العملية رقم سبعة ـ الفصل الأول
تلك الخرافة الملعونة . . نريدها . .
نريدها سليمة في أزهى ثيابها وحُلّيها. .
لنزيل بها حاجز الخوف القابع بصدور طيارينا ..
ونتحسس ملكاتها الأسطورية التي يخيفنا العرب بها.
فبامتلاكها . .
سوف نضمن الغلبة لإسرائيل . .
ونُؤمّن بذلك مستقبل دولتنا . .
وأولادنا . .
الى الأبد . . !!
"ديفيد بن جوريون"
بين هاريل وعاميت
في بداية الستينيات من القرن الماضي، كانت أجهزة المخابرات الإسرائيلية تعاني خللاً متصاعداً منشؤه تعارض المهام والاختصاصات، ذلك أن رئيس الموساد – ايسير هاريل – والمقرب جداً لرئيس الوزراء، كان يفرض هيمنته أيضاً على جهاز المخابرات العسكرية – أمان - ، في الوقت الذي كانت فيه "أمان" تعاني من مشكلات أخرى عديدة، تعوق نشاطاتها وتحد من انطلاقها.
فحتى ذلك الوقت، كان قد تولى رئاستها أربعة جنرالات، استبعد ثلاثة منهم وأجبروا على التخلي عن المنصب، أيسير بيري كان أولهم عام 1949 لانتهاكات حقوق مدنية، وجاء من بعده بنجامين جيبلي عام 1955، الذي أبعد إثر فضيحة لافون في مصر، ومن بعده ياهو شافات هاركابي عام 1958، لسوء إدارته في عملية تعبئة لاحتياطي الجيش.
أما رئيس أمان الرابع، الجنرال حاييم هيرتزوج ، فقد فضل أن ينسحب بعدما فشل في إبعاد هاريل عن جهازه، محتجاً على سكوت رئيس الوزراء – بن جوريون – إزاء تدخلات هاريل.
وباستقالة هيرتزوج في فبراير 1962، فكر بن جوريون في مائير عاميت، الذي كان وقتها جنرالاً في جيش الدفاع، ورأى أنه الأنسب لرئاسة المخابرات العسكرية، بيد أن أيسير هاريل اعترض بشدة، ربما لمعرفته بمكانة عاميت ونفوذه داخل الجيش، وربام أيضاً لتخوفه من نوايا بن جوريون، حيث اتجهت ظنونه الى أنه يعده خلفاً له، خاصة وأن علاقته برئيس الوزراء آنذاك كانت قد تضاءلت، وأحاطها الفتور.
وباستماتة حاول هاريل إقناع رئيس الوزراء بخطورة اختيار عاميت، كجنرال عسكري يفتقر خبرة رجل المخابرات، لكن بلا فائدة.
من جهته، انتاب عاميت القلق المصحوب بالتوتر، ذلك لأن جهاز أمان كان في حالة من عدم الاتزان، وتسوده العلاقات الخاصة والمصالح، مما أثر على مهامه في خدمة الدولة، ونأت به الى مهام أقل أثراً بسبب نفوذ هاريل، فضلاً عن أنه – أي عاميت – كان يفضل الحياة العسكرية، والزي العسكري، ولم يتعود بعد على الحياة بالزي المدني، قابعاً خلف المكاتب والأوراق.
لكن ما إن تولى عاميت منصبه، حتى سعى للالتقاء بهاريل في محاولة جادة لتوطيد علاقته به، لتخفيف حدة الكراهية والتنافس بين الجهازين.
وفي اجتماع مطول ضمهما، أكد عاميت على ضرورة نبذ الخلافات، والتنسيق المشترك بينهما فيما يتعلق بأمور الدفاع عن الدولة، موضحاً أن عمل الجهازين يصب في النهاية في بوتقة واحدة، تخدم أمن إسرائيل ومصالحها، وتوجا الاجتماع بالاتفاق معاً على ضرورة التعاون الوثيق، لتحقيق حلم امتلاك طائرة ميج 21 عربية.
لكن الخلافات ما لبثت أن اشتدت بين رئيسي الجهازين، وهي خلافات بعيدة عن الهدف المرسوم، سببها التعارض في أسلوب التطبيق الفعلي للعمليات.
فهاريل رئيس الموساد كان منسقاً بارعاً، ومحللاً فذاً، بينما كان عاميت عبقرياً في الاستراتيجية العسكرية. لذلك اصطدمت رؤيتيهما الخاصة لمعالجة الحدث، وبدا كلاهما مختلفاً في معايير الدراسة والتخطيط.
ففي حين انشغال عاميت بفهرسة قوائم الطيارين العرب، وتحليل البيانات والمعلومات التي يتوصل اليها أولاً بأول، آثر هاريل أن يجوب عواصم أوروبا بحثاً عن طفل يهودي مختطف ، وينام داخل سيارته يرتجف من البرد، معرضاً أمنه الشخصي للخطر، وهو يقود فريقاً من أكفأ رجاله دون أدنى أمل، مهملاً أموراً أعظم أهمية تتطلب وجوده في إسرائيل، الى أن تفجرت قضية العلماء الألمان في مصر، عندما ألقى القبض في سويسرا على عميلين للموساد هددا ابنة عالم ألماني يعمل في القاهرة، وكانت فضيحة مدوية، بسببها تهددت العلاقة الدبلوماسية بين بون وتل أبيب، ووقعت الكارثة على رأس هاريل كالصاعقة.
وفي 26 مارس 1963، كان عاميت في مهمة خاصة، عندما طُلب منه أن يتصل على وجه السرعة برئيس الوزراء، وبعد ثلاث ساعات وصل عاميت لمكتب بن جوريون في كيريا بتل أبيب، فصافحه ببشاشة وأطلعه على استقالة هاريل وبموافقته عليها، ودون أن يسأله عن رأيه فاجأه بقوله:
"أنت رئيس الموساد المقبل، وسوف تكون مسؤولاً فقط عن التجسس في الخارج. أما مكافحة التجسس في الداخل فمن مسؤولية الشين بيت .
لم يكن مائير عاميت يصدق ما يسمعه، إذ ألجمته الدهشة ولم يعلق سوى بهمهمة غير مفهومة، ثم تمالك زمام نفسه أخيراً، وتعهد لرئيس الوزراء بأنه سيقوم على مهام بأمانة وإخلاص، وسيولي موضوع الطائرة الميج 21 أهمية خاصة وزائدة من أجل اقتنائها في أسرع وقت.
كان عاميت أول رئيس للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، يتولى رئاسة جهاز الموساد، لذلك فقد استبشر به بن جوريون خيراً، وتوقع أن يتحسن آداء الموساد على يديه، تعززه القدرة على التنسيق نتيجة خبرته، ودوره المزدوج في الموساد وأمان.
هذا أيضاً ما توقعه كبار رجال المخابرات والجيش. بيد أن الأمر لم يكن سهلاً تماماً أمام آميت، فهو أول رجل من خارج الموساد يتولى رئاستها، خاصة، وقد جاء بعد أيسير هاريل، الذي مكث أكثر من ربع قرن يجمع الموساد والشين بيت بين أصابعه، حتى أطلق عليه "بطريك المجتمع السري".
وفي مقر الموساد، لم يكن استقبال عاميت مطمئناً، فقد كان ما يزال يرتدي زيه العسكري الذي يعتز به، وفوجئ بهاريل بالمكتب يجمع أوراقه، فتصافحا في فتور، ثم خرج هاريل مكتئباً، بينما انهمرت دموع سكرتيراته الثلاثة. وواجه عاميت مأزرق الاستقالات الجماعية لأنصار هاريل، مستهلاً عمله في جو مشحون بالتوتر، والمرارة، ولكنه نشط في حماس في فتح ملف الميج 21، يملؤه إصرار عميق على إنجاز مهمته. . !!
خائن بالصدفة
كان مائير عاميت مؤمناً بتسلسل القيادة العسكرية، فإذا ما سقط قائد في معركة أو رحل فإنه يستبدل على الفور. ومن هذا المفهوم، وجه ضربة عنيفة لأنصار هاريل الذين أظهروا سخطهم، ودفع بدماء حديدية داخل شرايين الجهاز السري، وطار الى أوروبا للتنسيق مع رجاله هناك.
وبينما كان بباريس، استقال فجأة رئيس الوزراء ديفيد بن جوريون، وتولى ليفي أشكول الذي كان وزيراً للمالية مكانه. وأبدى عاميت تخوفه للتغيرات التي حدثت، لكنه رأى في رئيس الوزراء الجديد رجلاً محباً لأعمال المخابرات، ولأنه يفهم الأمور المالية فقد خصص ميزانية أكبر للموساد، ومكّن عاميت بذلك من استحداث الكثير من معداته وأدواته، ومن الإنفاق باطمئنان على معامل البحوث الفنية، للارتفاع بمستوى التقنية في الجهاز، مستعيناً بالكفاءات من رجاله في "أمان" وضمهم الى الموساد، وبالوحدة "131" – ذراع العمليات المثلى لأمان – فضمن تنظيم هيكل الموساد بأسلوب مثالي جديد، استعداداً للمرحلة الحاسمة المقبلة، التي يتأهب لها في دهاء.
كان أيضاً بحاجة الى مكان أوسع.. لذلك نقل عاميت مقر الموساد الى مبنى حديث في وسط تل أبيب، واستعان بأجهزة كمبيوتر حديثة لتخزين المعلومات وتسهيل استدعائها، وعني بجمع المعلومات العسكرية والسياسية والاقتصادية عن الدول العربية، مستفيداً من طابور طويل من الخبراء في تحليلها، وبذل جهوداً غير طبيعية في البحث عن المتميزين من ذوي الكفاءات والمهارات، ليس في الجيش الإسرائيلي فحسب، بل في الأكاديميات، والجامعات، والمؤسسات، وفي عالم الفن والتجارة والصحافة، فأرسى بذلك الكثير من المبادئ، التي أسبغت على الموساد صفة الأداء الدقيق المنظم، وساعدت على أن تعمل شتى الأقسام بتخطيط علمي متقن.
وأمام رغبة القيادة السياسية، وإلحاح قائد سلاح الطيران، عيزرا وايزمان، في الحصول على الميج 21، وكانت وهي أيضاً رغبة القيادة السياسية في أمريكا، لم يدخر عاميت جهداً في إطلاع عملاء الموساد في كل من مصر والعراق وسوريا، وحثهم على ضرورة البحث عن طيار عربي لتجنيده.
وبعد مرور أقل من عام على تولي عاميت أمر الموساد، وفي انتظار تحقيق المعجزة، حدثت مفاجأة غريبة لم تخطر ببال.
ففي عام 1964، هرب الطيار المصري المختل عباس محمود حلمي الى إسرائيل، بواسطة طائرة تدريب سوفييتية قديمة من طراز (ياك 15) ذات مقعدين.
وبرغم خيبة الأمل التي أصابت الإسرائيليين بسبب نوع الطائرة، إلا أن الطيار المشوش العقل استقبل بحفاوة بالغة في إسرائيل، واستغل حادث هروبه (2) أسوأ استغلال في التشهير بالنظام في مصر، فقد ادعوا أن عباس حلمي هرب احتجاجاً على تدخل مصر في اليمن، وضرب القوات الملكية هناك بالغازات السامة، وبالأسلحة الغير مشروعة دولياً، مما أثر على أعصابه وعلى إيمانه بالقومية العربية، وبالعروبة.
أخضع عباس حلمي لاستجواب دقيق، وسئل مئات الأسئلة، ولم يكن بمقدوره ادعاء الجهل بأشياء كثيرة تتعلق بأدق التفاصيل عن الميج 21، فقد كان أحد طياريها، وأدرك بعد فوات الأوان، أنه ارتكب جريمة الخيانة العظمى في حق وطنه، لذا، فقد كان عليه أن يستغل معلومات العسكرية للحصول على الأمن والحماية أولاً، ولتحقيق أكبر عائد مادي ثانياً، بما يكفل له حياة مستقرة في وطنه الجديد.
لقد كانت لدى رجال الموساد شكوك حول العملية برمتها، وكبر لديهم هاجس تحسبوا له كثيراً، وهو أن المخابرات العسكرية المصرية ربما تقوم بخدعة كبرى، وأن إرسال عباس حلمي بطائرة عتيقة لا تساوي شيئاً، لعبة مهارية خارقة من المصريين، لتسريب معلومات مغلوطة عن الميج 21، تربك بها حساباتهم ومعلوماتهم "الغير يقينية" عن بعض أسرار الطائرة، ونقاط تميزها.
لذلك . . أعيد سؤال عباس حلمي ذات الأسئلة مرات ومرات، وحيرتهم كثيراً إجاباته الدقيقة التي لم تكن تتغير، ومع إصراره العنيد على أنه لا يقول إلا الصدق، عرضوه على جهاز الكشف عن الكذب.
وبينما الأسلاك الملتصقة برأسه وصدره تتصل بأجهزة رسم المخ، وقياس الذبذبات والنبض، كان ستة من الخبراء الفنيين دفعة واحدة يعكفون على استجوابه، فلا يكاد الواحد منهم يلقى بسؤاله حتى ينطلق آخر بسؤال جديد، وهكذا دواليك لمدة ساعتين ونصف الساعة، حتى تفككت قواه، وبكى بحرقة في يأس طالباً منهم أن يعيدوه الى مصر، فإعدامه هناك أرحم من العذاب الذي يلاقيه عندهم.
وما كان لهم أن يعيدوه ثانية الى مصر، وما كان لهم أيضاً أن يتيقنوا من صدقه مائة بالمائة، فبرغم الرسوم الكهرومغناطيسية للجهاز الأمريكي الصنع، والتي أثبتت أنه لا يكذب، قال بعضهم إن الطيار المصري ربما أعد إعداداً محكماً لتلك المهمة، وأنه قد دُرب عليها عشرات المرات قبل أن يبعثوا به اليهم.
لقد كانت دائرة الشكوك داخل الموساد تضيق وتتسع، ومع ذلك، فقد اعتبر عاميت فرار الطيار المصري ثروة هائلة، ستدفع ربما بأحدهم من طياري الميج 21 الى تقليده، والهرب بطائرته الأسطورية لإسرائيل وعلى هذا ترك مصير الطيار المذعور الى أن يقول الأمريكيين رأيهم النهائي.
وحينما تلقت الـ C.I.A. تقريراً وافياً بما تم التوصل اليه، حتى اتصل رئيس المخابرات المركزية (1) بعاميت، يطلب منه مساعدة فريق من الفنيين، سيبعث به الى تل أبيب لاستجواب الطيار المصري، واستبيان صدقه من عدمه.
كانت الـ C.I.A. هي الأخرى، تحمل قدراً كبيراً من الشكوك تجاه الحدث، وتعلقت بأذهان رجالها صور الخداع التي مورست بأساليب تمويهية خارقة أيام الحرب العالمية الثانية، وأيضاً التطور الشاسع لجهاز الاستخبارات السوفييتي، والذي قد يكون وراء العملية كلها، لأسباب استراتيجية بحتة، لإحكام إحدى العمليات المخابراتية مع نشوب الحرب الباردة بين الدولتين العظميين.
ومن مطار اللد في تل أبيب، اتجه فريق الفنيين الأمريكي الى مقر الموساد الجديد، حيث العشرات من خبرائها انعزلوا عن العالم المحيط بهم، وعكفوا على دراسة وتحليل كل كلمة تفوه بها عباس حلمي، ومراجعة قياسات جهاز كشف الكذب من جديد.
هكذا جيء بالطيار المصري فصافحه الأمريكان بود، وأوصلوا رأسه وصدره مرة ثانية بجهاز حديث استقدموه معهم، كان بحجم حقيبة السفر، وذو قياسات تحليلية أفضل. وسألوه مباشرة:
– أي نوع آخر من الطائرات طرت بها بخلاف الميج 21 . . ؟
أجاب دون تردد:
– السوخوي . . السوخوي الاعتراضية SU-9، والسوخوي SU-7B ذات المقعدين.
سُئل:
– ما الفرق بينهما طولاً وعرضاً. . ؟
أجاب:
– لا فرق في الطول بينهما فطول كلاهما 17 متراً، وأقصى عرض للأولى 8 متر، والثانية 9 متر، والجناح مسحوب للخلف.
سُئل:
– ما تسليح السوخوي SU-9 من الصواريخ. . ؟
أجاب:
– عادة صواريخ ANAB جو / جو، التي توجه رادرياً وبالأشعة دون الحمراء . . !!
سُئل:
– بما تحلل تساوي مساحة الدرع الواقي من انفجار الطلقات على جانبي جسم الطائرتين. . ؟
أجاب:
– السؤال به خطأ، ففي السوخوي SU-7B التي أنتجت مؤخراً زيادة في مساحة الدرع الواقي بجوار المدفع "وهذا يدل على أن المدفع المركب بها، إما أن تكون سرعة الطلقة عند فوهة الماسورة عالية، أو أن معدل كثافة النيران مرتفع جداً".
سُئل:
– كم فرملة هوائية في كل طائرة. . ؟
أجاب:
– فرملتان في SU-7B وأربعة فرامل في الطائرة SU-9 في أزواج على جانبي مؤخرة الجسم.
سُئل:
– ارسم شكلاً لعدادات الطائرة السوخوي SU-9 مبيناً عدادا سرعة الانهيار بدون قلابات، وعداد معدل التسلق على مستوى سطح البحر.
وبعدما رسم أشكالاً مختلفة لعدادات الطائرة، وأذرع التشغيل، طلب منه أن يرسم الأشكال نفسها الخاصة بالميج 21، وتوضيح عدادات التحميل، وأذرع القنابل والصواريخ والمدافع، ومبيّنات الأجزاء الهيدروليكية، والرادار وخواصه التكتيكية والفنية، وهوائي الرادار وكيفية تلاشي الإعاقة، وزاوية تشغيله يدوياً وهيدروليكياً، وعمله في التفتيش والمسح الواسع، والمسح الضيق في نطاق 45 درجة، وكذا شاشة المرسل النبضي ومبينات الاستعداد للهجوم، ومقدمات القذف الصاروخي والتشغيل.
وبتفصيل فني شديد طلب منه أيضاً رسومات توضيحية لمفاتيح المناورة الحادة، والاشتباكات الجوية والقصف جو / جو، وجو / أرض، ووضع الاقتراب الدقيق والتتبع، وتقنيات الشاشات الملاحية الرادارية والتليفزيونية، ورادار قياس الارتفاعات ووصف المبين، ولوحة البيان بأقسامها العشرة العلوية والسفلية، وشاشة الخطر.
وجاءوا به في صندوق
هكذا عُصر الطيار المصري عصراً بواسطة خبراء الطيران في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد ستة ساعات تقريباً أنهوا استجوابهم، وأكدوا للإسرائيليين أنه من المستحيل أن يكون مدسوساً عليهم، فهو طيار ماهر جداً، وحاصل على دورات تدريبية عديدة في موسكو، ولا يمكن أن يضحي المصريون بطيار في خبرته، من أجل عملية مخابراتية خداعية.
وبإخضاع عباس محمود حلمي للتحليل النفسي بواسطة متخصصون، وجد أنه أصيب بصدمة عصبية حادة ، انهارت لها أعصابه وبلغت مرحلة الخور Asthenia، نتيجة انحدار Decline مقاومته وإرادته، أوصلت به الى حالة مرضية عقلية – يمكن علاجها – تسمى علمياً "تبدلات الطبع" Alterations in charator، وهي حالة تدفع المريض الى الاكتئاب والإهمال في العمل، وعدم الاهتمام بأسرته أو مظهره، وقد يرتكب سرقات خفيفة أو يستعرض نفسه.
. . بيد أن قصة هروب الطيار المصري الى إسرائيل، أشارت اليها في حينها بعض وسائل الإعلام العربية، المنحازة لإسرائيل، على أنها عملية مخابراتية بارعة، خططت لها الموساد في واحدة من أروع عملياتها، التي دفعت بها الى نهايتها. ورُوِّجت أقاويل شتى عن كفاءة المخابرات الإسرائيلية، التي تطول عملياتها عمق النسيج العربي، وتخترق إجراءاته الأمنية الصارمة.
ورد مسؤول مخابراتي إسرائيلي على تلك الأقاويل بالنفي القاطع، مؤكداً أن هروب عباس حلمي كان لسبب أيديولوجي بحت لا دخل فيه لإسرائيل، وأضاف معلقاً بأن الحكومات العربية تروج لشعارات قومية كاذبة، لا يصدقها عقلاء، لأن لا وجود لها على أرض الواقع، وأن إسرائيل هي واحة الديموقراطية في المنطقة، وأبوابها مفتوحة لكل إنسان حر شريف، يسعى الى حياة مطمئنة تفيض بالأمن والرخاء.
وقال المسؤول الإسرائيلي أيضاً، أن الطيار المصري والمئات غيره من المواطنين العرب، الذين اختاروا اللجوء لإسرائيل، يعيشون بين أهليهم في وطنهم الجديد في دعة واطمئنان، وبرغم كون إسرائيل دولة صغيرة المساحة، إلا أن سكانها، وهم ينتمون الى خلفيات عرقية ودينية وثقافية واجتماعية متباينة، ذوي التزام خلاق في إعطاء زخم ديناميكي لاستمرار تطور المجتمع، وفقاً لمبادئ الصهيونية وهي الحركة القومية للشعب اليهودي.
وعلق مسؤول بوزارة الخارجية قائلاً:
إنه منذ حققت إسرائيل الاستقلال السياسي، توافدت على البلاد جماعات كبيرة من البشر، مما أدى الى تغيير التركيبة الاجتماعية الإسرائيلية ونسيجها، وكانت النتيجة أن تبلورت تركيبة جديدة، هي بمثابة مزيج من القيم، والأسس الاجتماعية لتكون الدولة التي واجهت مشاكل أمنية معقدة، نجمت عن إصرار الجانب العربي على رفض الاعتراف بإسرائيل.
ومع ذلك . . فنحن نرحب بكل من يلجأ الينا من إخواننا العرب، للانضمام الى نسيج المجتمع الإسرائيلي، الذي يحترم الأديان ويساوي بينها.
أما في القاهرة، فلم يعلق الجهاز الإعلامي المصري على الحدث علنياً، بينما التزم رئيس المخابرات العامة – صلاح نصر – الصمت.
هذا الصمت كان يحمل كل دلالات الترقب للانقضاض والانتقام، ويخفي وراءه أشرس معركة سرية، تعد بحق من أروع أعمال البطولات الخارقة لمخابراتنا، عندما خطط صلاح نصر ورجاله لاستعادة الطيار الهارب، وكانت الأوامر واضحة وحاسمة: لا بد من اختطاف عباس حلمي ومحاكمته في القاهرة، مهما تكلف الأمر . . (!!) إنها رغبة عليا وواجب وطني، ومعركة.
وهذا ما حدث بالفعل بعد ذلك بقليل، إذ جيء به في صندوق من الأرجنتين ، حيث تم تعقبه من إسرائيل حتى هناك، بالرغم من العمليات التجميلية التي أجراها له الإسرائيليون لتبديل ملامحه، والدروس الأمنية في الإخفاء والتمويه لتحصينه ضد الوقوع في خطأ يؤدي الى كشفه، بالإضافة الى الهوية الجديدة التي تخفى وراءها. .وكانت عملية اختطافه من القارة البعيدة لطمة صاعقة لأجهزة مخابرات إسرائيل.
كيف تم ذلك. . ؟ هذه هي المعجزة العبقرية لرجال مخابراتنا العربية الذين يعملون صامتين في مبناهم المنيف، تحطيهم السرية، ولا تفرحهم الضجة الإعلامية لبطولاتهم، فهم لا يفكرون سوى بأمن مصر، وعزتها. . !!