الجمعة ١٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
الشاعر مفلح طبعوني:

القصيدة المختونة لا تغريني

سيمون عيلوطي

من الأسماء التي أخذت تنشر الشعر في نفس الفترة الزمنية التي بدأتُ فيها أنا أيضا أكتب وأنشر الشعر، كان الشاعر مفلح طبعوني، وقد لفت انتباهي بشكل خاص حين قام بنشر عدد من قصائده التي اشتدَّ عوده الشعري فيها، كونها تحمل في صورها الشعرية الكثير من الملامح الفلسطينية والعربية، إن هذه الملامح الشعرية كانت متجانسة إلى حد بعيد مع تلك المرحلة الواقعة ما بعد حرب الـ 67 وما بين الفترة التي كانت تؤشر أن حربا بين إسرائيل والدول العربية ستقوم لا محالة. وفي هذا الجو السياسي الساخن كان يكتب الشعر، وينشط في المجال السياسي والثقافي من خلال الحزب الشيوعي والشبيبة الشيوعية في الناصرة. ورغم المشترك فيما بيننا مثل انتمائنا إلى نفس المدينة، وحبنا إلى نفس "جنون" الشعر، وإلى الهم الوطني والسياسي الواحد، والأصدقاء المشتركين، غير أننا لم نلتق قبل ذلك المساء الربيعي عام 1972 إلا حين التقينا صدفة في مركز المدينة وجها لوجه، فما كان مني إلا أن بادرته بالقول: عرفتك من صورتك في جريدة الإتحاد والجديد.. صافحني بحرارة وقال: وأنا أعرفك من نفس المصدر.. من صورتك بالإتحاد والجديد.. وسألني إن كنتُ قد قرأتُ ديوان "أنشودة المطر" للشاعر بدر شاكر السياب، وقبل أن أجيبه قال: السياب يدهشني بقصائده، ولم أتمكن بعد من الحصول على "أنشودة المطر".. وكم فرح حين وعدته بإحضار هذا الديوان الشعري له على أن يرده بعد أسبوع.. وفي صباح اليوم التالي وضعت الديوان بين يديه وافترقنا.. هو ذهب للشعر.. وانا كعادتي في تلك الفترة ذهبت إلى "الضياع".

ولا أبالغ إذا قلت بأنني شعرت أن قطعة من نفسي غادرتني مع "انشودة المطر" الذي لا يكاد يمر يوم دون أن أعود إليه، وحين لم يعد الديوان كما وعد.. رأيت من المناسب أن أذهب إلى بيته للقائه واستعادة الديوان.. هناك التقيت بامرأة بعمرأمي.. بادرتها بالسؤال: هنا بيت مفلح؟ أجابتني بعفوية مغمَّّّّسة بنفس الحزن الذي كان باديا على وجهها، وبصوت يدل على ارتباك.. آه يا حبيبي، هون بيت مفلح.. وتابعت.. بإيش عايزو؟ أجبتها بارتباك يماثل ارتباكها: يا خالتي إم مفلح: جيت أزوره.. ثم توقف لساني عن متابعة الكلام.. ربما خجلاً.. فاقتربت مني وقالتلي: أجوا على وجه الصبح أولاد الحرام.. نبَّشوا البيت وأخذوه!!

والحقيقة أنني لم أفاجأ بالخبر، وخاصة في تلك الفترة التي أعقبت اغتصاب الجيش الإسرائيلي للأراضي العربية، ومن الطبيعي أن نقوم بصفتنا جزءا من الشعب الفلسطيني والأمة العربية، بالتصدي للاحتلال الصهيوني وممارساته العدوانية بحقنا وبحق أهلنا، وبالمقابل كانت السلطات الإسرائيلية وأذرعها تقوم بملاحقة وقمع واعتقال الذين هبوا بالتصدي لهم، خصوصا أصحاب الكلمة أمثال شاعرنا الطبعوني الذي فرضت عليه الإقامة الجبرية وإثبات الوجود في مركز شرطة الناصرة، والقيام باعتقاله ما بين الفترة والأخرى، إن جميع هذه الممارسات لم ترهبه ولم تمنعه عن مواصلة الطريق التي آمن بها، بل نراه يتصدى لها في كثير من القصائد التي كتبها أثناء الإعتقال. ومنها قصيدة (العش) التي يقول فيها:

أرتاح في زنزانتي
لأنني أرسم تحت سقفها
عينيك شعلتين
أنظم كل ليلة عنك قصيدتين
واحدة أنقشها هنا على الجدار
والثانية
أبعثها مع طائر الفنار
........

ومتابعةً لما تقدم استضاف "الموقد الثقافي" الشاعر مفلح طبعوني، وأجرى معه الحوار التالي:

* تكتب قصيدة النثر، وكتبت أيضا قصيدة التفعيلة، ولك قصائد عمودية أخرى، أين مفلح طبعوني يرى نفسه أكثر؟

 لم أطرح على نفسي مثل هذا السؤال، فأنا حين أكتب القصيدة لا أقرر سلفا الطريقة التي أعبر بها عن مكنونات ما أريد.. ولن أدعي أن القصيدة هي التي تكتبني وليس العكس، ولا خبرة لي في فن العرض خاصة اذا كان الأمر على صلة بالإبداع.. واذا كنت تهدف إلى التقليل من فنية قصيدة النثر فأقول: إن اعتبار قصيدة النثر من النواحي الفنية دون القصائد المختلفة عنها، ما هو إلا هبوط بالجدال الذي يقود حتما الى جفاف المنطق، ولا أظن أن" أبولو" رب الأغنيات ومبدع الموسيقى والمعبود من قبل الشعراء، يعادي قصيدة النثر بعصبة، وفي زمن الحداثة، وما بعد الحداثة لا يمكننا إلا ادراك الهدف بحواسنا وعدساتنا التي تلتقط الصور الشعرية. يمرغون يا محاوري سمعة قصيدة النثر لإبراز شرف القصيدة التفعيلة، تماما مثلما حدث مع قصيدة التفعيلة عند ظهورها لتثبيت القصيدة العمودية التقليدية.

*في الوقت الذي تكتب فيه نراك تنشط في العمل السياسي والثقافي، السؤال هو: هل أثرت السياسة على القصيدة أم العكس؟

 الجيل الذي ولد مع النكبة والذي جاء بطبيعة الحال مع جيل النكبة لم يتمكن من الانفلات من قيود السياسة التي فرضت عليه، ومن حاول ذلك فقد فشل، نحن تعلمنا من جيل النكبة الكثير.. حفظنا قصائد شعرائه، وحاورنا القصة القصيرة، وعندما ظهرت رواياتنا حملناها في القلب.. ناهيك عن المقالة السياسية التي كانت غذاءنا الروحي والفكري. هزيمة الـ 67 لم تتمكن منَّا رغم طعنها لأحلامنا.. واصلنا الطريق وتواصلنا مع التراث بكثافة أكثر. كل هذا جعل الأدب والشعر يتداخلان بالسياسة، وفي رأيي فإن هذا التداخل والتمازج أفاد المرحلة الخاصة التي مرَّ بها الأدب الفلسطيني. غير أنني مع ذلك أحاول في شعري أن أرتقي بالمضمون السياسي إلى المستوى الفني المطلوب.

* بعد نكبة الـ 48 برزت في شعرنا الفلسطيني أسماء شعرية أثبتت حضورها محليا وعربيا وكانوا بطبيعة الحال الامتداد الشعري لشعراء ما قبل النكبة، هل تعتقد أن هذه الأسماء استطاعت أن تشكِّل امتدادا لما قبلها؟

 يمكن إدراج جوابي على هذا السؤال تحت باب السهل الممتنع إذا صح التعبير، ذلك بأن الإدعاء الذي يزعمه البعض أن شعرنا الفلسطيني توقف عند الجيل الذي عاصر النكبة، فيه الكثير من التجني على أبناء جيلنا، لأن ذلك يتناقض مع استمرارية الحياة وحركتها الدائمة، فلكل جيل خصوصية تجربته في التعبير الإبداعي الذي يميزه، مع الاعتراف بأننا شربنا من عنبهم الخمرة الجيدة.

* كيف تنظر إلى حركة شعرنا الفلسطيني.. وكيف تنظر إلى نفس الحركة في العالم العربي؟

 إذا كان المقصود بالحركة الشعرية، المدرسة الشعرية، فأنا أرى بأن شعرنا الفلسطيني ينتمي لأكثر من مدرسة، فالقصيدة الفلسطينية التي تكتب في عين الحلوة في لبنان مثلاً، تختلف عن القصيدة الفلسطينية التي تكتب في لندن، إن الظرف السياسي والإقتصادي والإجتماعي الذي يميز طبيعة البلد الذي يعيش فيه شعبنا تفرض عليه أسلوب تعبير يتفاعل مع بيئته التي تختلف بالضورة عن بيئة البلد الآخر. أما نحن الباقون فوق تراب أرضنا وما نتج عن هذه الخصوصية تتميَّّز بأسلوب شعري جعلت القارئ يميز بين هذه القصيدة الفلسطينية النابعة من تراب أرض فلسطين عن غيرها من القصائد.

* يُقيّمُ شعرنا الفلسطيني تقييميا مضمونيا أكثر من تقييمه من الناحية الفنية، كيف ترى؟

 تقييم القصائد الشعرية منذ الجاهلية لغاية اليوم، لم ينحز إلى المضمون بمنأىً عن الفنية، فالشعر أولاً فن، لكن الدراسات،وهذا نقص في مرحلة معينة، وكان غالبا ما يسير على هذا التقييم، ولا أرى عيبا في ذلك، وإذا عدنا إلى المراحل المختلفة من تاريخ شعرنا العربي، نجد أن المضمون كان يتغلَّب على الجانب الفني، وشعرنا الفلسطيني لا يشذ عن هذه القاعدة، خصوصا وأن قضيته لا مثيل لها في العالم، نكبة تربك الإبداع.. وما قبل النكبة محاصرة هذا الإبداع.. وما بعد النكبة تصادر أدواتها الفنية.. إحتلال لا مثيل له يفرض نفسه على جميع أنواع الإبداع.. يطلق الرصاص على القصائد.. يطارد القصة.. يعتقل الرواية.. ويمزق المقالة.. ويغتال اللوحة.. إزاء هذا الواقع العجيب، تريدنا أن نكتب فنا من أجل الفن؟!!، أنا لست من أتباع هذه المقولة، لأن قضيتنا هاجس يؤرقنا، المضون لا يكفي وحده.

*هناك رأي يزعم أن قصيدة النثر لم تثبت نفسها إلا عند محمد الماغوط.. كيف ترد؟

** هل يعقل أن تتمحور قصيدة النثر بشخص أو شاعر واحد، أم أننا بطبيعتنا نميل إلى الإنحياز الفردي نتيجة لضعف عندنا، فللفرد عندنا بخلاف الشعوب الأخرى، دور مركزي، هذا الكلام لا يقلل من قيمة الماغوط الذي لم يخن قصيدته تماما مثلما لم يخنها أنسي الحاج وأمجد ناصر وطه محمد علي.

* ما رأيك بتراجع اللغة العربية أمام لغة الآخر وخصوصا العبرية؟

 رغم الممارسات التي يمارسها الآخر بحق لغتنا وتراثنا إلا أننا تمكنا من الحفاظ على لغتنا لأنها منفتحة"ومن تكلم لغتنا فهو منا"، هذا لا ينفي تكثيف دورنا بالعمل على إنقاذ اللغة العربية من الغرق في كلمات وسطور ومعاني اللغات الأخرى، خصوصا العبرية.. كيف نطالب من لا يعرف لغته الام باتقانها، في حين أن مؤسساتنا العربية بدلاً من أن تعمل على استعمال العربية نراها هي نفسها تغرق في استعمال العديد من الكلمات العبرية والأجنبية، وبدون الإهتمام الجدي بالأمر فلن تتمكن لغتنا الحبيبة في هذه البلاد من استعادة عافيتها.

* الحديث عن اللغة يقودنا الى الحديث عن الترات.. أين نحن منه؟

 نحن لم نعش بعيدا عن التراث.. ولم تبعدنا النظريات الغربية والايديولوجيات السمينة عن تراثنا ومكنوناته.. نحن لم نقدس ما جاء من الغرب، بل تحاورنا معه واستفدنا منه من أجل الحفاظ على تراثنا وامتدادنا التاريخي.. تواصلنا مع موروثنا الثقافي الإيجابي، ولم يتمكن انفتاحنا على الثقافات الغربية من إبعادنا عن موروثنا.

* ألا زلت تعتقد أن الشعر ما زال ديوان العرب؟

 الشعر العربي ما زال يتربع في صدر الديوان، لأنه الموروث الثقافي الأوسع والأفضل.

* وماذا عن النقد عندنا؟

 النقد الأدبي عندنا بأغلبه مثل المغني الذي يغني ما تطلبه أم العريس ومن حولها، وإن كان البعض يغني من رأسه.

*شاركت في أكثر من مهرجان أدبي وشعري، هل لاحظت من خلال مشاركاتك أن المتلقي ما زال يستقبل الشعر كما كان في السابق؟

 الأزمة قائمة، وأسبابها لا تعد ولا تحصى.. وقد يكون أحد هذه الأسباب الشعر والشعراء، بتواضع أشعر أن المتلقي يتفاعل مع نصوصي الشعرية ربما يعود ذلك إلى طريقتي في الإلقاء.. أو ربما إلى التواصل الذي يحدث في هذه اللحظة معه.. أو لأن قصيدتي غير مختونة، مما يدفعها إلى التواصل مع المتلقي بدفء وإنسانية.

* شاعرنا مفلح، إذا طلبت منك أن تختار قصيدة، ماذا تختار؟

 إلى محمود درويش: راهب البروة.... (مقطع من قصيدة)

يا صاحبَ القلقِ
الرغبةِ والحلم
يا خلايا الانتظارْ
طينُ الخضرمةِ
ما بينَ الكانَ وبينَ الإذا
- أورثناكَ الضياعَ
- أورثْتَنَا الحقيقةْ
- أورثناكَ النكبةَ
- أورثْتَنَا حيفا
- أورثناكَ المأساةَ
- أورثْتَنَا الينابيعْ
- الصحراءَ
- العطاءْ
- اورثناكَ الهزيمةَ
- أورثْتَنَا العبورَ وقصائدَ الأجيالْ
- أعطيناكَ المنفى
- أعطيتنا الوطنْ
- الأسى
- الفرحْ
- أعطيناكَ الخيبةَ
- أعطيتنا الانتصارْ
- أعطيناكَ الجفافَ
- أعطيتنا الكوثرْ.
سيمون عيلوطي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى