الاثنين ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٢
في حوار مع الدكتور ناصر الدين الآسد

اللغة العربية تذبل الآن على أيدي أبنائها

يستعيد هذا الحوار مع الدكتور ناصر الدين الأسد صفحة زاهية نضرة من صفحات الأدب العربي والثقافة العربية في القرن العشرين. في هذه الصفحة نعثر على أسماء أعلام كبار كالدكتور طه حسين وعباس محمود العقاد وأحمد أمين ومحمود محمد شاكر كما نعثر على قيم وتقاليد أدبية وجامعية بعضها توارى مع الأسف من حياتنا الأدبية والجامعية الراهنة، كانت هناك "الروح الجامعية" و"التقاليد الجامعية" و"الندوات" و"الحلقات" و"المجالس الأدبية" في بيوت العلماء والأساتذة الكبار أو في مقار أعمالهم.

وكان الأساتذة يحولون تعليم التفكير، والمنهج العلمي، وتربية الذوق الأدبي والأسلوب الأدبي أكثر من تقديم مادة. وكانوا يوجهون الطلبة لتحصيل المادة في المكتبة من خلال الكتب ليقيموا صلة بينهم وبين الكتاب وبين التراث. وكان شيوخنا يعشقون الحقيقة ويبحثون عنها، كما يقول الدكتور ناصر الدين الأسد.

ولأن الدكتور ناصر الدين الأسد اهتم في بداية حياته الأكاديمية بالشعر الجاهلي اهتماماً خاصاً انطلاقاً من نشأته في البادية، بين العقبة ووادي موسى ومعان، فقد اشتمل الحوار على سؤال عن الصلة بين أطروحته عن مصادر الشعر الجاهلي وكتاب الدكتور طه حسين عن هذا الشعر، وهو الكتاب الذي سبب لطه حسين أزمة كبرى مطلع حياته بالجامعة المصرية. فهل كان كتاب ناصر الدين الأسد رداً مباشراً أو غير مباشر على كتاب طه حسين، أم كان غير ذلك؟

الدكتور ناصر الدين الأسد الذي أمضى قسماً كبيراً من حياته في الجامعة ومعنياً عناية خاصة باللغة العربية وبالحلم العربي، واللغة العربية لا تنفصل عنه، فهي من مكوناته، يرى أن أساس داء اللغة العربية اليوم هو نظام التعليم السائد في بلادنا. وعنده أن لا خصومة بين اللغة الفصيحة واللهجات العامية، فهذه الأخيرة تؤلف مستوى من مستويات العربية.
ويحاوره في هذا اللقاء الكاتب والصحفي اللبناني المعروف جهاد فاضل.

 أعرف أنكم بدأتم بالأدب الجاهلي كما بدأ الدكتور طه حسين أيضاً. فما هي أسبابكم في الاهتمام بالأدب القديم؟ هل كان ذلك رداً على كتاب الدكتور طه حسين (في الأدب الجاهلي)؟

 من الصعب إستبانة العوامل النفسية والفكرية الخفية التي تفعل فعلها في الاتجاهات الدراسية والعملية بعد ذلك، لكن لا بد من أن أجيب عن هذا السؤال لأنه يُوجه إلي دائماً. وهذه مناسبة من أجل أن أجمّع ذكريات النشأة الأولى منذ الطفولة الى مطالع الشباب، حتى أتلمس الإجابة.

أنا نشأت في بيئة كلها بادية، ولدت في العقبة، ثم تنقلت مع وادي، رحمه الله، بحكم أعماله بين العقبة ووادي موسى ومعان، هذه هي البادية الجنوبية للأردن.
تركت البادية بطلاقتها وباتساعها وبامتدادها، ورحابتها، وأيضاً ببعض أساليب معيشتها، ونمط الحياة فيها، آثاراً عميقة في نفسي. فحينما ذهبنا الى عمان وبدأنا نُدرس المعلقات، وكنا نُدرس المعلقات في تلك الفترة، في وقت مبكر، منذ الصف السابع الابتدائي. أحسست أن في المعلقات أشياء كثيرة أرجعتني الى الطفولة المبكرة بما فيها من تصوير للحياة ونمط المعيشة وذكر المطايا، بطبيعة الحال، والأخلاق السمحة التي تمتعت بها البادية، فتعلقت بالمعلقات وكانت هي وسيلتي الى التعلق بالشعر الجاهلي.

بعد ذلك، ربما في نهاية المرحلة الثانوية، اطلعت على كتاب طه حسين، رحمة الله عليه، "في الأدب الجاهلي" . وهذا حفزني أن أبحث عن الطبعة الأولى وقد بحثت عنها فعلاً، وعندي في مكتبتي الطبعة الأصلية الأولى من "في الشعر الجاهلي". حين قرأته، وجدت أنه لا بد لي في مقبل الأيام، من أن أعود الى هذا الشعر الجاهلي، وأن أقرأه قراءة دارسة متمعنة على منهج علمي سليم، لكي تستقر الصورة التي زعزعها طه حسين في نفسي. أردت أن أتلمس الاستقرار النفسي عندي، فيما يتصل بالشعر الجاهلي الذي عشته لأنه صوّر تصويراً صحيحاً للحياة في مرحلة طفولتي. فكان ذلك هو السبب الأساسي لدراساتي في هذا الشعر. فكتبت أول ما كتبت "القيان والغناء في العصر الجاهلي"، وفي هذا الكتاب تصوير للبيئة الاجتماعية، والبيئة الفنية، والبيئة الاقتصادية في بعض جوانبها في الحياة الجاهلية. ثم بعد ذلك، عكفت على كتابة "مصادر الشعر الجاهلي"، وهو بحث نقدي خارجي لأنه يتناول المصادر، وليس بحثاُ نقدياً فنياً للشعر الجاهلي. وكنت دائماً أتطلع الى أن يعينني الله، عز وجل، على أن أكمل النقد الخارجي الذي كتبت فيه في "مصادر الشعر الجاهلي" بنقدٍ فني داخلي لبعض الشعر الجاهلي، ولكني حتى الآن صرفتني الصوارف عن ذلك.

 وهل عرفتم الدكتور طه حسين الذي اهتم اهتماماً خاصاً بهذا الشعر؟

 أنا ممن أسعدني الله، عز وجل، فأتاح لي فرصة القرب من طه حسين. تلامذة طه حسين اقتصروا على الاستماع له في مدرجات الدراسة في كلية الآداب، والاستماع الى دروسه. ولكني كنت أُكثر من التردد على مجالسه. وقد كتبت في ذلك مراراً وقلت أنني كنت أتردد على مجلسه حين لا أجد لي موطئ قدم فيها، لكثرة الزحام. ثم أصبحت أتردد على مجلسه وليس فيه سوانا: هو وأنا وحدنا. لأنه في آخر حياته، كما تعلم، مرض مدة طويلة وأصبح لا يضرّ ولا ينفع، وانصرف الذين كانوا يتوافدون عليه من قبل، وهذا شأن الدنيا وشأن الناس في كل عصر. وكنت دائماً في مجلسه استمع الى ما يدور من أحاديث. كان يكرمني، رحمه الله، حتى أني حين كنت أتأخر عن بعض مجالسه، كان يطلب من فريد شحاتة الذي هو سكرتيره، أن يتصل بي ليسأل عني. فكنت أسارع الى المجيء إليه. وحينما صدر "مصادر الشعر الجاهلي" عن دار المعارف، وقبل أن يصدر، وقبل أن يُناقش، تعرض الكتاب لتردد من الأساتذة المناقشين. وتأخرت مناقشته لأن بعض الأساتذة كانوا يريدون عودة الدكتور طه حسين من رحلة الصيف التي كان يقوم بها، لكن يستأذنوه في الأمر لأنهم كانوا يخشون أن يغضب من الكتاب. وقد توهم كثيرون أن الكتاب هو رد على الدكتور طه حسين. والحقيقة أنه ليس رداً مباشراً وإنما هو عرض لما وصلت إليه من نتائج بعد مقدمات طويلة متشعبة لأصول الشعر الجاهلي ومصادره. بعد ذلك، بعض أساتذتي ألحوا على من كانوا مترددين، فناقشوني في غيابه. ثم طُبع الكتاب وعاد الدكتور طه حسين، فاتصل بي فريد شحاتة، وقال لي: "أعدّ نفسك لأني أقرأ الآن للدكتور طه حسين الكتاب، وهو يغضب كثيراً من بعض فقراته، ويقوم ويقعد".

 كنت حينذاك موظفاً صغيراً في الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، والدكتور طه حسين كان رئيساً للجنة الثقافية الدائمة لجامعة الدول العربية. وفوجئت في يوم من الأيام بباب مكتبي يُفتح ودخل فريد شحاتة يقود الدكتور طه حسين. دخل الدكتور طه حسين متجهماً وجلس وأسمعني أغلظ القول فيّ وفي فكري وفي كتابي، فلم أنبس ببنت شفة. لم أفه بكلمة واحدة، وخرج بعد ذلك كما دخل.

بعد نحو أسبوع أو ثمانية أو تسعة أيام، تلك قصة طويلة لا داعي لذكر تفصيلاتها، دخل كما دخل في المرة الأولى يقوده فريد شحاتة وجلس، قال لي: "أما زلت غاضباً؟" فقلت: أشد الغضب. فطيب خاطري وأسمعني كلمات جميلة أزالت ما في نفسي حقيقة، وأثنى علي الكتاب وعلى منهجه.

فهذا هو طه حسين، كله عاطفة بالإضافة الى العقل المتمثل فيه، يغضب بسرعة ويرضى بسرعة، شأنه شأن كثيرين من الناس، يحب الثناء والمديح، ويكره أن يُرد على آرائه، ولو كان رداً غير مباشر، كما فعلت في "مصادر الشعر الجاهلي"، وأنا دونت هذا كله في بعض الفصول التي صدرت لي بعد ذلك، وما زلت أكرر أنني أعتز بملاقاتي به.

أما أثره في الشعر الجاهلي وفي الدراسة الجامعية عامة، فقد أثبته أيضاً كتابه، وقلت إن كتابه في الشعر الجاهلي ليس فيه من العلم شيء. ولكنه كان ذا أثر كبير في العلم وفي الفكر وفي منهج البحث العلمي في الجامعات لأنه رجّ العقول وجعلها تنتبه الى أن ما كان يقال عنه إنه بحث علمي في السابق، كان هزيلاً. ولذلك، هو وضع اللبنة الأساسية في تطوير الفكر الجامعي والبحث العلمي حقيقة.

ثورات شاكر

 درستم في القاهرة وعرفتم في من عرفتم في تلك الفترة محمود شاكر الذي كانت له مواقف عنيفة من الدكتور طه حسين مردها الشعر الجاهلي والمتنبي. أذكر أن طه حسين اعتبر المتنبي في كتابه عنه لقيطاً أو ابن زنا، في حين ألحقه محمود شاكر بالأشراف إذ اعتبره نجل أحد الأئمة من آل البيت. كانت تلك الفترة فترة خصبة شهدت معارك أدبية مختلفة.

 أصدقك القول في معرفتي الداخلية العميقة لنفس الأستاذ محمود محمد شاكر رحمه الله تعالى، إنه كان يقدر الدكتور طه حسين حق قدره. كان يجلّه كثيراً، وكان يطلق لسانه فيه في أمر واحد، وهو أمر الشعر الجاهلي. ثم بعد ذلك حينما صدر (المتنبي) أطلق لسانه أيضاً فيه، وفي بلاشير المستشرق الفرنسي. الأستاذ محمود محمد شاكر من طبيعته أنه استفزازي، وأنه يحب أن يثور على الآخرين، حتى الذين يحبهم. وكم عانينا في مجلسه من ثوراته. وهي ثورات كنا نتقبلها برضى ورحابة صدر، لأنه لا يلبث بعد هذه الثورات أن يسترضي من ثار عليه. فلو نشأت علاقة مباشرة شخصية بين طه حسين، رحمه الله، ومحمود شاكر، رحمه الله، ربما كانت خففت من غلواء هذا النقد المكتوب الذي صدر عن محمود شاكر. لكن لم تنشأ هذه الصلة، ومحمود شاكر ترك الدامعة حينئذ في السنة الأولى بعد أن استمع الى محاورات الدكتور طه حسين وذهب الى المملكة العربية السعودية وقضى فيها نحو سنة. ثم عاد واعتكف في بيته للكتابة.

موضوع المتنبي، ما دمنا انتقلنا إليه، الأستاذ محمود محمد شاكر عثر على نص واحد في مخطوطة استنتج منه أن والد المتنبي هو من الأشراف، وأنه يمتّ بنسبه الى الدوحة النبوية الشريفة، فاعتمد عليه وأقام كتابه على هذا الأساس.

هذه الدراسات الأدبية، ومنه الدراسات الإنسانية عامة، ومنها الدراسات التاريخية، لا سبيل الى القطع الجازم اليقيني فيها، وإنما تتعدد فيها الآراء وتتنوع، وهي تختلف عن البحوث الطبيعية أو العلمية التطبيقية التي تجري في المختبر، لأنك تستطيع أن تتيقن من حقيقتها بإعادة التجربة. لكن الأمور التاريخية لا تستطيع إلا أن تعتمد على الروايات، وأن تمحص بقدر الإمكان هذه الروايات وأن ترجح رواية على رواية، وترتب نتائج على هذه المقدمات التي هي روايات.

من أجل هذا يبالغ كثيراً في موضوع الخلاف في الرأي بين العلماء والأدباء في مجال الدراسات الإنسانية وما ينشأ عنها من خصومات، وما كان ينبغي لها إطلاقاً أن تتحول الى هذه العداوات.

ندوات ومجالس

 هل تعتقدون أن الأبحاث والدراسات الأدبية في ذلك العصر أفضل من أبحاث ودراسات عصرنا الراهن؟

 الأبحاث هذه هي في كتب مطبوعة و بين أيدي الدارسين وقد كُتب عنها الشيء الكثير، قدحاً ومدحاً، ورُد على بعضها.
ليس من شك في أن الحياة الفكرية عامة، والأدبية خاصة، منذ نهايات الثلث الأول من القرن العشرين، ازدهرت ازدهاراً كبيراً في بلادنا العربية، وخاصة في مصر. وهذا لا ينتقص من الحياة الأدبية في لبنان أو في سوريا أو في العراق، أو في بقية البلاد العربية. لكن كانت دائماً مصر هي مجال للحركة الفكرية والأدبية الصاخبة باستمرار.

ربما بقي في الذاكرة شيء مهم في مجال الحياة الفكرية والأدبية لم يعد له الآن وجود إلا نادراً. هذه الأمور التي بقيت في الذاكرة، هي الندوات والحلقات والمجالس الأدبية في بيوت هؤلاء العلماء والأدباء والأساتذة الكبار، أو في بعض مقار أعمالهم. أقصد بمقار أعمالهم مثل ندوة لجنة التأليف والترجمة والنشر التي ما كانت تُعقد في بيت شخص من أعضائها، وإنما تُعقد في مقر اللجنة نفسها، حيث كانت تصدر مجلة "الثقافة" لأحمد أمين. وكان يحضرها أحمد أمين وفريد أبو حديد ومحمد عوض محمد ومجموعة من الأسماء اللامعة حينئذ، وهم كلهم لهم إسهامات كثيرة في الحياة الفكرية والأدبية. فهذه الندوة لم تكن تُعقد في بيت واحد منهم، وكنت دائماً أحرص على حضور ما أستطيع حضوره منها. الدكتور طه حسين تحدثنا عن مجلسه في بيته، وكيف كان يؤمه الناس من داخل مصر، وكل زائر له اتصال بالحياة الفكرية والأدبية من الخارج، كان لا بد له من أن يزور الدكتور طه حسين وأن يحضر مجلسه.

من هذه الندوات التي كُتب عنها كثيراً ندوة العقاد. حضرت بعضها لأني إما كنت طالباً في كلية الآداب في بادئ الأمر، وإما كنت بعد ذلك في الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية. فأحياناً أسافر فتفوتني بعض الندوات، أو أُشغل فلا أستطيع حضور هذه الندوة أو تلك.
ومن الندوات التي لم تُذكر كثيراً، وكان لها أثر كبير في من كان يحضرها، ندوة كامل الكيلاني وكانت تُعقد في مكتب الكيلاني حينئذ. وهذا رجل لم يوفّ حقه حقيقة. وهو رجل ظريف جداً مجلسه، ثم هو اللغوي الضليع، وكم من كلمة لغوية صححها للجالسين ما كانوا يعرفونها. وعلى فخري بأني متصل باللغة، فإنه كانت تغيب عني بعض الأشياء وكنت أستفيد لغوياً من مجلسه. بالإضافة الى الأسلوب الأدبي الذي كان يتميز به. ومع هذا، وقبله، وبعده، لا ب أن نذكر جهوده في ثقافة الطفل. وسلاسل الكتب التي أصدرها متسلسلة من النشأة الأولى للطفولة الى الشباب، متدرجاً بها. ولا أدري حقيقة لِمَ لم يُعط حقه من الدراسة ومن الذكر.

ثم ما ذكرناه قبل قليل من ندوة الأستاذ محمود شاكر، ونحن لا نسميها "ندوة" نقول "مجلس" الأستاذ محمود محمد شاكر.
كان يفتح مجلس في كل يوم دون تحديد، ويدخل من شاء مجلسه، لكني أحب أن أشير الى أنه انصرف لمدة شهرين أو ثلاثة، لم يزد على ذلك، الى عقد جلسة منظمة قرأ لنا فيها "الأصمعيات" واستفدت من تلك القراءة الشيء الكثير، لأني لم أر رجلاً يستطيع أن يغوص في أعماق الشعر الجاهلي ويكشف أسرار هذا الشعر مثله.

فكان يتلفف القصيدة المذكورة في الأصمعيات الجاهلية ثم يتتبعها في أكثر ما يستطيع أن يصل إليه من المصادر ومن المراجع، ثم بعد ذلك يعيد ترتيب الأبيات من هذه المصادر والمراجع بحس وذوق أدبيين مرهفين من أجل أن يثبت لنا أن هذا الترتيب الجديد للقصيدة هو الذي يظهر وحدة القصيدة الجاهلية، وأن القصيدة الجاهلية في حقيقتها ذات وحدة، ولكن الروايات جارت عليها، ثم المختارات التي تقتطف مقتطفات منها، فككت أوصالها، جاء الحكم على عدم وجود فنية للقصيدة الجاهلية من خلال هذه المقتطفات والمختارات والكتب المتأخرة.

داء العربية

 كان العصر عصر علماء وباحثين، خلاله نهضت اللغة العربية على الخصوص نهضة كبرى. في وقتنا الراهن هناك من يقول أن العربية في محنة شديدة، وإنها قد تصل الى ما يشبه المأزق في الوقت الذي تسجل فيه العاميات انتصارات مذهلة.

 اللغة العربية في الوقت الراهن أساس دائها، وهو داء وبيل، هو التعليم، تدني التعليم في جميع مراحله في بلادنا. واللغة إذا كانت في البوادي، كما كنا نقرأ في كتب التراث، فلا بد لها من الاكتساب. والاكتساب يكون بالتعلم. كان التعليم في بلادنا يعنى عناية كبيرة في كل الدروس التي تُقدم. وبطبيعة الحال لم تكن المعارف حينئذ بالغزارة الموجودة فيها الآن بعد ثورة المعرفة، وبعد هذه الأدوات الإلكترونية والتكنولوجية التي زادت من حصيلة المعارف ونشرتها. كان التعليم حينئذ يُعنى عناية كبيرة بالمواد التي تُدرس، وخاصة باللغة العربية. وحتى إنه يقال إن طالب الثانوية العامة حينئذ كان يعرف لغته أفضل من خريج قسم اللغة العربية في الجامعة في الوقت الحاضر. كان معلمونا في مراحل التعليم يحرصون على أن يتحدثوا بالعربية الفصيحة والسليمة. ولا تؤاخذني إذا تجنبت استعمال كلمة الفصحى، لأن الفصحى صيغة تدل على أعلى المراجع ولا أعتقد أنها موجودة إلا في كتاب الله ودون ذلك في بعض الشعر الرفيع. لكن حصبنا أن نقول "الفصيحة" أو السليمة. هذا مطلب عظيم أيضاً إذا وصلنا إليه. كانوا يحرصون جميعاً أن يتحدثوا باللغة العربية الفصيحة. فكانت هذه اللغة دائماً في الصفوف الابتدائية والوسطى والثانوية ثم في الجامعة تصافح آذاننا، نسمعها دائماً. صحيح أن لغة البيت ولغة الشارع هي مستوى آخر من مستويات اللغة، التي تُسمى اللهجة العامية، وأنا أعتبر أنها مستوى من مستويات اللغة. كما أن كتابة الشعر مستوى أسلوبي من اللغة مختلف عن المثقفين الذين يتحدثون بلغة عربية سليمة هي بين الأسلوب الشعري الأنيق واللغة التي في الشارع أو في البيت. هذه كلها مستويات لغوية، وأنا دائماً أؤكد أنه لا خصومة بين اللغة الفصيحة واللهجات العامية. اللهجات العامية موجودة في كل العصور وموجودة عند جميع الأمم في كل لغاتها. ومن يعرف اللغات الأجنبية يدرك هذه الحقيقة. وفي بعض البلاد الأجنبية من الخلاف بين لهجاتها العامية ولغتها الأدبية، أكثر بكثير مما بين اللهجات العامية العربية واللغة العربية الفصيحة.

نحن يجب أن ننتبه الى هذه الحقائق. كان المعلمون يتحدثون دائماً باللغة العربية السليمة، ثم إن الكتب التي كنا نقرأها كانت كلها ذات أسلوب يرسي أسس الذوق الأدبي. وما كانت بدعة أن يدخلوا نماذج من الشعر الحديث، أو من الأدب الحديث، للطلبة بحجة أن هذا الشعر الحديث أقرب الى إفهامهم. لا، هم كانوا يقومون بعمل تأسيسي وهو بناء الذوق الأدبي ووصلنا بتراثنا، وكنا نقرأ أمهات التراث العربي في مراحل التعليم الثانوي حينئذ، بعضها ميسراً ومبسطاً، وبعضها كاملاً، إذا كان من جزء واحد صغير. وفي الجامعة أيضاً توسعوا في هذا، فكان الطالب يتصل اتصالاً وثيقاً بتراثنا.

الآن الوضع اختلف، اللغة العربية الفصيحة لا يسمعها الناس إلا نادراً. فالتلميذ في المدرسة، والطالب في الجامعة، يسمع دروس اللغة العربية باللهجات العامية، ولا يستطيع معلم المدرسة ولا أستاذ الجامعة أن يقيم لسانه باللغة الفصيحة بجمل متلاحقة. ربما يقيم لسانه بجملة أو جملتين، ثم بعد ذلك يسقط في هاوية الحديث باللهجة العامية. وكذلك إذا رأيت الآن الصحف، ترى أن الإعلانات باللهجات العامية انتشرت في هذه الصحف، وأنا أتحدث عن الأردن، وأتحدث عن مصر أيضاً. ولا أدري هنا في لبنان .. وفي لبنان أيضاً.
وقد انتشرت هذه الظاهرة على أساس وهم هو أن الذين يقرأون الإعلانات يفهمون هذه اللهجة أحسن أو أفضل، أو بسرعة أكثر. في حين أنهم يفهمونها باللغة الفصيحة ربما أفضل بكثير من هذه اللهجة، لأن طريقة كتابة اللهجة العامية بالحرب العربي أحياناً تضلل ولا يستطيع المرء أن يقرأها.

إذا أضفت الى ذلك أيضاً بدء انتشار الحديث باللهجات العامية حتى في نشرات الأخبار وفي بعض الفضائيات مع الأسف. والفضائيات اقتحمت علينا بيوتنا، ويسمعها الطفل والشاب والمسن، والمرأة والرجل. وبذلك افتقدنا هذا الجرس، هذا النغم للغة العربية الفصيحة. وكما ذكرت قبل قليل، ما عادت اللغة الفصيحة تصافح الآذان إلا الندرة النادرة. واللغة، كما لا شك أنك تعلم، حياتها في استعمالها فإذا لم تُستعمل اللغة العربية السليمة الفصيحة في التدريس، في مراحله المختلفة، وإذا لم تُستعمل أيضاً في كثير من مواقع الحياة مثل التلفزة، مثل الإعلانات في الصحف، مثل المحاضرات. الآن نستمع الى بعض المحاضرين يلقون محاضراتهم باللهجة العامية، بكل أسف، إذا لم تُستعمل اللغة في هذه المجالات، ذبلت وذوت، وتنتهي الى الموت بطبيعة الحال. ونحن، وكلنا يقر بذلك، المسيحيون منا والمسلمون، لولا القرآن الكريم، لانقرضت اللغة العربية بسبب ما تعرضت له من هجمات في الخارج وفي الداخل. هجمات الخارج لا تخيفني، يخيفني إننا نحن أبناء اللغة العربية نُميت هذه اللغة، إما عن جهل وإما أحياناً عن فكر مختل، مسموم.

هذه هي الأسباب التي دعت الآن الى ضعف اللغة العربية. وهي نفسها التي يُلتمس فيها العلاج.
طبعاً أنا ما ذكرت شيئاً مهماً. أنظر الى شوارعنا الآن، وأنظر الى المحال التجارية والمخازن والدكاكين، وأنظر الى اللوحات بأسماء هذه الدكاكين، تحسّ أنك في بلد أجنبي، ولست في بلد عربي. حتى الأسماء المكتوبة بالحرف العربي أسماء أجنبية. هي أسماء أجنبية، ويصعب علينا أن نستبين نطقها إلا إذا تصورنا أصل الكلمة باللغة الأجنبية حتى نلفظ هذه الكلمة. فساد في حياتنا هو عدم محاولة منا، محاولة جادة، مخلصة، لأن الأمم شأنها شأن الأفراد، تُربي ، تُهذب، إنما إذا تُركت الأمور فوضى بهذه الصورة، تسيبت وتفككت. فوسائل الإصلاح في اللغة العربية متنوعة من هذا الذي ذكرته: من التعليم والتحدث باللغة العربية السليمة، في مراحله المختلفة. ثم عرض نماذج التراث مهذبة ومختصرة في بعض المراحل، وكاملة في مراحل أخرى، ثم الحديث باللغة السليمة في المحاضرات والندوات، سواء كانت ندوات حية أو ندوات تلفزيونية مسجلة. والحرص على أن تكون نشرات الأخبار كذلك ومن دون توسع كثير، يُقضى على ما بدأنا به من تحدث باللهجة العامية، وما يشبه ذلك. حينئذ، بطبيعة الحال، ستعود للغة العربية نضارتها إن شاء الله.

 كانت لكم خلال مسيرتكم الأدبية والثقافية والأكاديمية بوجه عام عناية خاصة بالجامعة، كيف تنظر الى وضع الجامعات العربية في حياتنا المعاصرة؟

 الجامعات كانت الى عهد قريب تصور فكرة توارثتها عن الجامعة وهي أنها ملتقى لبيئة فكرية ولتربة علمية تزدهر فيها التقاليد الجامعية والروح الجامعية لم يُكتب فيهما كثيراً. كانت مثل هذه الأمور لا توضح عن طريق التعريف اللفظي، وإنما توضح عن طريق المعايشة، أن يعيش المرء في هذه البيئة، في هذا المناخ، في هذه التربة، وأن يشرب الروح الجامعية والتقاليد الجامعية. لكن إذا أذنت لي أن أحاول أن أقدم بعض التوضيح لمعنى "تقاليد جامعية" و "روح جامعية"، فالمقصود منهما هو هذه الصلة التي تنشأ بين الطلبة وأستاذهم، هي شبيهة بالصلة التي كانت تنشأ في تراثنا بين طلبة العلم وشيوخ العلم.

القدماء كانوا يستهينون بالعالم الذي لم يحضر مجالس العلم ولم يتلق عن الشيخ وإنما أخذ علمه من الكتب ويسمونه "صحفي" أو "صُحُفي"، نسبة الى الصحف وليس الى الصحافة، نسبة الى الصحف. ومن هنا نشأت كلمة "التصحيف" لأنه إذا كتب أو تكلم، يقع في أخطاء كثيرة لأنه لم يسمع العلم من الشيخ، فمنشأ التصحيف من هذه الصحف التي قرأها العالِم ولم يسمعها من شيخه، فهذه ركيزة من ركائز التقاليد الجامعية.

ركيزة ثانية، وقد شهدنا أساتذة كباراً وحاولنا بقدر الإمكان، حاول جيلنا أن يستمر في هذا النمط، هو محاولة تعليم التفكير والمنهج العلمي وتربية الذوق الأدبي في الشعر العربي والأسلوب العربي أكثر من تقديم مادة، وأن يُوجه الطلبة لتحصيل المادة في المكتبة من خلال الكتب ليقيموا صلة بينهم وبين الكتاب وبين تراثنا. لكن الأستاذ في محاضرته يقتصر على الأفكار العامة وعلى تفتيح جوانب الموضوع وعلى مناقشة منهج البحث، ثم يدل الطلبة على مصادر وعلى المراجع.

لا أريد أن أسهب في هذا من مثل أن شيوخنا كانوا يعشقون الحقيقة، البحث عن الحقيقة. حتى أن بعضهم كان لا يخجل من أن يتراجع عن رأي قاله إذا بان له خطأ هذا الرأي.

 أخلاق علماء؟

 نعم، هذه هي صفات العلماء، ما الذي يحدث الآن؟ أولاً الصفة الأولى، الصلة بين الطلبة وبين أستاذهم أو شيخهم، هذه فُقدت. ما عادت موجودة الآن، ولها أسباب. ربما كان السبب الواضح كثرة عدد الطلبة كثرة فظيعة في الجامعات، وقلة عدد أعضاء التدريس، وربما كان من أسبابها أيضاً أن الحياة تعقدت وتكاليفها زادت وأصبح الأستاذ لا يستطيع أن يمنح نفسه لطلبته.
الشيء نفسه فيما يتصل بمنهج، وتربية العقل، وإنشاء ذوق، والصلة بالمكتبة. أيضاً هذا لا أقول فُقد نهائياً، لكن خف كثيراً وأصبح الأستاذ يقتصر على كتاب واحد في الجامعة. وتحولت الجامعة في هذا الى مدرسة لها كتاب مقرر، بكل أسف، ما عاد الطلبة يقومون بالبحث العلمي الحقيقي، قد يستوفون الشكل في هذا، لكن يقدمون موضوعاً أشبه بموضوعات الإنشاء التي كانت تُقدم قديماً. نشأت طائفة من أعضاء التدريس أصبح يعز عليهم أن يعترفوا بالخطأ وأن يؤولوا الى الصواب بعد ذلك.

هذه كلها عوامل عملت على تدني مستوى الفكر الجامعي والبحث العلمي.
وإذا أضفنا إليه أن البحث العلمي بالأساليب والطرق والأجهزة الحديثة، له نفقاته وله تكاليفه، وأن الجامعات العربية عاجزة عن التزود به، وأن الدولة لا تُعنى به، وإذا نظرنا الى ما كُتب من مقارنات بين ميزانيات البحث العلمي في جامعاتنا وميزانيات البحث العلمي في الجامعات الأجنبية، نجد --- شاسعاً بينها. فأنت إذا لم تنفق على البحث العلمي، فمن أين لك النتيجة؟

لمثل هذا نجد أن جامعاتنا قاطبة لم تتقدم في البحث العلمي، ولم تقدم الى العلم الإنساني أي بحث حقيقي يطور هذا العلم الإنساني، ليست لها مشاركة في الحضارة الإنسانية الحديثة. قد يكون الى اللغة، أن نقول إن من أسباب ذلك أن العلوم ، سواء نظرية أو تطبيقية، تُدرس بغير العربية وحجتهم في ذلك أن اللغة العربية عاجزة عن التعبير عن المستجدات وعن تطور العصر وعن العلوم المختلفة التي تنشأ ويدرسونها باللغة الإنجليزية.

يُقال في هذا المجال أمران: الأمر الأول كيف حكمت على هذه اللغة بأنها عاجزة وأنت لم تجربها، وأنت لم تستعملها.

 ولكنها جربت واستُعملت ونجحت في العصور العربية القديمة؟
 نعم لكن الآن لم تجربها فكيف تحكم عليها؟ الأمر الآخر، وهو أيضاً علم. أنك لجأت الى لغة أجنبية، وهي لغة العلم ولغة التطور العلمي، فما الذي قدمته جامعاتنا خلال مائة سنة الآن، من أول إنشائها حتى الوقت الحاضر، للإنسانية.
لم تستطع باستعمال اللغة الأجنبية أن تقدم شيئاً حقيقياً.. إذن. سقطت دعوى استعمال اللغة الأجنبية للتدريس الجامعي في البحث وفي العلوم التطبيقية.

أزمة فكرية

 عندي سؤال عن الحلم العربي، هل المشروع الحضاري والقومي، تعرفون أن هذا الحلم عاش زمناً طويلاً في قلوب وعقول أجيال عربية عديدة على مدار القرن العشرين وشاركتم فيه من النخب التي شاركت.. أي مستقبل لهذا الحلم في تصوركم؟

 نحن عشنا في أعقاب كارثة كبيرة. أتحدث عن جيلي، طفولتنا عاصرت أعقاب كارثة كبيرة هي زوال الوحدة بين أقطار عالمنا، سقوط الخلافة، وأنا لا أتحدث عن الخلافة من حيث هي نظام ديني، لأنه لا يوجد حكومة دينية في الإسلام. وإنما أتكلم عن هذه الوحدة الشاملة التي كانت تربط هذه الأجزاء كلها.

نحن ننسى أن آباءنا، على وجه خاص، وقعوا في أزمة فكرية ونفسية بسبب زوال الخلافة، وتفرقت هذه الأقطار. ولا أريد أن أكرر موضوع سايكس-بيكو، وسواه ، وكيف أصبح الذين كانوا يثورون على الاستعمار حينما تولوا مقاليد الأمور وأصبحوا حكاماً، هم الذين تشبثوا بهذه التجزئة وبهذا التقسيم، ونشأت من حولهم طبقات منتفعة بهذه التجزئة.

مع كل ذلك، في الثلث الثاني وما بعده من القرن العشرين ، كان الحلم العربي حافزاً وباعثاً للناس جميعاً، ولا أكاد أستثني منهم أحداً على اختلاف مشاربهم وعلى اختلاف أحزابهم بعد ذلك. لكن كان هذا الحلم العربي يملأ نفوسهم ويملأ أفكارهم. كانوا يضعون له فكراً، يعقدونه، وغفلوا عن أن هذه الأقطار هي أوصال مقطعة من عضو واحد، وأن أي إصلاح لهذا العضو في داخل الجسم الواحد، لا يمكن أن يشفي الأعضاء الأخرى التي تعاني أيضاً. فلا بد إذن من النظر الى الجسم بكامله، ومحاولة معالجته، وليس الى الأعضاء المبتورة، العضو منفصل عن الآخر.

لا يعني ذلك قيام دولة مركزية واحدة، ربما كان هذا في حقبة قصيرة عن تاريخنا ثم بعد ذلك حتى في الخلافة العباسية، كثيراً ما كان الولاة ينفصلوا ويستقلون في ولاياتهم. لكن يعني ضرورة استشعار أن ما هو موجه إلينا ليس موجهاً الى هذا القطر أو ذاك، أو هذه البيئة أو هذه الفئة أو هذه الطائفة وتلك الطائفة.. إنما هو موجه إلينا جميعاً في مختلف بلادنا ولجميع مذاهبنا ولجميع طوائفنا.

هذا يستدعي أيضاً، أن نواجهه صفاً واحداً، ونواجهه بقرار واحد. فنحن كل الذي نطالب به الآن، أن هذه الدول المجزأة القطرية تُعنى بداخلها في الإصلاح، لكن لا بد من جمع الكلمة وأن قوتنا الوحيدة الآن أمام ما يُراد بنا، هي أن نسمِعهم رأياً واحداً قوياً نثبت عليه. هذا مصدر كبير من مصادر القوة. وما ينتج عنه شيء مهم آخر، إننا حينما نقف هذا الموقف، إنما نقف أيضاً أمام المصالح التي في بلادنا لغيرنا موقفاً واحداً، وهذا مهم بالنسبة لسياسات الدول الأخرى.

عن العربي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى