحسن أيضا". فلماذا لم تقل هذا لنفسك من الأول؟

وبعد، فقد آن الأوان، أيها القراء الأعزاء، أن أسكت، ولعلى قلت شيئا نافعا، وأستغفر الله عما يمكن أن يكون بَدَرَ منى من ذنب. إنه، سبحانه، عفو غفور. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وتيار الكتابة الاستمنائية!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى