الأحد ١٨ شباط (فبراير) ٢٠٢٤
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

المغالطة المكارثيَّة!

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

كنتُ سألتُ (ذا القُروح)، في اللقاء السابق، سؤالًا لُغويًّا، لأُخفِّف عنه وطأة المعمعة الجدليَّة في تاريخ الأديان: أنقول: «كما تَدين تُدان»؟ أم «كما تُدين تُدان»؟ فانتهرني كعادته، وأرجأني إلى هذا اللقاء. ثمَّ قال، بعد أن حكَّ رأسه وأُذنيه:

 العَرَب نطقوا الكلمة بفتح التاء.

 وكأنَّ المعنى كما يكون دِينك؟

 تقريبًا. والدِّين هنا بمعنى الفعل السُّلوكي. وهذا أبلغ. كأنَّ السلوك قد أصبح دِينًا. هذا وجه. أو قل: إنَّه بمعنى الجزاء، ومنه يوم الدِّين، أي الجزاء. ولعبارة «تُدين»، من أدان، وجهٌ أيضًا. أي كما تُدين الآخَرين وتشجب فعلهم وتستنكر- كعادة العَرَب- سيُدينونك ويشجبونك ويستنكرون عليك، والبادئ أظلم. أو هو تعبيرٌ مجازيٌّ من أدان بمعنى: أقرض، أو باع بالدَّين. فما تسمعه من بعض الناطقين المعاصرين، حين يقولون: «كما تُدين»، ليس بغلطٍ لُغويٍّ، كما اعتدنا على تسفيههم وتخطيئهم، لكنه غلطٌ معنوي، أي أنهم لم يصيبوا التعبير البليغ، المتعلِّق بالدِّين. ثُمَّ إنَّ هذا مَثَلٌ قديم، والأمثال تُروَى كما وردت ولا تُغيَّر، وإنْ كان فيها خطأٌ لُغوي. قال (ابن منظور) (1):

«وفي المَـثَل: كما تَدِينُ تُدانُ، أي كما تُجازِي تُجازَى، أي تُجازَى بفِعلكَ وبحَسَبِ ما عَمِلْتَ. وقيل: كما تَفْعَلُ يُفْعَلُ بِكَ. قال (خُوَيْلِدُ بنُ نَوْفَل الكِلابيُّ) (للحارثِ بن أبي شَمِر الغَسَّانيِّ)، وكان اغتصبَه ابنتَه:

يا أيُّهـا المَـلِكُ المَخُوفُ، أَما تَرَى
لَيْلًا وصُــبْحًا كيــفَ يَخْتَلِفــانِ؟

هل تَستطيعُ الشَّمْسَ أَنْ تَأْتِي بها
لَيْلًا؟ وهـل لَــكَ بالمَلِيْـكَ يَـدانِ؟
يــا حارِ، أَيْقِـنْ أَنَّ مُلْكَكَ زائلٌ
واعْلَــمْ بـأنَّ كمـا تَـدِيْنُ تُـدانِ! (2)

أي تُجْزَى بما تَفْعَل، ودانَه دَيْنًا أي جازاه. وقولُه تعالى: ﴿إنَّا لمَدِيْنُوْنَ﴾، أي مَجْزِيُّونَ مُحاسَبُون، ومِنْهُ الدَّيَّان في صِفَةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. وفي حديثِ سلمان: إنَّ اللهَ ليَدينُ للجَمَّاءِ من ذاتِ القَرْن، أي يَقْتَصُّ ويَجْزِي. والدِّينُ: الجَزاء. وفي حديث ابن عمرو: «لا تَسُبُّوا السُّلطان؛ فإنْ كان لا بُدَّ فقُولوا: اللُّهم دِنْهم كما يَدينونا»، أي اجزِهم بما يُعاملونا به. والدِّين الحِساب، ومنه قوله تعالى: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّين﴾، وقيل: معناهُ مالِكِ يوم الجَزاء. وقوله تعالى: ﴿ذلك الدِّينُ القَيِّمُ﴾، أي ذلك الحِساب الصَّحيح والعَدَد المُستوِي(3). والدِّين: الطاعة. وقد دِنْتُه ودِنْتُ له، أي: أطعتُه...».

 حَسْبُك.. حَسْبُك! لنَعُد إلى محور حديثنا، يا (ذا القُروح)!

 سَم، طال عمرك! وبالفعل ليس الأوان بأوان المناكشات اللُّغويَّة، ونحن نشهد انهيار المنظومات الدِّينية والأخلاقيَّة في العالم.

 صدقت.. كنَّا بالأمس نقشعر أبدانًا حين نسمع بأن ثمَّة على هذا الكوكب أكلة لحوم بَشَر، وها نحن هؤلاء نكتشف، في عامي 2023 و2024 بخاصة، أنَّ الأنظمة الغربيَّة برُمَّتها- مع وكيلها الطفيلي المحتل المختل في الشرق الأوسط- يأكلون لحوم البَشر نيئةً ويمتصُّون دماءهم، بعد انتهاك أبسط حقوقهم، لا أقول الإنسانيَّة، بل الحيوانيَّة!

 إنَّها قِشرة الحضارة، كما وصفتُها في لقاء سابق، ودِيدان الشياطين تنخر ثمار الشجرة الملعونة. وهذا لا ينفصل عمَّا كنتُ أصفه، على مستوى الخطاب الأيديولوجي، من ذلك الجهاد المقدَّس، وإنْ بالمغالطات والافتراءات، وكما تَدين تُدان.

مغالطاتٌ تتجاوز (المغالطة المكارثيَّة) المشهورة- الذاهبة إلى أنَّ البريء متَّهمٌ حتى تثبت براءته- إلى الذهاب إلى أنَّ البريء متَّهمٌ أصلًا وفصلًا، ولا بُدَّ أن تُثبَت تهمته، بعد اللُّتيَّا واللَّتيَّا والَّتي. حتى لتصل إلى درجة التماس الطُّعون من خلال القول- وبكل ثقة الحمقى- إن (محمَّدًا، عليه الصلاة والسَّلام) كان ضعيفًا في اللُّغة العَرَبيَّة ونحوِها! مع أن العَرَبيَّة كانت لُغة الأُمِّ لديه، وفرقٌ بين (لُغة الأُم Mother Language)، و(اللُّغة الأُم)!

 كيف؟

 لُغة الأُم: هي اللُّغة التي تربَّى عليها الطفل، وتلقَّاها من أُمِّه. على حين أن (اللُّغة الأُم): هي اللُّغة الأصليَّة، أو القوميَّة، وللإنسان لُغات أخرى ثانويَّة، وذلك كالعَرَبيَّة الفصحى في العصر الحديث، التي إنَّما يتعلَّمها العَرَبيُّ تعلُّمًا؛ فهي لغته الأُم، أمَّا لُغة أُمِّه، فالدارجة العامِّيَّة. ويقع الخلط بين هذين المصطلحَين في الثقافة العَرَبيَّة.

 ومَن ذا قال: إن محمَّدًا كان ضعيفًا في اللُّغة العَرَبيَّة ونحوِها؟

 تلك مهزلةٌ معاصرةٌ كبرى، حين جعل يتصدَّى (قُدس أبوهم/ زكريا بطرس)، في متلفزاته- بوصفه النموذج المعاصر على هذا التيَّار الآخذ بسياسة: خير وسيلةٍ للدفاع الهجوم، وليبرهن على أقواله- بحُجَّةٍ قويَّةٍ جِدًّا، هي كما يقول: «أخطاء في الكلمات الأجنبيَّة التي أُدخِلَت في القرآن»! وهو يقصد هنا- وإنْ في عِيٍّ تعبيريٍّ- وجود كلمات أعجميَّة في «القرآن». ليصيح: «إزَّاي يِتآل عنه إنَّه بلسانٍ عربيٍّ مُبين؟! إزاااااااي؟!» ولسان حال قداسته: «يا انهار اسوح! دا محمَّد مش بس طلع ما يعرفش نحو سيبويه، دا طلع مش عَرَبي أصلًا!» وقداسته، كما يُظهِر نفسه بهذا اللفِّ والدَّوَران، لا يعرف شيئًا اسمه لغات ساميَّة، ذات أصلٍ واحد، أو لغات غير ساميَّة، كان في العَرَبيَّة منها من المعرَّب ما هو معروف لدَى صغار الطلبة في هذا الموضوع- هذا على فرض أن العَرَبيَّة هي المقترِضة لتلك الألفاظ من غيرها لا المُقْرِضة- وفوق هذا وذاك هو لا يفقه أنَّ عروبة اللُّغة لا تعني بحالٍ من الأحوال أنها تنزَّلت على العَرَب هكذا من السماء، ولا علاقة لها بغيرها من اللُّغات البَشريَّة.

 ليس صاحبك بِدعًا في مثل هذا.

 أدري أنَّ ثمَّة تيارين متطرِّفين في هذا السياق، تيَّارًا يُحِبُّ نفي علاقة العَرَبيَّة بغيرها، ولاسيما حين يتعلَّق الأمر بـ«القرآن»؛ لأنَّه يفهم أنَّ الآية التي تشير إلى أنَّه بلسانٍ عَرَبيٍّ مُبينٍ تقتضي أنَّه بلسان العَرَب الذي لا علاقة له بألسنة البَشر الأخرى. وهذا فهمٌ ساذج، وجاهلٌ باللُّغات، وإنَّما تعني الآية أنه جاء بلسان العَرَب الذي كان سائدًا إبَّان مجيئه، ولسان العَرَب الذي كان سائدًا إبَّان مجيئه لسانٌ بَشريٌّ، أثَّر وتأثَّر، وهو سلالةٌ تطوُّريةٌ من لُغاتٍ أقدم. والتيَّار الآخَر: شغوفٌ في المقابل بعزو المفردات إلى أصولٍ غير عَرَبيَّة، لأتفه شبه. إلى درجة أنَّ أحدهم، مثلًا، طلع على الناس ليدَّعي أن كلمة «أُمنيَّة» القرآنيَّة غير عَرَبيَّة، استعملها «القرآن» لأوَّل مرَّة!

 يا سلام!

 كأنَّه لم يسمع الشاعر الجاهلي (الحارث بن حِلِّزة)(4) يقول:

إِذْ تَـمَنَّونَهُمْ غُرورًا فَساقَتْـ
ـهُمْ إِلَيكُمْ أُمْنِيَّةٌ أَشْراءُ

و(الفِنْد الزِّمَّاني)(5) يقول كذلك:

قَد تَـمَنَّتْ تَغلِبٌ أُمْنِيَةً
فهْيَ مِنها حيثُ بَيضاتُ الأَنُوْقِ

كما رَكِبَ ذلك المدَّعي أَتانًا أخرى، ذات مرَّة، زاعمًا أنَّ مادة «زخرف» في «القرآن» من أصولٍ أجنبيَّة مستوردة، وظلَّت جامدةً حتى العصر العباسي. على حين يصفعه (طَرَفةُ بن العَبْد)(6) ببيته:

أَتَعرِفُ رَسمَ الدَّارِ قَفْرًا مَنازِلُهْ
كَجَفْنِ اليَمانِيْ زَخْرَفَ الوَشْيَ ماثِلُهْ

فاستعملها فعلًا، مشتقًّا. عِلمًا بأنْ ليست كلُّ لُغة العَرَب مذكورةً في شِعرهم، بحيث يسوغ احتجاج بعضهم به لعدم عثوره على كلمةٍ فيه. ولو افترضنا وصول الشِّعر العَرَبيِّ قبل الإسلام إلينا كاملًا غير منقوص؛ فإنَّ للشِّعر لُغةً منتقاة من اللُّغة في كُلِّ عصر، وله سياقاته الفنيَّة الخاصَّة. أترى لو أنَّ أحد الناس جاء اليوم وأنكر وجود بعض الكلمات في معجم التداول في عصرنا لأنَّها غير مستعملة في شِعر الشعراء- أو حتى في أدب الأدباء عمومًا- أكنتَ ستُجلسه في غير مقاعد الحُمْقَى والمغفَّلين؟! وهذا التيَّار- المغالي في نِسبة ما جَهِل إلى غير العَربيَّة من اللُّغات- في تنطُّعه، وجرأته على الهَرْف، كسابقه. لأنَّ العلاقة بين اللُّغات أمرٌ طَبَعي، ولا يتأتَّى الجزم بأصلٍ لُغويٍّ أوَّل، إلَّا بقرينةٍ عِلميَّةٍ حضاريَّة. وفيما عدا هذا فإنَّ الأشباه والنظائر شائعةٌ بين اللُّغات، كما هي الأشباه والنظائر شائعةٌ بين ملامح البَشر.

(1) لسان العَرَب، (دين).

(2) زعموا أنَّ الشاعر يقول هنا «تُدانُ»؛ فيُقْوِي! وهذا مستحيل. فإنْ كان من خطأ ففي مخالفة القاعدة النحويَّة، التي قُنِّنت بعد الإسلام. أمَّا أن يخطئ الشاعر في أنغام قوافيه، فوهمٌ قديم، لا يُعقَل، وإنْ كان الشاعر أصمَّ أو مجنونًا أو كليهما! لكنَّ العَرَب قبل الإسلام لم يكونوا يَدينون بقواعد (الخليل) و(سيبويه)، هكذا ضربة لازب. وهو ما لم يُرِد القدماء أن يعترفوا به.

(3) بسبب الياء المِصْريَّة، التي يُصِرُّ أصحابها على كتابتها ألفًا مقصورة غير منقوطة (كالياء الفارسيَّة)، فقد وردت عبارة (ابن منظور) في طبعة (دار المعارف بالقاهرة)- المنعوتة بأنها «طبعة جديدة محقَّقة ومشكولة شكلًا كاملًا»- هكذا: «العَدَد المُستوَى»، بألف مقصورة، أُكِّدت هويَّتها بفتحةٍ على الواو قبلها! والصواب: «العَدَد المُستوِي»، بالياء. وهو ما وردَ في طبعة (دار صادر ببيروت). وكم في الطِّباعة المِصْريَّة من أخطاء، وتلبيس على القارئ، حتى في معجمات اللُّغة المحقَّقة، بسبب هذا الاستمرار المتوارث في كتابة حرفين هجائيَّين برسمٍ واحد، دون سائر العَرَب!

(4) (1991)، ديوان الحارث بن حِلِّزة، تحقيق: أميل بديع يعقوب، (بيروت: دار الكتاب العَرَبي)، 31/ 48.

(5) (1962)، الزمخشري، المستقصَى في أمثال العَرَب، عناية: محمَّد عبدالمعيد خان، (حيدر آباد الدكن: دائرة المعارف العثمانيَّة)، 1: 25.

ولم يُدرجه (حاتم الضامن) في (شِعر الفِنْد الزِّمَّاني)، الذي جمعَه. وهو من القصيدة ذات المطلع:

لَيْـسَ يُغْنِــي القَــوْلُ إِلَّا لِامْـرِئٍ
صــادِقٍ بِـالْقَوْلِ يَوْمًـا أَو مُطِيـقِ

(6) (2000). ديوان طَرَفة بن العَبْد، شرح: الأَعلم الشَّنْتَمَري، تحقيق: دُريَّة الخطيب ولُطفي الصَّقَّال، (البحرين: دائرة الثقافة والفنون- بيروت: المؤسَّسة العَرَبيَّة للدراسات والنشر)، 126.

في الديوان: «منازلهُ»، بضم الهاء. والصواب ما أثبتناه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى