الاثنين ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٣

القراطيس

قصة : صلاح معاطي

برجان شاهقان اتخذا مكانهما فوق عربة الترمس بينما وقف صاحبها يضع عليها المزيد من القراطيس الورقية غير مبال بميل أحد البرجين ، فليسقط البرج أو البرجين معا، لا يهم .

كنت أندفع في اتجاه عربة الترمس ولسان حالي يتساءل في تعجب.. ما جدوى صنع أبراج القراطيس هذه، أهي من قبيل الزينة والديكور، أم أنها بمثابة منارات يهتدي الناس إليها لابتياع الترمس، أم أن بائع الترمس يمني نفسه بملء كل هذه القراطيس بالترمس قبل نهاية اليوم، وهو يعلم جيدا أنه مهما باع فسيعود بعربته وفوقها تل الترمس وبرجا القراطيس.

عندما اقتربت من العربة لفت انتباهي عودها الممشوق في انسيابية ويداها المثبتتان بخصرها في دلال وتيه وقد ترنحت على ثغرها الرطب قطرة ماء راحت تتحرك ببطء في إغراء، أهي لاعبة باليه محترفة، أم إحدى راقصات الفنون الشعبية عن لها الرقص بين البرجين، أقصد بين القراطيس.

لم أستطع الاحتمال، أسرعت نحوها في تلهف، أمسكت جيدها الملفوف بيدي رفعتها إلى أعلى، وضعت ثغرها فوق ثغري ورحت أروي ظمأى من زلالها الرطيب وعيني تراقب بائع الترمس وهو يدير الورق بين يديه صانعا قراطيس أخرى يضعها بحركة آلية فوق البرجين، يبدو أنه تحول إلى آلة لصنع القراطيس. حدثته وأنا أمسح بكمي قطرات من الماء سقطت على ذقني:
  بشلن ترمس.
بحركة آلية أخرى كبش بيده بعض الترمس ملأ به القرطاس دفعه لي ثم عاد إلى هوايته الوحيدة " صنع القراطيس "..
ما ألذ طعم الترمس خاصة لو من داخل القرطاس تلتقط واحدة تفركها برفق بين سبابتك وإبهامك تخلع عنها ثوبها الشفاف لتتعرى عن فلقتين ناعمتين تدفعها داخل فمك ليتسلمها لسانك يلوكها للحظات متلهيا بها ثم تمضغها بأسنانك لتذوب في ثوان وتتبعها بأخرى لتلقى نفس المصير، فلأكل الترمس طقوس ألفناها منذ زمن بعيد بداية من تجرع ماء القلة إلى همسات حانية بين حبيبين يقبض كل منهما على قرطاس وتتجمع تحت قدميهما أثواب الترمس.
أما أنا فهوايتي القديمة بعد الانتهاء من أكل الترمس هي قراءة القرطاس، فأحيانا يحمل لي مقالا قديما لكاتب كبير، أو ورقة منزوعة من كتاب الكيمياء لتلميذ خائب أخطأ في كتابة رموز معادلة كيميائية، وأحيانا رسالة غرام من مراهق كتبت بخط ركيك، أو إذن استلام بضاعة لإحدى الشركات، أو ورقة حساب تظهر عجزا كبيرا في ميزانية موظف خلال شهر فائت.
انتهيت من التهام الترمس ورحت أفك القرطاس وبدأت أقرأ ما فيه.. جرت عيني على ورقة القرطاس رحت أقلبها بين يدي غير مصدق، دماء ساخنة تندفع بقوة إلى رأسي، الأرض تميد بي الدنيا تدور وتظلم من حولي، الحروف تداخلت فيما بينها فلم أعد أرى شيئا. ما هذا المكتوب في القرطاس ؟
أعلى الورقة كان شعار هيئة الأمم المتحدة وأسفل الشعار كان أحد القرارات الدولية الخطيرة.. أجل، هذا هو القرار وها هي بنوده العديدة التي لم يعمل بها إلى الآن. حتى صار حبرا على ورق..
يا إلهي، كيف وقع هذا المستند الخطير في يد بائع الترمس ؟ ترى هل هو من قبيل الصدفة ؟ أم أن هناك مستندات أخرى ؟
مازال الرجل يلف القراطيس ويضعها فوق البرجين اللذين ارتفعا كثيرا حتى مالا معا، خشيت أن أمد يدي لأخطف قرطاسا فيسقط البرجين ويتهمني بإسقاطها.
لحسن الحظ وجدت عددا من القراطيس ملقاة حولي كان أصحابها قد فرغوا من أكل الترمس ورحلوا، مددت يدي إلى أحد القراطيس.. فتحته بسرعة لتجري عيني على فحواه " هذا هو القرار 242 العتيد ، وهذا شقيقه القرار 338 وذاك 425 ، وهنا يوجد القرار 1402 وهناك القرار 1441 ..
رحت أنظر إلى بائع الترمس بحنق .. كيف وصلت إليه هذه المستندات الخطيرة التي تحمل بين سطورها مصائر أمم بأسرها، هل صفقة تمت بينه وبين أحد كبار المسئولين في الهيئة الدولية لطمس معالم الحقيقة وضياع حقوق البلدان، يأخذ هو المستندات ويحولها إلى قراطيس من أجل حفنة من الترمس، وقد يكون هو ذاته المسئول الكبير متنكرا في زي بائع ترمس، يا لنا من مغفلين سفهاء قراطيس تزروها الرياح.
لقد انكشفت اللعبة يا بائع الترمس واتضحت المؤامرة، مازال يضع القراطيس فوق البرجين، البرجان يميلان بشدة، انهار البرجان وتبعثرت القراطيس في كل مكان، بعض القراطيس طارت في الهواء، بائع الترمس غير عابئ بما يدور حوله مازال يضع القراطيس في الهواء ظنا منه أن البرجين مازالا في مكانها..
هرعت إلى القراطيس الطائرة أحاول إنقاذها.. هذا تقرير ينص على عدم امتلاك الدول لأسلحة الدمار الشامل، وتقرير يدعو إلى ضرورة احترام حقوق الإنسان، وآخر يعطي الدول التي ترزح تحت الاحتلال حق الدفاع عن نفسها، وثالث حول معاملة أسرى الحروب.
لمحت قرطاسا مخنوقا أسفل عجلة العربة حاولت إخراجه بصعوبة مراعيا ألا يتمزق فتحته لأجده عبارة عن خارطة.. أجل هي خارطة الطريق التي صدعت رؤوسنا وبلبلت أفكارنا وشتتت سبلنا وأضلتنا عن الطريق. ما كدت أمسكها حتى طارت من يدي جريت خلفها أخذت اللعينة تزوغ مني تذهب يمينا ثم يسارا وأخيرا استقرت أسفل صبي يبول، بعد انصراف الصبي نظرت إليها بتقزز فوجدت معالم الخارطة قد تغيرت تماما ولم تعد كما كانت..
عدت إلى مكاني ثانية وأنا أبكي، فضياع هذه القراطيس تعني ضياع البشرية بأسرها ضياع القيم وحقوق الإنسان ضياع العهود والمواثيق التي بين الشر وتحول العالم إلى غابة كبيرة، لابد من إنقاذ هذه القراطيس وإعادة صياغتها من جديد سأقوم أنا بهذه المهمة بصفتي عضوا في الهيئة الدولية أحمل وظيفة إنسان..
جلست على الرصيف أجمع ما أجده من القراطيس أنفض عنها التراب وأزيل عنها الأوحال وأظهر من الحروف ما طمسه الزمن وأعيد صياغة ما تلف، لكنني أضفت بندا جديدا جعلته على رأس القائمة:
" لابد من أن يكون لدينا ذاكرة حتى لا نتحول جميعا إلى قراطيس "

قصة : صلاح معاطي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى