الاثنين ١١ نيسان (أبريل) ٢٠٢٢
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

الكاتب يتكلَّم والشاعر يغنِّي!

إنَّ الأمور تسير في الشِّعر «كما لو كان الشاعر يسعَى إلى تقوية أسباب الخلط، خلافًا للمقتضيات العاديَّة للتواصل». صحيحٌ أنَّ «الشاعر يستعمل اللُّغة لأنَّه يريد التواصل، أي يريد أن يُفهَم، ولكنه يريد أن يُفهَم بطريقةٍ ما.

إنَّه يهدف إلى إثارة شكلٍ خاصٍّ من الفهم عند المتلقِّي، يختلف عن الفهمِ التحليليِّ الواضح الذي تثيره الرسالة العاديَّة»(1). إنَّ الشِّعر يرضَى أن يضع نفسه في منزلةٍ بين الفهم وعَدَمه.(2) إنَّه يعني «ما يجعلنا نُحِسُّ شيئًا، فيما النثر يعني ما يجعلنا نفهم شيئًا. فكاتب النثر يتكلَّم، أمَّا الشاعر فيغنِّي»(3). لذا فإنَّ استخدامَ الشِّعرِ اللُّغةَ يخالف استخدامَ العِلم إيَّاها؛ فالشاعر لا يختار ألفاظه اختيارًا منطقيًّا، قاصدًا معنًى واحدًا، وإنَّما على العكس من ذلك.

إنَّ الشِّعر منطقٌ فوق المنطق، وعقلٌ خارج العقل والواقع المألوف. وهذا وعيٌ نقديٌّ لم يكن لدَى مُعظم نُقَّادِنا العَرَب قديمًا؛ الذين لم يكونوا يفرِّقون بين الشِّعر وغير الشِّعر إلَّا بالأوزان والقوافي. ولولا ذلك لما مَرَدوا على تخطئة الشُّعراء؛ كما فعل بعضهم مع بيت (المرقِّش الأصغر)، مثلًا:

صحا قَلْـبُـهُ عـنها، على أنَّ ذِكْـرَةً ::: إذا خَطَرَتْ دارتْ بِهِ الأرضُ قائمًا الذي اعترض عليه متحذلقوهم، ممَّن يحكِّمون منطق العقل في كلام الشُّعراء، قائلين: «وكيف صحا عنها مَن إذا ذُكِرت له دارت به الأرض؟!» قالوا: «والجيِّد في السُّلُوِّ قول (أوس):

صَحا قَـلبُـهُ عَن سُكْرِهِ وتأمَّلا :::
وكانَ بِذِكْرَى أُمِّ عَمْرٍ مُـوَكَّلا

فقال: «وكان بذِكْرَى أُمِّ عَمْرٍ مُـوَكَّلا»!»(4) هكذا السُّلُوُّ، إذن، وإلَّا فلا! فالجيِّد لدَى نقَّادنا القدامى أن يُحدِّد الشاعر كلامه تحديدًا قاطعًا: «سلوٌّ» يعني سُلوًّا! لا مجال لديهم لأوساط المواقف، ولا لتعدُّد الأوجه في الاحتمالات والدلالات! وهذا عِيٌّ عجيبٌ في تذوُّق الأساليب البلاغيَّة، حتى في غير الشِّعر. وإنَّما أراد المرقِّش- لو كانوا يقرؤون- المبالغةَ في تصوير تعلُّقه بمحبوبته، حتى إنَّ صَحْوَه عنها ليس بصَحْوٍ على الحقيقة؛ وحتى إنَّ ذِكراها، بالرغم من الصَّحْو، تجعل الأرض به تميد. فكيف بحاله قبل أن يصحو؟!

قالوا: «ومثل قول (المرقِّش) في الخطأ قول (امرئ القيس):

أَغَـرَّكِ مِـنِّي أَنَّ حُبَّـكِ قـاتِـلي؟! ::: وأَنَّكِ مَهْما تَأْمُري القَلْبَ يَفْعَلِ؟!»

عادِّين هذا «من فساد المعنى»، معلِّلين حُكمهم بالقول: «إذا لم تَغْرُرها هذه الحالُ منه، فما الذي يغرُّها؟!» ثمَّ استدركوا، لكي يقفلوا الباب بالتِّرباس على الشِّعر والشُّعراء ومن لفَّ لفَّهم: «وليس للمُحتجِّ عنه أن يقول: إنَّما عنى بالقَتْل هاهنا التَّبريح، فإنَّ الذي يلزمُه من الهُجْنَة مع ذِكر القَتْل يلزمه أيضًا مع ذِكْر التَّبريح.»(5) والحقُّ أنَّ هذا النقد هو الذي يُعَدُّ من فساد المعنى، وفساد الشِّعر، بل من التبريح بهما وقتلهما. وإنَّه ليتعذَّر على السَّويِّ أن يفهم كيف كان يُفَكِّر هؤلاء؟! وإنَّما كان الشاعر يتساءل تساؤلًا تعجُّبيًّا من حالِه مع صاحبته (فاطمة)، لا تساؤلًا تحقيقيًّا منطقيًّا. وإذا كان غرور المحبوب محبوبًا عادةً، وأوامره مطاعة، فإنَّ سؤال الشاعر هنا هو على سبيل التقرير أيضًا. لسان حاله: «معكِ حقٌّ في أن تَغْتَرِّي!» لكنه ما كان له أن يأتي بالمعنى على هذا النحو البارد، وإلَّا لما كان شِعرًا، بل جاء به في تساؤلٍ تعجُّبيٍّ تقريريٍّ معًا. بل لو أراد أولئك البلاغيُّون الاتِّساق مع مَنْطَقَتهم الشِّعر، لتسنَّى لهم ذلك، ولكن بتفسير النصِّ دون اجتزاء؛ بإيراد البيت السابق- أو اللاحق، على اختلاف الروايات في ترتيب الأبيات- وهو:

وإنْ تَكُ قد ساءَتْكِ مِنِّيْ خَلِيْقَةٌ ::: فَسُلِّي ثِيابِـي مِـنْ ثِيابِـكِ تَنْـسُلِ مُؤْذِنًا إيَّاها بالبَين الاختياريِّ والنهائيِّ من طَرَفها، وبأن تَسُلَّ ثيابَه من ثيابها، بكلِّ يُسْر. ولماذا يكلِّفها هي بأن تَسُلَّ ثيابه، ولا يسلُّها هو، فلم يقل: «فَسُلِّي ثِيابَكِ مِن ثِيابِـي»؟ أ بمقتضى الوزن، لا أكثر؟ أم لأنَّه أراد القول إنَّه شخصيًّا لا يطيق سَلَّ ثيابه من ثيابها، أي لا يُطيق فراقها؟ إنَّ الشاعر الذي يَحْكُمُه الوزن والقافية ليس بشاعرٍ أصلًا! وما نرى إلَّا أنَّ الشاعر أكبر من ضرورات الوزن، وإنَّما أراد مخاطبة فاطمته بقوله: بوسعك أن تَبيني عنِّي، فلا تعودي أبدًا إلى رؤية «رُقعة وجهي»- كما يُقول الناس اليوم بالدارجة- وكفى الله العاشقين القتل وما يترتَّب عليه من غرور!

(1) كوهن، جان، (1986)، بنية اللُّغة الشِّعريَّة، ترجمة: محمَّد الولي ومحمَّد العمري، (الدار البيضاء: دار توبقال)، 76، 95.
(2) يُنظَر: م.ن، 95.
(3) Crump, Geoffrey, (1953), Speaking Poetry, (London: Methuen), 18.
(4) العسكري، أبو هلال، (1971)، كتاب الصِّناعتَين: الكتابة والشِّعر، تحقيق: علي محمَّد البجاوي، ومحمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: عيسى البابي الحلبي)، 73.
(5) م.ن، 73- 74.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى