الاثنين ١٤ شباط (فبراير) ٢٠٢٢
بقلم أحمد الخميسي

المفكر التنويري

عهد الملك فاروق كان معمولا بألقاب مثل الباشا والبك وصاحب العزة، الآن أصبحنا نسمع عن منح ألقاب من نوع آخر في مجال الفكر مثل:"المفكر التنويري"، وهو وصف غامض مرتبط بإثارة القضايا الدينية. وذلك المفكر التنويري مؤمن بما جاء في الآية الكريمة:"فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، فلماذا إذن يشغل نفسه ليل نهار بأولئك الذين آمنوا؟ ولماذا لا يخرج الدين وهو معتقد مقدس من دائرة النقاش إن كان يؤمن فعلا بحق من يؤمن وحق من لا يؤمن؟. إلا أن ذلك المفكر التنويري وأخوته جعلوا من القضايا الدينية موضوع جهدهم كله، وأبحاثهم، وبالتالي أصبحوا في واقع الأمر الوجه الآخر للمتطرف الديني، الذي لا يرى العالم إلا من خلال ثقب صغير، وهكذا فإن التنويري والمتطرف، الاثنين، ينطلقان فعليا من نفس الركيزة، أي رؤية العالم عبر الديانة، ولا يبحثان خلف ذلك عن قضية أخرى، وإذا كنت لن تجد في تاريخ الإخوان المسلمين دفاعا عن قضية اجتماعية محددة، فإنك أيضا لن تجد عند الأخوان المتنورين دفاعا عن قضية اجتماعية أو سياسية واضحة، لأنهم تخصصوا في موضوع الدين ولا يجدون شيئا جديرا بالاهتمام خارج تلك الدائرة. لقد قامت حركة التنوير على أن"الدين لله والوطن للجميع"، أي أن الدين شأن شخصي، وأن دور المفكرين هو البحث في القضايا التي تجمع أبناء الوطن على اختلاف عقائدهم الدينية، أي القضايا المتعلقة بالصحة والتعليم والحريات والسكن والعمل، لكن ذلك التنويري يغض النظر عن كل ما يجمع أبناء الوطن، ويبذل كل جهده في حقل آخر، ذاتي، وخاص، وهو الايمان، وفقه الدين، وما شابه. ولم يسبق أن سمعت بموقف واضح من أحد أولئك التنويريين من قضية التعليم على سبيل المثال، وهم حينما يكثرون الكلام عن الإرهاب، فإنهم يتناولونه من جانب واحد، ويلزمون الصمت التام حين يتعلق الأمر بالإرهاب الصهيوني أو الأمريكي. إنهم يرون التنوير عملية ذهنية ثقافية تستبدل أفكارا بأفكار، بمعزل تام عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ولهذا لم تتجذر قط حركة أولئك المفكرين التنويريين، ولم تستطع دفع التنوير إلى الأمام، بقدر ما أثارت ضوضاء أحاطت شخوصهم بهالة نجومية. التنوير بمعناه الحقيقي معركة اجتماعية، والفكر أحد أسلحتها، لكنها معركة تتم في المجال الملموس، حيث القضايا الاقتصادية، والسياسية، والدستورية، وغير ذلك، وليس ثمت تنوير مطلق معلق في فراغ، لأن كل تنوير مرتبط بقضايا المجتمع الملحة، لهذا يستحيل على الكتب كافة أن تنجح في تنوير انسان تعس بلا مسكن ولا عمل ولا علاج، ومن باب أولى فإن فتح موضوع الدين لن يساعد على تنويره في شيء. وشتان بين مفكري التنوير الجدد وبين مشروع التنوير الحقيقي عند طه حسين الذي قام على أن التعليم، قال التعليم ولم يقل الثقافة، هو مستقر كل تنوير، وهكذا وضع العميد الأساس الاجتماعي للقضية.

وفي حينه ربط كل المفكرين الكبار بين التنوير والظروف الاجتماعية المحددة. وعلى سبيل المثال فإن رفاعة رافع الطهطاوي، حين قام بترجمة الدستور الفرنسي، كان يضع حجر الأساس في مواجهة الحاكم المستبد بالدعوة إلى سلطات ثلاث منفصلة: قضائية وتنفيذية وتشريعية، وكانت تلك الترجمة خطوة تنويرية كبرى في ظل محمد علي، ولم يشتبك الطهطاوي مع معتقدات الناس، بل مع قضاياهم. ولم يكن على عبد الرازق في كتابه"الاسلام وأصول الحكم"يناقش المسلمين في اعتقادهم الديني، بقدر ما كان يتصدى لفكرة الخلافة الاسلامية دفاعا عن استقلال مصر، هكذا كانت الفكرة الأساسية عنده فكرة اجتماعية قومية. لكن المفكرين التنويرين الجدد، أثاروا من الضجيج أكثر مما حركوا التطور، وصرت أسمع كل يوم عن التنوير، وأقرأ عنه، وأشاهد برامج بشأنه حتى اعتقدت أن ثمة شخصا يدعى"تنوير"ربما أصادفه في الشارع فأستوقفه لأطمئن على أحواله سائلا:"ما بتجيش ليه يا تـنـوير؟".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى