الميكروفون يصطاد الأمثال من أفواه الناس
في خطوة منتظرة محفوفة بالكثير من أسئلة الحياة، وبعد صراع زمني قياسي، ناهز العقد ونيف، انبرى الباحث والإعلامي المغربي هشام لمغاري كاشفا للخزانة الأدبية الشعبية بالمغرب مشروعه الحيوي المستجمع لتاريخ اللسان الأمثلي الشعبي ذي القلق الاجتماعي والارتباط بمفاهيم الحكي والسرد الشعبي والأحاجي القديمة بالفضاء المراكشي على وجه الخصوص.
"زين الكلام" كتاب جديد يرى النور من درج فنان الميكروفون الأول بالمغرب، الإعلامي هشام لمغاري، صاحب الصوت الفرح، بدرجات عالية من الحس، وسمو بلغة الضاد وحنكة في تمرير الخطاب، يقتنص دائرة تجربته بحصيلة هامة وثقيلة مما وثقته معارف الناس وغوايات عشاق الراديو.
ثمانية آلاف مثل شعبي مغربي ومجموعة أحاجي وسلامات، تمرس لمغاري على تفتيقها وإخراجها إلى حافة الحياة، معفاة من شلل الدهر وتآكه وارتداد الاهتمام بهذا الصنف من الأدب الشفهي المندثر. وقد عمل لمغاري على تأليفه وتنويع معطياته وتبويب صنوفات مدخراته، لتعود على الماء مصفاة، غير مشوبة بالكلس أو التحجر.
لقد مارس هشام لمغاري في متون هذه العبر والحكم النظيفة بعضا من نزق الأثر ومشاع الذكر وحتوف الكلام الساجي ومواطن الألم في النفوس العديمة، فجاء الكتاب"زين الكلام" موثقا وكاشفا على أسرار التواريخ والشخوص الرئيسة والمواقف المعتمة. تجسد ذلك في طريقة عرض المثل ونبش مفاصله وتبليغ مقاصده، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بلغة هي الأقرب إلى الوجع الشعبي، بلكنتها الرديمة وروائها المثير للولع، حيث الدارجة المغربية الوسطية الملتحمة بنياط فرادتها وقابليتها للفهم والإفهام، وهو ما يعبر عنه الباحث والإعلامي هشام لمغاري:" إن هذا المجهود يهدف بالأساس إلى توثيق المثل بحسب ما يتداول، وقد روعي فيه لهجة وسط المغرب، ولهجة أهل مراكش، وأهل فاس، وروعي فيه أيضا ترتيب أبجدي لتسهيل مأمورية الباحث، أتمناه، وقد جمع أكبر عدد ممكن من الأمثال، أن يكون مرجعا للباحثين والطلبةن ولأجيال الغد، فبه ستربط بين الأمس والغد، وهي تحيا يومها بعنفوان أكيد"
لقد صحح لمغاري الكثير من" الإسرائليات" بلغة أهل الحديث، طبعا التي لحقها التلف ورانت عن هدفها الأسمى، فأوضح في بيانات أمثاله وأحاجيه ومختاراته صنوف المثل الشعبي وأوراده المستترة، فأقدم على رشح أكثر من ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط بوهج لسان الحال المغربي، كما هو، غير مبتسر، ولا مسجى بهرطقة العوام ورضوض الشارع. فجاء كتابه "زين الكلام" مشبعا بالوله الذي يكنه لمغاري لذكاء اللسان المغربي الدارج، وسعته العظمى لأن يضم اللآلئ والأصداف الناذرة مما قيل في الدنيا وما لم يقل، من بداية المعمار لنهاية العمر.
وقد برع الكاتب في ترشيح الكلام الجميل"زين" بنظم التحقيق وانتظامه، على وجه ناذر من جودة العرض ورصد أكبر قدر ممكن من المعطيات، وهو مالم يسبقه إليه أحد من الباحثين المغارب، على حد علمي، يقول لمغاري في المفتتح:"الإبحار في دنيا الأمثال إبحار ذو شجون، ففي العادة دأب العرب على استهلاك الكلام، فكان الشعر ديوانهم، وكان بالتالي الكلام الموزون، الذي استمد أرضيته من قدرة الشخص على تطويع الحروف وتجميعها في كلمات، تنم عن قناعاته وتوجيهاته ونصحه"، وهو الدور الذي تلعبه أنماط الكتابة في فنون الأمثال ونظمها. وهو الهدف الذي أمطر فكر الباحث لمغاري بشآبيب الإصغاء والتروي مدة طويلة، كان نجاح الإنصات فيها لعوالم متعددة من منازل الناس ونوازلهم كافية لالتقاط مفكرة كلامية رصينة "زين الكلام" لتكون إصحاحا شعبيا نيرا في سماء الأدب المغربي الحديث والمعاصر.
يجب التنبيه فقط إلى تلك التجربة الإعلامية الرائدة للباحث والقاص هشام لمغاري، في تكنولوجيا السمعي البصري، في التلفزيون والإذاعة، حيث شب وترعرع على إيقاع الصدق والمصداقية. كانت أصوات محبيه من الناس ديدنه ووصاله العميق لقلوب لا تزال في قناة "إم إف إم" الإذاعية الجديدة في مراكش تطاله على مرمى وثر...