الاثنين ٨ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم أسامة الأشقر

المرافعة الأولى «جدارية»

كان الجدار بستاناً وكان موئلاً ومأوى ومحل صمود حتى قال فيه الناصريّ ابن زياد:
هنا .. على صدوركم، باقون كالجدار
ظن توفيق ابن زياد أنه جدار غياث بن غوث الأخطل:

أعاذلَ توشكينَ بأن تريني
صريعاً، لا أزورُ ولا أُزارُ
إذا خفَقَتْ عليَّ ، فألبَسَتْني
بلامِعِ آلِها، البيدُ القِفارُ
لعَمْرُ أبي لئِنْ قوْمٌ أضاعوا
لِنعْمَ أخو الحِفاظِ لنا جِدارُ 

أو لعله جدار الغلامين الذي تعاهده معلم موسى –عليه السلام– فقد كان تحته كنز لهذين اليتيمن، ولكن فاتك أيها الناصريّ أن أباهما كان صالحاً !!.

أو أنه ظن أن جداره من الجدران التي ينغرس فيها العماد بين الجيران على مودة إذ قد يكون سمع حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سأله جارُه أن يغرِسَ خَشَبَةً في جِدارِه فلا يَمْنَعْه»، وأحسب أن تأويله أن جدار قومنا تحت الأرض لا فوقه ، وأنه منشأة بوجه السيادة، والقاعدة تقول: كل ما جاز أن يحيط به صمود جاز أن يحيط به جدار.
أيها القوم!

قبل الناصريّ الأخطليّ:

كان لنا لقاء
من قبل أن يقوم في طريقنا جدار
كانت لنا حكاية، كان لنا حوار
لكنه، لكنه الجدار

لكنه غير جدار أبي نواس الذي هو على سوئه وكآبته، فيه رحمة وبقية مودة ونظرة من باطنه، مما يخفى على ظاهره:

قريبُ الدار، مطلبُه بعيدُ يَرى نظري، فيعلمُ ما أريدُ
أقولُ له، وقد أخْلَتْهُ عَينٌ من الرّقباءِ ناظرُها حديدُ:
أتَمْنعُ ريقَكَ المعسولَ عنّي و أنتَ على الجدارِ به تَجُودُ ؟! 

وما برحت لا أصدّق مقالة شوقي المصري عندما امتدح جدار الحسن بن هانئ هذا، وأشار لي أن احذر فقد حفت المطامح بالمطامع ، وقد يُبتلى ابن الحرة بما ينفيه عنها:

ولقد يُشاد عليه من شُمِّ العُلا
ما لا يُشادُ على القنا الخطَّار
إن كان سَرَّك أَن أَقمتَ جِدارها
قد ساءَها أَن مالَ خيرُ جِدار 

ولم يخطر على بال شوقي ما ادعاه ابن الخياط من تعلية الجدار وتصفيح الرتاج وتغليق الأبواب، رغم ثقب أمل لديه بتطويح حمامة عابرة في غير سبيله:

فَما مَنَعتْ بُتْرٌ مِنَ البِيضِ قُطَّعٌ
ولا كَفَّ معروفٌ منَ الخيرِ أسجَحُ
وهيهاتَ ما يَثْنِي الحمامَ إِذا أَتى
جِدَارٌ مُعَلّىً أوْ رِتاجٌ مُصَفَّحُ

ولقد أكاد أقول بنصيحة المعري:
يقولُ لك العقلُ، الذي بَيّنَ الهُدى:

إذا أنتَ لم تَدْرأ عدُوّاً فدارِهِ

وقَبّلْ يدَ الجاني، الذي لستَ واصِلاً إلى قَطعِها، وانظرْ سقوطَ جِدارِه 
فلطالما سجد اللاثمون على ظهر يده وهو في سلطانه، ولم ينجل الغبار إلا عن جدار. وما في اختلاط المواصلة والمصارمة إلا الشر، كما قال الرؤاسي أبو داود:

تواصل أحياناً وتصرم تارةً
وشر الأخلاء الخليل الممزّج 

ولو كنتُ اليوم حياً لقلتُ كما قال المدفون في قرافة مصر محمد بن إدريس الشافعي:

يا هاتكا حرم الرجال وقاطعا
سبل المودة عشت غير مكرم
لو كنت حرا من سلالة ماجد
ما كنت هتاكا لحرمة مسلم
من يَزْنِ يُزْنَ به ولو بجداره
إن كنت يا هذا لبيباً فافهم 

المرافعة الثانية 

زهراء حين يجرحها أزهر 

كانت لنا جارة بدوية ، كان اسمها زهراء ، كانت في خيمتها تبكي تحت القصف حتى ماتت وهي تنشد:

وكنتُ أنامُ اللَّيلَ مِن ثِقَتِي بهِ
وأَعْلَمُ أَنْ لا ضَيْمَ وهُوَ صَحِيحُ
فأَصْبَحْتُ سالَمْتُ العَدُوَّ ولَمْ أجِدْ
مِن السِّلْمِ بُدّاً والفُؤادُ جَرِيحُ

كانت زهراء على مذهب ابن شبرمة حين روى: أن الحرب كانت يوم صفِّين بين العرب محضةً لا شوب فيها، فكانت محاربتهم كداماً واعتناقاً، وكانوا إذا مرُّوا برجل جريحٍ كانوا يقولون:خذله قومه فانصروه، وألقاه دهره بمضْيعةٍ فردُّوه إلى أهله.

كانت زهراء الدامية في خيمتها المهدومة تتجمل بثوب عروبة قديم تداري بها سوءة الجيران عنها:

فإن كنت أغدو في الثياب تجملا
فقلبي من تحت الثياب جريح

كانت تعانق ضيق الصبر على القذى المتراكم:

ووسع صدري للأذى كثرة الأذى 
وقد كنتُ أحياناً يضيق به صدري

ما ضرها لو كانت على مذهب ابن الديلم مهيار فانتفضت :

دمِيتْ قروحكَ يا جريحَ زمانهِ
تحتَ الحمولَ أمَا لخرقكَ راقعُ

كانت زهراء على مذهب شوقي أمير بيان مصر وعلى وطنيته الأولى التي لم يغسلها الطوفان:

قد قضى الله أن يؤلِّفنا الجر
حُ ، وأَن نلتقي على أَشجانه
نحن في الفقه بالديار سَواءٌ
كلُّنا مشفِقٌ على أَوطانه

كانت زهراء على مذهب الشريف الماجد أبي طالب في حصار قومه في شعبه، الذي واجه قومه في ظلمهم وحصارهم بالصبر عليهم منتظراً ما سيفعله أبناء بني عبد مناف وأحفاد قصي بن كلاب:

ولمّا رأيتُ القومَ لا وُدَّ عندَهُمْ
وقد قَطَعوا كلَّ العُرى والوَسائلِ
وقد صارحونا بالعداوةِ والأذى
وقد طاوَعوا أمرَ العدوِّ المُزايلِ
وقد حالَفُوا قوما علينا أظِنَّةً
يعضُّون غيظا خَلفَنا بالأناملِ
صَبرتُ لهُمْ نَفسي بسمراءَ سَمحةٍ
وأبيضَ عَضْبٍ من تُراث المقاوِلِ 

فصبر ثلاثة أعوام تامة حتى أكلت الأرضة الصحيفة فانتفض القوم بعدها.

كانت تظن أنه وصلة متينة وقاعدة مكينة كما قال أخوها من بعدُ:

وأرحام ودّ دونها الرحم التي
تدانت وجلّت أن يطول بها الظن

أين بتّ اليوم يا زهراء؟ هل بقي منك شيئ؟

هجرتنا فما إليها سبيلٌ
غير أنا نقول : كانت وكنا

ولو استمعت زهراء الكلابية إلى البرعي الصوفي الحكيم لما ماتت:

وإني بعتُ حينَ عرفتُ دهري
خيارَ بني الزمانِ بلا خيارِ
لأنهمُ ذئابٌ في ثيابٍ
فيا لي منْ شرارٍ في شرارِ
فكمْ لحمٍ شووهُ بغيرِ نارٍ
وعرضٍ مزقوهُ بلا شفارِ 

فقد كثرت فتوقهم واتسعت خروقهم:

وفات مداواةَ التلافي فسادُه

وأعيت دلالات الخبير بكاهله
يا ليت زهراء لم تسمع بيان الأزهر الذكر، يا ليت زهراء لم تقرأ سلام الخفاجيّ:

واقرَ السلامَ على الفقيهِ وقلْ لهُ
وهو العتادُ لدفعِ كلِّ ملمةِ
حاشاكَ أن تصفَ الودادَ وأهلهُ
ويكونَ حبكَ كلهُ بالقوةِ
مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ بَعَثْتَ تَحِيَّةً
وكتبتَ خمسةَ أسطرٍ في رقعةِ
أَبِمِثْلِ هَذَا يَخْصِبُ البُسْتَانُ أَوْ
يَزْدَادُ حُسْنَ الدَّارِ في السَّهْلِيَّةِ

وقديماً قالوا من أفضل البر: صدقُ في الغضبِ، وجودُ في العسرةِ .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى