الخميس ١٨ آذار (مارس) ٢٠٢١

الفرق بين فقه اللغة، علم اللغة، الفيلولوجيا

صفاء إداومحمد

شكلت مصطلحات فقه اللغة، علم اللغة والفيلولوجيا تضاربا واختلافا في المواقف والآراء، فأصبح من العسير تحديد الفروق الدقيقة بين هذه المفاهيم، لأن جل مباحثها متداخلة لدى طائفة من العلماء في الشرق والغرب، قديما وحديثا، حتى أضحى بعض الباحثين لا يميزون بينها واعتبروها مصطلحات تندرج تحت مفهوم واحد، ولعل من أهم هؤلاء الباحثين نجد: علي عبد الواحد وافي ومحمد مبارك إضافة إلى صبحي الصالح وابن فارس، حيث اتبعوا مذهب التسوية بين المصطلحات، لأنهم لم يتفقوا على مدلولها بصورة علمية دقيقة وإنما اعتمدوا على معانيها العامة، وهذا غير صحيح، فلا يجوز لنا الخلط بين مصطلح فقه اللغة وعلم اللغة والفيلولوجيا، فكل مصطلح قد نشأ في بيئة لغوية تختلف عن الأخرى وبمنهجية مختلفة ولكل مصطلح منها حقله الدلالي وله هويته و مناهج درسه. والفرق بينهم يبدأ من مفهوم المصطلحات وانتقالا إلى بعض الخصائص التي تميزها عن غيرها، ففقه اللغة لغة هو فهم اللغة والفطنة لها وإدراكها والإحاطة بها، فنقول فَقِهَ الرجل فقاهة إذا صار فَقِيْهًا وفَقِهَ أي فَهِمَ فِقْهًا كما قال الله تعالى:

فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا،ويعني اصطلاحا ذلك العلم الذي يبحث في اللغة العربية من حيث نشأتها وتطورها ولهجاتها وأصواتها ودلالات ألفاظها وقواعد نحوها وصرفها واشتقاقها وأصول مفرداتها والبحث في العلاقات التي تربط هذه الظواهر بعضها ببعض وتربطها بغيرها من الظواهر، أو التي تربط اللغة العربية أو ظاهرة منها، بما عداها من فصيلة اللغات السامية. إضافة إلى أنها تعد بمثابة الفهم الصحيح والدقيق للغة مع دراسة المستويات الصوتية والصرفية وتطورها والبحث في المعجمات والفهارس عن المعاني والاشتقاقات والترادف وعلوم البلاغة، وفي هذا الصدد نستحضر قول الدكتور رمضان عبد الثواب] تطلق فقه اللغة عندنا الآن على العلم الذي يحاول الكشف عن أسرار اللغة والوقوف على القوانين التي تسير عليها في حياتها ومعرفة سر تطورها ودراسة ظواهرها المختلفة دراسة تاريخية من جانب ووصفية من جانب آخر]. لقد ظهر مع ابن فارس في القرن الرابع هجري في كتابه "الصاحبي في فقه اللغة ومسائلها وسنن العربية في كلامها"، وبهذا يكون الأقدم من الناحية الزمنية. تعتبر ميادين فقه اللغة أشمل وأوسع وغايتها في النهاية هي دراسة الأدب والحضارة والبحث في الحياة العقلية بكافة وجوهها، ومن جميع جوانبها، لهذا فإن فقهاء اللغة صبوا جل اهتمامهم لتقسيم اللغات ووضع مقارنة بينها، إضافة لشرح العديد من النصوص القديمة وصياغتها بهدف معرفة ما تحويه من عادات وتقاليد وعقائد ومضامين لغوية وحضارية، وهنا يتبين لنا أن فقه اللغة هو تلك المساحة الشاسعة الممتدة بين علم اللغة من جهة وبين كافة الدراسات من جهة أخرى، إلى جانب هذا لم يتصف فقه اللغة بكونه علم، وهو يدرس اللغة كوسيلة وليس كغاية في ذاتها، فضلا عن أن فقه اللغة بالأساس هو تاريخي مقارن يسعى لاكتشاف عناصر التشابه بين لغة وأخرى وملاحظة التغيرات التي تطرأ على اللغة عبر الزمن ومقارنة التغيرات التاريخية بين التغيرات المتشابهة، ويضم كل الدراسات اللغوية التي تبحث في نشأة اللغة الإنسانية، واحتكاك اللغات المختلفة بعضها ببعض، ونشأة اللغة الفصحى واللهجات، وكذلك تبحث في أصوات اللغة ودلالة الألفاظ وبنيتها، وهنا نستحضر اتفاق كل من ابن فارس والثعالبي في أن موضوع فقه اللغة هو معرفة الألفاظ العربية ودلالتها وتصنيف هذه الألفاظ في موضوعات، أما فيما يخص علم اللغة فهو لغة الفهم والمعرفة، والعلم نقيض الجهل ونقول عَلِمْتُ الشَيْءَ:

أَعْلَمُهُ عِلْمًا: عَرَفْتُه. اصطلاحا: يسمى linguistics، ويطلق عليه (علم اللغة العام) general linguistics، دخل الجامعات العربية حديثا، وتعالج فيه عادة قضايا اللغة مجردة من الارتباط بأي لغة من اللغات، فاللغة التي يبحث فيها هذا العلم ليست هي العربية أو الإنجليزية أو الألمانية، وهنا يقول محمد السعران في كتابه "علم اللغة مقدمة للقارئ العربي": (اللغة التي يدرسها علم اللغة ليست الفرنسية أو الإنجليزية أو العربية ليست لغة معينة من اللغات إنما هي اللغة التي تظهر وتتحقق في أشكال لغات كثيرة ولهجات متعددة وصور مختلفة من صور الكلام الإنساني)أي أنها هي اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها وليس كوسيلة بل بنية متراكبة يصعب تجزئتها ويدرسها دراسة موضوعية وبوصفها ظاهرة إنسانية، حيث يقول الباحث دوسوسير [علم اللغة الصحيح والوحيد هو اللغة في حد ذاتها ومن أجل ذاتها]، وبالتالي فإنه يركز على اللغة نفسها وتركيباتها وتحليلها ووصفها باعتبارها هي ميدانه الرئيسي، ولقد ارتبط ظهوره بالعالم دي سوسير في القرن التاسع عشر للهجرة، ويختلف تعريف علم اللغة عند طائفتي القدامى والمحدثين، فالأولى لا يتجاوز عندهم دراسة الألفاظ المصنفة في موضوعات ومدلول مفردات الكلم وبيان الموضوعات اللغوية الجزئية، أما الثانية فتعتبره العلم الذي يدرس اللغة دراسة شاملة لاستخراج قوانينها الخاصة بها سواء ذلك في أصواتها وألفاظها أم مفرداتها ومعانيها أم تراكيبها وأساليبها. ويهدف علم اللغة إلى عدم الوقوع في الخطأ أثناء عملية فهم المعاني، والوقوف على الكلمات العربية المفهومة، حيث يثم الاستفادة منه في الإحاطة بطلاقة الجمل والعبارات وجزالتها حتى نتمكن من التفنن في الكلام ونتمكن من توضيح وإيصال المعاني بصورتها البليغة والفصيحة. اتصف علم اللغة منذ نشأته بكونه علما SCIENCE وكذلك اتصف بالاستقلالية وهذا مظهر من مظاهر علميته. علم اللغة تركيبي شكلي بحيث يركز على اللغة من ناحية التركيب والشكل فقط ولا يعنيه أي مجال آخر من مجالات اللغة وما يدور حولها.

وأيضا علم اللغة علم وصفي تقريري يقوم على الوصف والمعاينة ثم الاختبار والتصنيف والتبويب والاستقراء والتحليل الاحصائي وصولا إلى استنباط القوانين التي تنظم الظاهرة ثم يقوم بتعليلها ليكون منها نظرية لسانية عامة قابلة للتطور. وهو يدرس جميع اللغات خاصة اللغات الحديثة الحية والعلاقة بينها في إطار المناهج: الوصفية ـ التاريخية ـ المقارنة. ويدرس اللغة بطريقة علمية مع المحافظة على النظر في التاريخ اللغوي، ووضع الفرضيات ودراستها وإثباتها أو نفيها للتوصل إلى نظريات علمية تخدم اللغة. وبالرجوع إلى قول دوسوسير الذي يتوافق مع ما قلناه، حين قال وهكذا نرى أن علم اللغة يستقي مادته من النظر في اللغات على اختلافها وهو يحاول أن يصل إلى فهم الحقائق والخصائص التي تجمع اللغات الإنسانية كلها في إطار واحد، أما بالنسبة للفيلولوجيا فيرى صبحي الصالح نقلا عن معجم روبيرRobert الفرنسي أن لفظ (philology) يتألف من كلمتين من أصل إغريقي هما (philos) وتعني المحب و(logo) تعني اللغة أو الكلام، والفيلولوجيا هي دراسة النصوص القديمة بلغات قديمة من حيث القاعدة ومعاني المفردات وما يتصل بها من شروح ونقد وإشارات تاريخية بغرض التعرف على ثقافتها وحضارتها وهدفه من هذه الدراسة هو إعادة تشكيل وتجديد اللغات المنقرضة أو الميتة ولا سيما بعد اكتشاف اللغة السنسكريتية، أيضا تتخذ اللغة المدروسة وسيلة إلى غاية أخرى هي الحضارة. وكان عنصر القدم من أهم العناصر التي يتكون منها معنى الفيلولوجيا لأنها ظهرت مبكرا في المدرسة الإسكندرية في مرحلة ما بين القرنين الثاني قبل الميلاد والقرن الثاني للميلاد، يرجع مصطلح الفيلولوجيا إلى سنة 1960 ويعود استعماله إلى الحركة العلمية التي بدأت على يد فردريك اوجست وولف. وهي علم تاريخي يهدف إلى دراسة الحضارات الغابرة من خلال الوثائق المكتوبة التي تركها السلف للخلف، وهي بذلك تسمح لنا بفهم المصطلحات القديمة، وتعمد إلى دراسة النصوص المكتوبة، فهي علم مساعد للتاريخ كما تعمد إلى نقد النصوص ودراسة روايتها. تدل الفيلولوجيا عند الغرب على الاعتناء بالنصوص القديمة دراسة ونقدا وتحقيقا وضبطا ابتداء بالنصوص اليونانية واللاتينية فالشرقية العبرية – الفارسية ثم العربية. كما تعنى بقضايا الكلام وتتعامل مع لغات ميتة وقديمة ومع المفردات المعزولة إضافة إلى أنها تدرس اللغة وتستهدف شيئا غير لغوي، فهي مجرد وسيلة وليست غاية في ذاتها وتهتم بالآثار والتحف والنقوش. لفهم الفيلولوجيا لابد لنا من تقديم مثال يوضح التحليل الفيلولوجي وهو كالآتي:

"جهنم": يقول تحليلها الفيلولوجي أن هذه الكلمة ليست عربية خالصة بل مأخوذة من اللغة العبرية وهي تتكون من (ج – هنم) فالأولى تعني واد قرب مدينة الوركاء وأما الثانية فتعني قبيلة كانت تسكن مدينة الوركاء وهذه معلومات جغرافية، وقصة هذه الكلمة التي تفيد العذاب هي أن هناك رجل حديث العهد بالزواج جرت العادة أن يقدم قربانا للإلاه (مولوخ) يكون أول مولود لهما، فيأتي إل الواد ويرمي المولود بعد إشعال النار بالحجارة حتى تحمر.

بعد أن قدمنا الفرق بين فقه اللغة وعلم اللغة والفيلولوجيا الذي نلاحظ أنه دقيق جدا يصعب تحديده، سننتقل إلى تقديم بعض آراء الدارسين الذين يفرقون بين هذه المصطلحات واتبعوا مذهب التفرقة>الفصل<:

يصر الأنطاكي على استعمال الفيلولوجيا دخيلة ويحسم الموضوع بتفرقة قاطعة قائلا إن الفيلولوجيا هي غير اللانغويستيك أو فقه اللغة، لأنها تعالج مشكلات تتصل باللسانين الاغريقي واللاتيني مما لا وجود له في تاريخ الدراسات اللغوية عندنا.

أما عبد الراجحي في كتابه "فقه اللغة في الكتب العربية" بعدما قدم الحديث في حدود "فقه اللغة وعلم اللغة يقول بعد ذلك: ومهما يكن من أمر فإن تطور علم اللغة في هذا القرن على اختلاف مناهجه ومدارسه، قد ساعد على التميز الواضح بينه وبين فقه اللغة وهذا ما نرمي إليه في هذا الفصل.

بينما يرفض عبد الصبور شاهين في كتابه "في علم اللغة العام" (1974) التسوية بين فقه اللغة وعلم اللغة منبها على ضرورة التفريق بينهما.

في حين أن محمود فهمي حجازي في كتابه "مدخل إلى علم اللغة" يفرق بين علم اللغة والفيلولوجيا، فيقول: يختلف علم اللغة بمعناه الحديث عن علم الفيلولوجيا.

ويخلص عبده الراجحي من فصله الأول: [فقه اللغة وعلم اللغة] من كتابه " فقه اللغة في الكتب العربية" إلى القول: وغني عن البيان الآن أن هناك فرقا واضحيين بين موضوعي العلمين ومنهجيهما في درس اللغة وهذا التفريق ينبغي أن يكون واضحا في بحث المنهج لدى العرب
ولقد لخص الدكتور كاصد الزيدي قوله في: وبهذا يتبين الفارق بين فقه اللغة وعلم اللغة من حيث أن الأول يعنى بلغة من اللغات فيدرس تأريخها وأصواتها ودراسة ألفاظها، على حين يعنى علم اللغة بلغات كافة، لا بلغة معينة واحدة، فيتناولها بالدرس من حيث تاريخها وقوانينها وظواهرها العامة المشتركة دون الوقوف عند خاصية كل واحد منها على انفراد.

خلاصة القول، فإن صعوبة تحديد الفرق بين هذه المصطلحات قد خلقت جدلا في الدرس اللغوي لدى الباحثين سواء العرب أو الغرب، الشيء أدى إلى تعدد واختلاف الآراء و التصورات نظرا لتعدد زوايا نظر الدارسين إلى كل من فقه اللغة وعلم اللغة والفيلولوجيا، فالأول خصصه أهله(العرب) لدراسة لغتهم العربية وما تمتلكه من خصوصيات، ويدرسها كوسيلة وليس كغاية وهو الأقدم من الناحية الزمنية، أما الثاني فيهتم بدراسة جميع أنظمة اللغة في العالم، قد ظهر حديثا في القرن التاسع عشر للهجرة في حين أن الفيلولوجيا تهتم بدراسة اللغات الاغريقية واللاتينية وتتعامل مع النصوص القديمة الميتة المكتوبة كما تهتم بالآثار والنقوش والتحف وتفتقر للتقنين والتقعيد.

صفاء إداومحمد

مشاركة منتدى

  • جميل جدا واصلي👏👏👏👏❤

  • شكرا جزيلا على المعلومات المهمة.

  • المقال يحتاج مراجعة وإعادة نظر، وعلى سبيل المثال أوهمت عبارة الكاتب في مفتتح المقال أن هناك خلطا في التفريق بين المصطلحات الثلاثة المدروسة عند كل من ابن فارس والثعالبي، في حين لم يرد عند أي منهما مصطلح (الفيلولوجيا)، كما لم يذكر بشكل دقيق ما قاله الدكتور محمود فهمي حجازي في التفرقة بين المصطلحات، فضلا عن تكرار عبارة(القرن التاسع عشر الهجري) مرتين ولا يخفى أن المقصود بالطبع (الميلادي)، باختصار المقال يحتاج إلى مراجعة
    وشكرا

  • المقال أنجزته في أول سنة في الجامعة وطبعا من الممكن ان يكون فيه اخطاء نحوية او معرفية على الرغم من أنني راجعته عدة مرات، لكن الأهم أنني أنجزته بدافع أن تعم الفائدة وأن يستفيد الكل من هذه المعلومات
    وشكرا

  • شكرا هذا من ما يسري على قلبي السرور طالبة في السنة الأولى من الجامعة إنه لإبداع لغوي حقا

  • الحمد لله..... مقال مفيد حقا،، يبرز فيه الجهد المبذول في إيضاح الفرق بين المصطلحات الثلاث، ومدى تنوع المراجع في تناول هذا البحث المشكل
    وحقيقة مع هذا الإيضاح والإثراء في توضيح الفروق...... يبقى التداخل وأوجه التوافق بينهم هي السمة الغالبة... ولكم جزيل الشكر والامتنان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى