المرأة بين التوهج والانطفاء ...
لا ريب أن قضية المرأة ستبقى الشغل الشاغل لأصحابها ، على مدى ما تبقى من عمر البشرية ، ولا أشك أيضاً أن إسباغ كلمة قضية على هذا الموضوع هو ضرب من ضروب المراوغة والخداع ، فالقضية قضية إنسان سواء كان امرأة أو رجلاً ، إذ إن كليهما جزء من القضية ، وإن تفاوتت درجات الظلم والقهر على أحدهما . ولكي تصرف نظر عدوك عنك عليك إذاً أن تلهيه ببعض القضايا الجزئية هنا وهناك ، حتى لا تكون أنت قضيته . ولا أظن شعباً من شعوب الأرض قد نسي قضيته الأساس ، والتهى بالجزئيات مثل شعبنا النائم خلف سياج التاريخ منذ ألف عام أو يزيد ، يجتر تاريخاً مجيداً مفتاحه الفعل ( كان ) ومشتقاته ، يستمد منه ظلال الشعور بالعظمة والقوة . ولأنه آمن بالقدر خيره وشره ، دونما إعمال للعقل أو التفكير بمصادر هذه الخطوب والكوارث والنكسات والنكبات ، وهل هي من الله ؟ أم من بشر أرادوا التسلط عليه ؟ فقد استسلم لقوى التسلط استسلاماً قدرياً ، أما ما استمده من مشاعر عظمة كاذبة وقوة فقد مارسه وبكل جهل وعنجهية على ما ملكت يمينه . ولأن قوى التسلط لم تبق له مالاً ولم تبق له من ملك اليمين ـ في مرحلة سابقة ـ غير الزوجة والبنات فقد صب جام عظمته الكاذبة وقوته الفارغة على الأنثى ، مدعماً سلطته عليها ، بمنظومة متكاملة من الأعراف والتقاليد والمفاهيم المغلوطة الناجمة عن التفاسير المغلوطة في مرحلة تحالف رجل الدين مع رجل السلطة والتي يبدو أنها ما تزال قائمة . وبتصوري هذا ما أفسح المجال لاستمرار المفاهيم القبلية رغم كل التحديثات التي طرأت على مجتمعاتنا . وبذلك يكون قد لحق بالأنثى ظلم مضاعف مرة من قوى التسلط ومرة من الرجل في البيت .
ومع ما طرأ على المجتمع من عوامل تحديث فقد علت الأصوات وتنوعت أشكال الخطاب التي تدعو إلى رفع ما وقع على المرأة من حيف خاصة داخل البيت ليتساوى ـ على الأقل ـ حجم الظلم على الرجل والمرأة عندئذ تستطيع المرأة الوقوف إلى جانب الرجل في عملية التنمية والحداثة ( وليس التحديث ) والنهوض بهذه الأمة من جديد ، إن كان ثمة نهوض لها .
ومن هذا المنطلق المستند أساساً على الإنسان بالمطلق ، تراودني بعض الأسئلة فور انتهائي من قراءة كتاب ما ، رواية ، أو قصة ، أو شعر ، والتي غالباً ما تفسد عليّ متعة القراءة ، من مثل :
ـ ما الذي يريد النص قوله ؟
ـ كيف يقوله ؟
إذ ما زلت مؤمناً ـ رغم كل الأفكار البنيوية والتفكيكية الحداثية منها وما بعد الحداثية ـ أن المؤلف حي وأن النص ـ أي نص ـ يجب أن يكون فاعلاً ضمن واقعه ، بمعنى أن يتمتع بوظيفة ما في هذا العالم ، وبذات الوقت على النص أن يتمتع بالقدر الوافي من القيم الجمالية التي تعتبر الحامل الأساس لاستمراريته .
قد يبدو للبعض أن ثمة تناقضاً في هذا القول لكن تحقيق المعادلة هو تماماً كما السهل الممتنع ، إذ كيف يؤدي الأدب وظيفة ضمن السياق الاجتماعي أو الاقتصادي ، أو غيرهما ، دون الوقوع في مطبات الأيديولوجيا ؟ من جهة ثانية ، كيف يتملك نص ما قيماً جمالية أو مسافة جمالية ما لم يمارس لعبة التفاعل والالتحام بين القارئ والمقروء ، بين الذات والموضوع ، وإذا شططنا قليلاً نقول بين القارئ والمؤلف ، دون الدخول في متاهات فوكو الذي " يعدّ المؤلف أسيراً وخادماً للغة وليس العكس " فاللغة ـ حد تعبيره ـ هي التي تتحدث على ألسنتنا وهي التي تفكر فينا ، نافياً بذلك أي دور للمؤلف . وكي لا نستطرد كثيراً في اختلافات الرؤى النقدية ، يكفينا القول بأن المتتبع للمحاولات التجريبية في النصوص الأدبية على اختلاف أجناسها سيجد أن الذي يقف وراء هذا التجريب هو المؤلف ذاته والذي هو محصلة تفاعل السياقات المعرفية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية مضافاً إليها الموهبة وتملك التقنيات اللازمة للإبداع . وهذا المؤلف والذي يفترض أن يكون صاحب عين ثالثة ، ترى جوهر الأشياء وتقدمه للقارئ على شكل كتابة أدبية تحقق المتعة القرائية وجماليات تحقيق الأحلام .
ضمن هذا الإطار سنتناول الإصدار الثاني للكاتبة نسرين طرابلسي ( وأدرك شهرزاد .. المللُ ) الصادر عن دار المدى 2004 والواقع في مئة وثمانين صفحة ، ويتضمن ثلاث وعشرين قصة واثني عشرة منولوجاً . وقد عمدت الكاتبة ـ وبلعبة تجريبية ـ إلى إثبات المنولوج ثم إتباعه بقصتين أو ثلاث ، عملت جاهدة في بداية المجموعة على أن يتجانس المنولوج مع ما يليه من قصص تجانساً مضمونياً ، فحالفها التوفيق حيناً وخانها حينا ً .إلا أن لجوءها إلى إثبات المنولوجات بهذه الطريقة ، هو لعبة تجريبية ذكية تسخر ـ من خلالها ـ مما يدعوه البعض موتاً للمؤلف ، وهو تأكيد منها على أهمية سلطة المؤلف على نصه أولاً وعلى المتلقي ثانياً .
لماذا نصرّ على سلطة المؤلف ؟ ولماذا نوليه هذه الأهمية؟
أعتقد أن المجموعة القصصية تجيب على ذلك فالنصوص لا تسبح في فضاء ذهني ، ولا تشكل تلك الحالة الذاتية التي يطلق فيها بعض الكتاب العنان لتخيلاتهم العاطفية وغير العاطفية تاركين أقلامهم تخط كلمات تنبع ـ حد زعمهم ـ من اللاوعي المشترك مع الإرث الجمعي للبشرية . إن نصوص نسرين طرابلسي متواطئة مع الإنسان والوطن في حالتهما الراهنة ، وتسلط الأضواء على تلك الطبقة الكلسية المترسبة بفعل القهر والاستغلال واستمرارية القمع ، وذلك بهدف تصوير الألم والرغبة في الانعتاق والتحرر ، ولأنها اختارت الإنسان بالمطلق والوطن بالعموم ، واختارت المرأة على وجه الخصوص فقد نجت من مطبات الأدلجة والتنظير ، ولأنها ـ أيضا ـ اختارت تصوير أنفاس بسطاء الناس ولهاثهم المتواصل في إزالة تلك التكلسات عن قلوبهم راصدة كل محاولات النجاح والفشل في السعي نحو التألق من خلال لغة شفافة ، فقد استطاعت كسر أفق الانتظار لدى القارئ وخلقت تلك المسافة الجمالية عبر خلخلة رؤية القارئ المحكومة بأفق انتظاره ، ولا بأس هنا من توضيح مصطلح " أفق الانتظار " كما يحدده ياوس jauss أحد أصحاب نظرية التلقي : " هو ذلك الأفق الذي تفرضه التجربة الأدبية للقارئ متحدداً بالعوامل التالية :
1 ـ المعرفة المسبقة للقارئ بالعمل الذي سيقبل على قراءته .
2 ـ التجربة التي اكتسبها من خلال قراءته لأجناس أدبية معينة .
3 ـ الخبرة القرائية العامة للقارئ وما تولد عنها من دراية .
4 ـ إدراكه الفرق بين اللغة الشعرية واللغة العملية .
وينجم عن هذه العوامل رؤية يسعى الكاتب جاهداً للتشويش عليها بغية خلق توتر بين العمل الأدبي وأفق انتظار القارئ وهذا ما يسمى بالمسافة الجمالية "
أما كيف استطاعت الكاتبة خلق هذا التوتر ؟ وكيف استطاعت تحقيق انزياح النص عن أفق انتظار القارئ فهذا ما سنتبينه من خلال ثنائية التأصيل والمغايرة ، أو التكلس والتألق ورصد مظاهر الانغلاق والانفتاح ضمن نصوص المجموعة .
تبدأ نسرين طرابلسي مجموعتها بقصة ( الحليب المر ) وفيها تؤسس لواقع الانغلاق وتؤصل حالة التكلس والترسب التي تعيشها المرأة منذ لحظة ولادتها . فبطلة القصة تلد طفلة ً ولادة قيصرية وتمارس عملها وما يزال الجرح بحاجة للرعاية دونما إجازة طبية ، يبصق في وجهها رب عملها بعبارات التهديد ، ويتذمر زوجها من تقصيرها ، ويلاحقها أطفالها بطلباتهم ، وتنجز أعمالها بالسرعة الكلية تحت وابل من الأوامر والتهكمات ، تراقب نزف الجرح وجوع الطفلة ، لماذا اختارت الكاتبة طفلة ؟ أعتقد لتكمل لوحة القهر للمرأة ولترصد واقعها طفلة ويافعة وامرأة ـ وفي قصص أخرى ـ وعجوزاً ، والطفلة في مثل هذا الواقع ستعيش بكل تأكيد نصف نهارها في الحضانة الملحقة بمكان العمل ، هذه الحضانة التي تبدو كمعتقل ، والمشرفة على الأطفال ليست سوى سجانة . وبذلك تكتمل صورة المرأة العربية القارة في قعر المجتمع ، أماً وعاملة ومربية وطفلة وسجانة أيضاً . هذه هي الصورة بكل تناقضاتها واختلافاتها ، ترسخها نسرين طرابلسي ، وتثبتها في صدر مجموعتها وذلك كنقطة ارتكاز تنطلق منها لرصد بعض محاولات الانعتاق والنزوع نحو المغايرة .
وقبل الغوص في أعماق المجموعة للكشف عما ترسب وتكلـّس لابد لنا من الرجوع خطوة إلى الوراء للوقوف قليلاً مع معطيات المنولوج الأول في المجموعة ، وفيه تخاطب الكاتبة ذات المرأة متوجهة إليها عبر خط مستقيم ومباشر (( ستنطفئين يا امرأة ، أحذرك من الماء )) . إذاً ثمة اشتعال وألق ، ولكن ثمة ظلام وثمة وسط تستقر فيه الأشياء وتتكلـّس .. ثمة ماء راكد والخروج من هذا الوسط ليس بالأمر السهل ويتطلب الكثير من الحذر ، لذلك تطالب الكاتبة المرأة بإطلاق العقل ولكن ضمن حدود حزام العفة (( ... خوضي في المسافة ، وأطلقي عقلك ، بقدر ما يسمح لك حزام العفة )) . هل نملك القول أن ثمة سخرية مرّة وتهكماً يعكسان الطبقة السميكة المترسبة على المرأة العربية من أعراف وعادات وتقاليد ومفاهيم ؟ ... ما يجعل حزام العفة رمزاً لكل القيود والأغلال التي تثقل الكاهل . وهل يتطابق الخطاب هنا مع قول الشاعر :
" ألقاه في اليم ثم قال له إياك إياك أن تبتل بالماء "
لقد أوردت الكاتبة خطابها ضمن منولوج ، وكأنما تخاطب بذلك ذات المرأة العربية في ذاتها ، وهذا ما يعكس الإحساس الهائل بالثقل الملقى على المرأة ، كذلك يعكس بالمقابل ذلك الإحساس بالعجز ، ولهذا تأتي مطالبتها بالانعتاق خجولة ومرتبكة ومنسجمة وواقع الحال إدراكاً منها أن زمن التغيرات الجذرية قد ولـّى . ولهذا تقول : (( عليك أن تبذلي أكثر من خطوات وئيدة ، وأصعب من زحف ملتزم بالمدار ..... آملة أن تخرجي من جحرك بكتاب أو حماقة أو مغامرة )) .
وإذا أمعنا التفكير في هذه النتائج التي تسعى الكاتبة إليها والتي تعطي للوهلة الأولى انطباعاً بالخفة ـ حد تعبير كونديرا ـ نجدها على غاية من الأهمية في تأكيد حضور الذات المرأوية فهي أولاً خروج من الجحر وثانياً انطلاق للعقل وثالثاً الحرية ، والتي تعتبر شرطاً أساس في أي مغامرة ، أما الحماقة فهي تعبير من وجهة نظر الآخر في حال فشل المغامرة ، و المغامرات الناجحة هي التي ( تضيف حقائق جديدة على هذا العالم ) .
ويمكننا تتبع حالات التكلـّس والانطفاء على مدى صفحات المجموعة ، فنجدها في انزواء الست ( ظهيرة ) في " أوبرا القطط " وحيدة في البيت تفرّغ شحنات الأمومة الدفينة في عدد من القطط التي تعكف على تربيتها كما تربي الأم أولادها . كذلك نجد مثل هذه الحالات في قصة " حارتنا ضيقة " حيث منى ، وغادة ، والراوية ، يعضضن بالنواجذ على أوجاعهن ، ويكتمن حالة القهر والصبر اللذين يتبديان على شكل حساسية تجعل الوجه منتفخاً أو على شكل حراشف صدفية ، يوغلن في آلامهن التي تسبب بها الأزواج والمجتمع ، فآثرن السجن داخل المرايا ، أو لنقل داخل جدران البيوت ، حيث استطاعت الراوية ـ الساردة أخيراً جمعهن في بيتها إلى فنجان القهوة الصباحي ، ما جعل الأسرار تتكاثر ، وجعل العالم أكثر ازدحاماً ، وجعل الأبنية أكثر التصاقاً وكل ذلك داخل سجن المرايا حيث (( النساء الرائعات اللواتي يدرن عجلة الكون ، عندما يكتمن أوجاعهن )) . ولنا وقفة عند هذا المقبوس الذي ورد بهذه اللغة التقريرية على لسان الكاتبة مختتمة به قصتها " حارتنا ضيقة " والذي يشكل نوعاً من إعادة توجيه القارئ ، ودفاعاً حماسياً عاطفياً عن المرأة ، وأقول عاطفياً لأن عجلة الكون لا تدار بكتم الأوجاع ، إلا إذا كان المقصود بالكون هو البيت الذي يحبس كلاً منهن داخل مراياه . أعتقد أن حالة الألفة الناجمة عن اجتماعهن والبوح بأسرارهن قد جعل الكاتبة تشتمل حماساً فقاربت بين الأبنية وضيّقت الحارة ، لكن المطب الرؤيوي كان في كتم الأوجاع ، وكيف لنا أن نقارب بين حالة الكتمان والكبت هذه مع عنوان المقطع التاسع والأخير من هذه القصة (( روح الياسمين )) ؟ كيف لنا أن نقارب بين روح تأبى إلا أن تنفلت من أسر الوردة وبين كتمان الأوجاع المقيدة داخل المرايا وخلف الأبواب المغلقة . إنه التكلـّس مرة أخرى والانطفاء ، تستمر الكاتبة في رصده ضمن عوالم المجتمع الأنثوي ، والذي يحتاج إلى أكثر من كتم الوجع للخروج من الجحر .
.. وتصر نسرين طرابلسي على الحكاية فتشهر في وجهنا شهرازاد وقد أصابها الملل ، وبدأ التكلس يغزو حكاياتها التي تخلقها لتستمر هي في الحياة ، خاصة وأن مسرور ينتظر الأوامر الملكية لقطع الرأس وبهذا يظهر كلاهما ـ السياف وشهرزاد ـ حبيسين وراء أسوار الرغبة الملكية ، ولأن خيال شهرزاد بدأ ينضب وبدأت تعاني ندرة الشخصيات والخطوط الدرامية فقد بدأت الحكاية بالنضوب ، وبدأت تشكل حالة من التكلـّس لهذه المرأة ، ما جعلها تشعر بالملل ، وهذا الملل يشكل الخطوة الأولى في طريق التمرد على الانطفاء .
ولكن هل هذه هي الحالة الوحيدة في التمرد ؟ بالتأكيد لا . إذ بدأت بوادره مع الست ظهيرة في " أوبرا القطط " وذلك عندما بدأت تفكر بالجار الوحيد الأرمل ( أشرف ) خاصة وأنه وقف وقفة مشرفة بجانبها إثر عودتها من الحج ، فبدأ القلب ينبض أكثر وبدأت العيون تسترق النظرات ، لكن العيون المتعودة على الظلمة يوجعها انبثاق الضوء فجأة فتلجأ إلى الإغماض ، وهذا ما خلق في داخل ظهيرة صراعاً نفسياً عنيفاً بين رغبتها في الانعتاق من قيد الوحدة وبين ما تكلس في داخلها من مفاهيم العيب والحرام ومراعاة التقاليد . ويبدو أن طبقة الكلس كانت أقوى من نبضات واهنة ، ونظرات خجولة ، ولهذا استطاع التردد أن يرجئ ساعة الانعتاق مرة إثر مرة إلى حين وفاة الجار المحب . عندها انطفأت ظهيرة وانطفأت معها أزهار حديقتها ، جاعت القطط وتراكم الغبار على الدرج الذي بدل أن تستخدمه من أجل الصعود إلى السطح ، استخدمته من أجل النزول إلى حيث التعفن والعدم .
لكن بذرة التمرد تبدأ بالإنتاش لنراها فتية في قصة " ممتلكات الآخرين الرائعة " حيث يبدو سعي الأنثى إلى الحب ـ بل تصيّده أو سرقته إن صح التعبير ـ كإحدى المحاولات لكسر طبقة الكلس المترسبة ، إذ تتحدث القصة عن حالتين تعكسان ذلك النزوع على المغايرة ، الحالة الأولى في تأسيس مكتب عمل مستقل ، والحالة الثانية في تنافس الاثنتين على (( الحب )) متمثلاً في رجل ، ورغم قيام إحداهن بسرقته من الأخرى وانصدامها به ، نراها تعود إلى صديقتها فتستقبلها دون أي شعور بالحقد وهنا تسمو الكاتبة بفكر وعقل المرأة من خلال الوعي بأن الرجل في حياة المرأة شيء قابل للبذل ، يأتي ويذهب ، دون أن يترك أية ندبة على جدار القلب ، وتكاد القصة هذه تكون الوحيدة بهذه الرؤيا .
ولا تتوقف الكاتبة عند هذا الحد من التمرد على الرسوبيات المتكلسة بل تستجمع قواها لتنتقل إلى مواقع الفعل والهجوم ففي " قطة شيرازية "نرى أول حالة اشتعال وتألق تندفع في وجه الانغلاق والانطفاء اللذين استقرا حول الحس الجماعي في الواقع . ولأنه تمرد أنثوي فقد جاء ناعماً متلبساً بالعتمة وأقصد بالعتمة هنا هذه الهالة الرمزية التي تومئ وتلمح بإشارات دون أن تفصح حيث استطاعت الكاتبة وببراعة فنية ـ في الحقيقة ـ أن تمنح النص لذة حقيقية عن طريق الإيحاء اللغوي والترميز الشفاف ، إذ استطاعت اللغة أن تصور التهام حبة الفريز في اللحظة الأولى لإدراك الأنثى أنوثتها ، تماماً مثلما استطاع أنف ( غرنوي ) في رواية العطر لباتريك زوسكيند أن يرصد بحاسة الشم رائحة تفتح حلمة كاعب ، إنها قبلة شفاه محبٍ ، تفتتح لحظة اكتمال الأنوثة ، ممنية النفس بوجبة متعة أخرى حين اكتمال النضج الأنثوي حيث يتخلى المشمش عن لونه الأخضر الحامض ويكتسب حلاوة المذاق الملونة بألوان النضوج والاشتهاء . وبهذا يكون بطل القصة الإيجابي في هذا النص هو الانفتاح والاشتعال والمتعة بينما يتلقى الكبت والتكلـّس صفعة من الخلف وبغباء تام .
أما في قصة ( طالما أحد لن يموت ) فقد استطاعت الكاتبة وبالاتكاء على لعبتي ( عروس وعروسة ـ وعسكر وحرامية ) أن تظهر قدرات الأنثى عندما تـُجرح أو يُفترى عليها ، ففي الوقت الذي تريد الطفلة اللعب ببراءة نرى الأطفال الذين كبروا قليلاً يريدون اللعب بالطفلة ذاتها ، وهنا تتقابل البراءة مع الخبث ، ويتعارك الاشتعال مع الانطفاء ليبدو التكلس على حقيقته ضعيفاً هشاً كما الرماد يخفي فقط وهج الجمر وعند أول هبة ريح تعصف به ليعود التوهج والألق إلى الجمر ، تماماً مثلما ( تراجع الأولاد كأقزام الغابة يتدحرجون هاربين من عصفها ) ، عندما انتفضت وثارت في وجوههم .
وبذلك تجيب نسرين طرابلسي عن أشد الأسئلة قلقاً بالنسبة لأي قارئ :
ما الذي يريد النص قوله ؟ وما الغاية من قوله ؟
إنها تلامس أشد مناطق القهر حرارة . القهر النفسي الناجم عن اضطهاد الرجل للمرأة ،اضطهاد المفاهيم للمرأة ، كما في قصة ( اغرسني في الأرض .. أفرغ صاعقتي ) وكذلك القهر المتولد عن عدم فهم المرأة للمرأة ( كما في ( حارتنا ضيقة ) و ( وجه الغيرة الوقاد ) ، أما الغاية من قول ذلك فلا أظن أن غير الانعتاق والنزوع إلى المغايرة غاية ترومها الكاتبة ، الانعتاق من هذا القهر والتكلس والتطلع إلى وهج الحياة الإنسانية ، والتألق من خلال العمل والحرية والحب ، وبهذه الشروط فقط يمكن للمرأة القيام بدورها إلى جانب الرجل في عملية النهوض الشاملة . وتتبدى الغاية من القول جلية في هذا المقطع الذي اقتطفته الكاتبة من متن قصة ( حارتنا ضيقة ) ووضعته على الغلاف الأخير للمجموعة :
" من شرفتي العالية أراقب ليل الآخرين ، أبوابهم الموصدة في النهار تكتم أسرار القلوب . العتمة تمنحهم إحساساً مريحاً بالوحدة فيشرّعون آلامهم على الشرفات ، ويسمحون لصراخهم المكتوم بالهسيس ، والتسلل على وقع خطى الدقائق تتهادى بخفة حتى الفجر . أحب أن أكون معهم ولكن من بعيد ، بحيث أقترب دون خوف ، حين يتعرّون بلا خجل " .
أما كيف قال النص ذلك ، فيمكننا العودة إلى مسألة التجريب في القصة القصيرة لنجد أنه يتمظهر في إطارين اثنين :
ـ تجريب بالشكل .
ـ تجريب في اللغة .
أما التجريب بالشكل فقد ظهر واضحاً في الاتكاء على المنولوج وفي بعض القصص التي عمدت فيها الكاتبة على تفتيت الحدث وبعثرته في البناء الكلي للقصة وبهذا تنتفي البداية والنهاية في بعض قصص المجموعة ، وتتحول القصة إلى مجموعة من البنى المتراصة يوحدها الترابط النفسي ووحدة الشعور كقصة " حارتنا ضيقة " و" أوركسترا النضال " كذلك في " نص منفرد على آلة العمر " وأيضاً " نص منفرد على آلة الحنين " . مستفيدة من قدرات البنى الدرامية أحياناً ومن المشهدية السينمائية أحياناً أخرى في رسم أشكال قصصية لها أطرها الجمالية الخاصة .
أما التجريب في اللغة فقد استطاعت الكاتبة ومن خلال هذا الجنس الذي لا يحتمل الإطالة أو مطاردة الجزئيات أن تجعل من اللغة كائناً شفافاً قادراً على التصوير الدقيق دون أي شعور لدى القارئ بالتوتر أو الامتعاض خاصة وأن هذه اللغة تشف عن وعي أنثى لأنثى مبرهنة أن ثمة خصوصية للأدب النسوي ، يتميز على صعيد الوعي ـ خاصة ـ عن الأدب الذكوري ولو قرأت المجموعة مفصولة عن اسم كاتبتها لقلت في نفسك أن من كتب هذه النصوص أنثى بكل تأكيد .
لقد استطاعت الكاتبة أن تستفيد من الإمكانيات التعبيرية التي تتيحها اللغة ذاتها على صعيد التخييل الأدبي وذلك ما منح مستويات الكتابة قدرتها على إفراز ألأبعاد الدلالية والجمالية لنصوصها ، التي اقتربت في كثير من تلويناتها الجزئية من الشعر .
لقد استطاعت الكاتبة أن تحقق جماليات اللغة السردية في قصصها من خلال تعددية أصواتها وتنوع رواتها ، وإذا كان هذا الأمر سهلاً في الرواية فهو سهل ممتنع في القصة القصيرة والتي لا تحتمل ذلك على الأغلب .
عن القصة السورية