الأحد ٦ نيسان (أبريل) ٢٠٢٥
بقلم إبراهيم خليل إبراهيم

القصيده التي أبكت الرصافي

كان الشاعر العراقي معروف الرصافي جالساً في دكان صديقه الكائن أمام جامع الحيدر ببغداد وبينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث وإذا بإمرأة محجبة يوحي منظرها العام بإنها فقيرة وكانت تحمل صحناً وطلبت بالاشارة من صاحبه أن يعطيها بعض المال كثمن لهذا الصحن ولكن صاحب الدكان خرج اليها وحدثها همساً فانصرفت المرأة الفقيرة فاستفسر الشاعر معروف الرصافي من صديقه عن هذه المرأة.. فقال له: إنها أرملة تعيل يتامى وهم الآن جياع وتريد أن ترهن الصحن بأربعة قروش كي تشتري لهما الخبز فما كان من الشاعر العراقي معروف الرصافي إلا أن لحق بها وأعطاها كل مافي جيبه من أموال اثني فأخذت الأرملة المال وهى في حالة تردد وحياء ثم أعطت الصحن إلى الشاعر معروف الرصافي وهى تقول: الله يرضى عليك تفضل وخذ الصحن فرفض وغادرها عائداً الى دكان صديقه وقلبه يعتصر من الألم ثم عاد إلى بيته ولم يستطع النوم ليلتها وراح يكتب والدموع تنهمر من عينيه قصيدته الأرملة المرضعة التي تعد من روائع الشعر العربي ونال درجة الدكتوارة بها طالب فرنسي في جامعة الزيتونة بتونس كما ترجمت إلى اللغتين الإنجليزية و لفرنسية والانجليزية.. وتقول كلمات القصيدة:

لَقِيتُها لَيْتَنِـي مَا كُنْتُ أَلْقَاهَـا
تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَـا
أَثْوَابُـهَا رَثَّـةٌ والرِّجْلُ حَافِيَـةٌ
وَالدَّمْعُ تَذْرِفُهُ في الخَدِّ عَيْنَاهَـا
بَكَتْ مِنَ الفَقْرِ فَاحْمَرَّتْ مَدَامِعُهَا
وَاصْفَرَّ كَالوَرْسِ مِنْ جُوعٍ مُحَيَّاهَـا
مَاتَ الذي كَانَ يَحْمِيهَا وَيُسْعِدُهَا
فَالدَّهْرُ مِنْ بَعْدِهِ بِالفَقْرِ أَشْقَاهَـا
المَوْتُ أَفْجَعَهَـا وَالفَقْرُ أَوْجَعَهَا
وَالهَمُّ أَنْحَلَهَا وَالغَمُّ أَضْنَاهَـا
فَمَنْظَرُ الحُزْنِ مَشْهُودٌ بِمَنْظَرِهَـا
وَالبُؤْسُ مَرْآهُ مَقْرُونٌ بِمَرْآهَـا
كَرُّ الجَدِيدَيْنِ قَدْ أَبْلَى عَبَاءَتَهَـا
فَانْشَقَّ أَسْفَلُهَا وَانْشَقَّ أَعْلاَهَـا
وَمَزَّقَ الدَّهْرُ ، وَيْلَ الدَّهْرِ، مِئْزَرَهَا
حَتَّى بَدَا مِنْ شُقُوقِ الثَّوْبِ جَنْبَاهَـا
تَمْشِي بِأَطْمَارِهَا وَالبَرْدُ يَلْسَعُهَـا
كَأَنَّهُ عَقْرَبٌ شَالَـتْ زُبَانَاهَـا
حَتَّى غَدَا جِسْمُهَا بِالبَرْدِ مُرْتَجِفَاً
كَالغُصْنِ في الرِّيحِ وَاصْطَكَّتْ ثَنَايَاهَا
تَمْشِي وَتَحْمِلُ بِاليُسْرَى وَلِيدَتَهَا
حَمْلاً عَلَى الصَّدْرِ مَدْعُومَاً بِيُمْنَاهَـا
قَدْ قَمَّطَتْهَا بِأَهْـدَامٍ مُمَزَّقَـةٍ
في العَيْنِ مَنْشَرُهَا سَمْجٌ وَمَطْوَاهَـا
مَا أَنْسَ لا أنْسَ أَنِّي كُنْتُ أَسْمَعُهَا
تَشْكُو إِلَى رَبِّهَا أوْصَابَ دُنْيَاهَـا
تَقُولُ يَا رَبِّ، لا تَتْرُكْ بِلاَ لَبَنٍ
هَذِي الرَّضِيعَةَ وَارْحَمْنِي وَإيَاهَـا
مَا تَصْنَعُ الأُمُّ في تَرْبِيبِ طِفْلَتِهَا
إِنْ مَسَّهَا الضُّرُّ حَتَّى جَفَّ ثَدْيَاهَـا
يَا رَبِّ مَا حِيلَتِي فِيهَا وَقَدْ ذَبُلَتْ
كَزَهْرَةِ الرَّوْضِ فَقْدُ الغَيْثِ أَظْمَاهَـا
مَا بَالُهَا وَهْى طُولَ اللَّيْلِ بَاكِيَةٌ
وَالأُمُّ سَاهِرَةٌ تَبْكِي لِمَبْكَاهَـا
يَكَادُ يَنْقَدُّ قَلْبِي حِينَ أَنْظُرُهَـا
تَبْكِي وَتَفْتَحُ لِي مِنْ جُوعِهَا فَاهَـا
وَيْلُمِّهَا طِفْلَـةً بَاتَـتْ مُرَوَّعَـةً
وَبِتُّ مِنْ حَوْلِهَا في اللَّيْلِ أَرْعَاهَـا
تَبْكِي لِتَشْكُوَ مِنْ دَاءٍ أَلَمَّ بِهَـا
وَلَسْتُ أَفْهَمُ مِنْهَا كُنْهَ شَكْوَاهَـا
قَدْ فَاتَهَا النُّطْقُ كَالعَجْمَاءِ، أَرْحَمُهَـا
وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيَّ السُّقْمِ آذَاهَـا
وَيْحَ ابْنَتِي إِنَّ رَيْبَ الدَّهْرِ رَوَّعَهـا
بِالفَقْرِ وَاليُتْمِ ، آهَـاً مِنْهُمَا آهَـا
كَانَتْ مُصِيبَتُهَا بِالفَقْرِ وَاحَـدَةً
وَمَـوْتُ وَالِدِهَـا بِاليُتْمِ ثَنَّاهَـا
هَذَا الذي في طَرِيقِي كُنْتُ أَسْمَعُـهُ
مِنْهَا فَأَثَّرَ في نَفْسِي وَأَشْجَاهَـا
حَتَّى دَنَوْتُ إلَيْهَـا وَهْيَ مَاشِيَـةٌ
وَأَدْمُعِي أَوْسَعَتْ في الخَدِّ مَجْرَاهَـا
وَقُلْتُ: يَا أُخْتُ مَهْلاً إِنَّنِي رَجُلٌ
أُشَارِكُ النَّاسَ طُرَّاً في بَلاَيَاهَـا
سَمِعْتُ يَا أُخْتُ شَكْوَى تَهْمِسِينَ بِهَا
في قَالَةٍ أَوْجَعَتْ قَلْبِي بِفَحْوَاهَـا
هَلْ تَسْمَحُ الأُخْتُ لِي أَنِّي أُشَاطِرُهَا
؟ مَا في يَدِي الآنَ أَسْتَرْضِي بِـهِ اللهَ
ثُمَّ اجْتَذَبْتُ لَهَا مِنْ جَيْبِ مِلْحَفَتِي
دَرَاهِمَاً كُنْـتُ أَسْتَبْقِي بَقَايَاهَـا
وَقُلْتُ يَا أُخْتُ أَرْجُو مِنْكِ تَكْرِمَتِي
بِأَخْذِهَـا دُونَ مَا مَنٍّ تَغَشَّاهَـا
فَأَرْسَلَتْ نَظْرَةً رَعْشَـاءَ رَاجِفَـةً
تَرْمِي السِّهَامَ وَقَلْبِي مِنْ رَمَايَاهَـا
وَأَخْرَجَتْ زَفَرَاتٍ مِنْ جَوَانِحِهَـا
كَالنَّارِ تَصْعَدُ مِنْ أَعْمَاقِ أَحْشَاهَـا
وَأَجْهَشَتْ ثُمَّ قَالَتْ وَهْيَ بَاكِيَـةٌ
وَاهَاً لِمِثْلِكَ مِنْ ذِي رِقَّةٍ وَاهَـا
لَوْ عَمَّ في النَّاسِ حِسٌّ مِثْلُ حِسِّكَ لِي
مَا تَاهَ في فَلَوَاتِ الفَقْرِ مَنْ تَاهَـا
أَوْ كَانَ في النَّاسِ إِنْصَافٌ وَمَرْحَمَةٌ
لَمْ تَشْكُ أَرْمَلَةٌ ضَنْكَاً بِدُنْيَاهَـا
هَذِي حِكَايَةُ حَالٍ جِئْتُ أَذْكُرُهَا
وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَى الأَحْرَارَ فَحْوَاهَـا
أَوْلَى الأَنَامِ بِعَطْفِ النَّاسِ أَرْمَلَـةٌ
وَأَشْرَفُ النَّاسِ مَنْ بِالمَالِ وَاسَاهَـا

يذكر أن الشاعر معروف الرصافي من مواليد عام 1873 في حى الرصافة ببغداد العاصمة العراقية ونشأ فيها حيث أكمل دراسته في الكتاتيب ثم دخل المدرسة العسكرية الإبتدائية فتركها وأنتقل إلى الدراسة في المدراس الدينية ودرس على علماء بغداد الأعلام عبد الوهاب النائب وقاسم القيسي وقاسم البياتي وعباس حلمي القصاب ثم أتصل بالشيخ العلامة محمود شكري الألوسي ولازمهُ 12 سنة وتخرج عليهِ وكان يرتدي العمامة وزي العلماء وسماهُ شيخهُ الألوسي معروف الرصافي ليكون في الصلاح والشهرة والسمعة الحسنة مقابلاً لمعروف الكرخي وعين معروف الرصافي معلماً في مدرسة الراشدية التي أنشأها الشيخ عبد الوهاب النائب شمال الأعظمية ثم نقل مدرساً للأدب العربي في الإعدادية ببغداد أيام الوالي نامق باشا الصغير عام 1902م وظل فيها حتى إعلان الدستور عام 1908م ثم سافر إلى اسطنبول ثم عين مدرساً لمادة اللغة العربية في الكلية الشاهانية ومحرراً لجريدة سبيل الرشاد عام 1909م وأنتخب عضواً في مجلس المبعوثان عام 1912م واعيد أنتخابه عام 1914م وعين مدرساً في دار المعلمين في القدس عام 1920 وعاد إلى بغداد عام 1921م ثم سافر إلى الإستانة عام 1922م وعاد إلى بغداد عام 1923م وأصدر فيها جريدة الأمل وأنتخب عضواً في مجمع اللغة العربية في دمشق عام 1923م وبعد ذلك عين مفتشاً في مديرية المعارف ببغداد عام 1924م ثم عين أستاذاً في اللغة العربية بدار المعلمين العالية عام 1927م

تميز شعر معروف الرصافي بالرصانة والحكمة والوطنية والإنسانية ويوم 16 مارس عام 1945 فاضت روحه إلى بارئها في محلة السفينة بالأعظمية وشيعت جنازته في موكب مهيب سار فيهِ الأدباء والأعيان ورجال الصحافة ودفن في مقبرة الخيزران وبني لهُ تمثالاً برونزيا

في الساحة المقابلة لجسر الشهداء عند التقاطع مع شارع الرشيد المشهور قرب سوق السراي والمدرسة المستنصرية الأثرية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى