النازية والصهيونية
التاريخ يكتبه المنتصرون. . . . قد لا يوجد تاريخ تنطبق عليه هذه المقولة كما تنطبق على التاريخ المكتوب للحقبة النازية في ألمانيا. فقد كتب الحلفاء المنتصرون تاريخ ألمانيا النازية، وفي أفضل حالات التجرد والموضوعية كتبوه بعقلية المنتصر، وعلى خلفية مسبقة من العداء الفكري والقومي والاقتصادي، حتى الألمان، مع تجنبهم القاطع للخوض في ذلك التاريخ، فلم يكن من المتاح لهم إلا الكتابة ضمن حيز المعاداة والشجب.
ولا ندعي أننا سنكون المنصفين، فمعظم ما لدينا من معلومات هو ما سمح المنتصرون بتداوله ونشره، ومنعوا، بقوة قوانين وضعوها، نشر أو تداول ما يخالف ذلك، ولا حاجة أن نذكِّر بالمفكرين الغربيين الذين حاولوا مجرد التشكيك ببعض وجهات النظر حول النازية، مثل: المحرقه أو ما عرف بالهولوكوست، وكيف أن المنظمات الصهيونية وخلفها التنظيمات المسيحية المتهودة كانت تقف لهم بالمرصاد، وتنال منهم على الدوام.
وأيضاً لا نريد أن نكون هنا محامي الشيطان، وندافع عن قضية خاسرة سلفاً، لأن رأي عام عالمي قد صيغ معادياً لها. كما أننا كعرب لا مصلحة لنا في تبرير ما قامت به النازية، ولا أن نرتبط بها بشكل من الأشكال، ولكن لا شيء يمنعنا من استجلاء بعض الحقيقة بعيداً عن رقابة الفكر الصهيوني وإرهابه، بل لنا المصلحة كل المصلحة في فضح علاقة تسترت الصهيونية عليها وكتمتها طويلاً عن العالم، ألا وهي التنسيق والدعم المتبادل بين النازية والمنظمة الصهيونية العالمية، وما قاما به معاً، وهو ليس اضطهاد فقط، بل قتل وتهجير بالقوة ليهود ألمانيا والمناطق التي احتلها النازيون في الحرب، حتى ليبدو وكأن الصهيونية هي من سوَّق كره اليهود في ألمانيا، وهي التي لقنت النازية أفكارها العنصرية، وقد بلغ التعاون بينهما حداً دفع المنظمة الصهيونية قبيل الحرب لدعم النظام النازي في المؤتمرات والمحافل الدولية، كما تقاسمت الوكالة اليهودية مع النازية ثروات يهود ألمانيا.
لقد لاقت الحركة الصهيونية في ألمانيا بداية الأمر مقاومة عنيفة من اليهود أنفسهم، لأنهم كانوا يعدون أنفسهم مواطنين عاديين في ألمانيا، بمعني أن اليهودية دينهم والألمانية جنسيتهم، وكانوا يطالبون بمنح اليهود حقوقهم كمواطنين ألمان، ويسعون لاندماجهم في مجتمعهم الألماني. وهذا النهج ناقض تماماً التوجهات الصهيونية، فهي تعارض فكرة اندماج اليهود في مجتمعاتهم، وتعارض منح اليهودي أي حق وطني في بلاده الأصلية إلا حق الهجرة إلى فلسطين. وهو ما تطابق تماماً مع توجهات العنصرية النازية، التي قد تكون مارست الاضطهاد ضد اليهود، إلا أنه بالتأكيد لم يشمل اليهود الصهاينة، وإنما كان فقط لليهود الذين عارضوا فكرة الهجرة إلى فلسطين.
كذلك فإن اتفاق المنظمة الصهيونية مع الحكومات المعادية لألمانيا، واستصدار قرارات منها بعدم السماح ليهود ألمانيا بدخول أراضيها، تفضح خطط الصهيونية التي تمت بالتعاون الوثيق مع النازية لطرد اليهود من أوروبا، وتبين تآمر الصهيونية على اليهود أنفسهم لتحقيق هدفها بإقامة الوطن الموعود، فلا بأس من موت عدد مهما كان من اليهود في سبيل نقل العدد الآخر إلى فلسطين. يقول روجيه غارودي: (لم يكن هَم الصهيونية السعي لإنقاذ اليهود بقدر ما كان السعي لإقامة دولة اليهود). وتحقيقاً لهذا الهدف سعت الصهيونية إلى دعم الإجراءات القمعية العنصرية التي اتخذتها النازية ضد اليهود الألمان، ولم تنظر الصهيونية إلى النظام النازي في ألمانيا على أنه كارثة قومية، كما يفترض، بل نجد أنها عدته إمكانية تاريخية فريدة لتحقيق أهدافها.
اتخذت العلاقة بين الحركة الصهيونية والحكومة النازية في ألمانيا شكلها الرسمي عندما وقَّع الرايخ الألماني والوكالة اليهودية اتفاقية هعفارا، أي النقل و التسفير، في نيسان عام 1933 واستمر العمل بها حتى عام 1939، وكانت هذه الاتفاقية من أهم ثمار التعاون الصهيوني النازي في ميدان إخلاء ألمانيا من اليهود. فقد سمحت بموجبها ألمانيا لليهود الألمان المهاجرين إلى فلسطين بنقل أموالهم معهم، مقابل إلغاء الصهيونية للمقاطعة الاقتصادية التي فرضها اليهود على البضائع الألمانية. وأما بقية اليهود في ألمانيا فقد كان النظام النازي يصادر أموالهم بدون أي تعويض، وكان الصهاينة ينالون حصتهم من هذه الأموال على حساب يهود لم يقبلوا بالفكرة الصهيونية. وشارك في الاستفادة من الأموال المصادرة عدد كبير من زعماء الصهيونية، ومنهم من تقلدوا فيما بعد رئاسة الوزارة في إسرائيل، مثل: ديفيد بن غوريون، وموشي شاريت، وغولدا مائير، وليفي إشكول.
ومن أهم أشكال تساهل حكومة الرايخ الثالث مع الصهاينة الألمان أنها سمحت لهم بالقيام بنشاطاتهم السياسية، سواء اتخذت شكل اجتماعات، أو إصدار منشورات، أو جمع تبرعات، أو تشجيع الهجرة، أي أنه سمح لهم بنشاط صهيوني كامل. ففي عام 1933 أنشئت رابطة الثقافة اليهودية، وهي منظمة تأسست بمبادرة من النظام النازي وبعض المثقفين اليهود الصهاينة الألمان، وتعبر الرابطة عن الإيمان بفكرة الشعب العضوي، والشعب العضوي المنبوذ، حيث ذهبت إلى أن أعضاء الجماعة اليهودية هم أعضاء شعب عضوي، ومن ثم لا يقبل منهم أو يحق لهم المشاركة أو المساهمة في الحياة الثقافية العامة في ألمانيا.
كذلك أخذت المنظمة الصهيونية الألمانية (هرتزيليا) تعمل تحت حماية الغستابو، ولما طالبت المنظمة إلغاء الحظر الذي يمنع أعضاءها من ارتداء القمصان البنية، كان لها ما أرادت. كما كانت المجلات الصهيونية هي المجلات الوحيدة، غير التابعة للحكومة النازية، المسموح لها بالصدور في ألمانيا، وقد تمتعت بحرية غير عادية، فكان من حقها أن تدافع عن الصهيونية كفلسفة سياسية مستقلة.
كان لنشر مذكرات عضو المنظمة الصهيونية اليهودي التشيكي إيفون روليخ، وقعاً أليماً على الصهاينة، لأنها كشفت حقيقة التعاون والتنسيق بين النازية والصهيونية، فقد احتوت المذكرات على الكثير من الشواهد التي تؤكد تعاون أعضاء المنظمة مع النازيين، ومما كتبه روليخ مؤرخاً في 20 كانون الثاني 1943: (ينقلوننا كأنما ينقلون الماشية، كالقطعان ينقلوننا ويسوقوننا، وسائقوا هذه القطعان هم أيضاً يهود يضطهدون يهوداً).
ومن أشهَر من تناول هذا الموضوع الكاتب: ليني برينر، الذي بيَّن في كتابه: (التعاون الصهيوني مع النازية) حقيقة تعاون الصهاينة، ليس مع النازيين في ألمانيا فحسب بل مع حلفاء النازية الفاشيين في إيطاليا أيضاً، وخلص إلى القول: أن سِجل الصهيونية لم يكن مشرِّفاً في يوم من الأيام حتى لليهود أنفسهم. كما قام الكاتب الألماني كلاوز بولكهين بنشر وثيقة سرية تسلط الضوء على علاقة منظمة أرغون الصهيونية الإرهابية بالنازية، مؤكداً على أن الصهيونية كانت شريكة النازية بكل ما فعلت باليهود.
إن ذلك الاتفاق والتعاون بين الصهيونية والنازية يحمل في طياته رسالة موجهة إلى عالم تغاضى عنها طويلاً، كما يكشف المضمون الحقيقي للحركة الصهيونية العالمية، ويثبت أنها صنو للنازية. ويؤكد لنا أن تحالف الصهيونية مع النازية لم يكن ظاهرة تكتيكية، ولم يكن وليد الصدفة، بل كان تحالفاً استراتيجياً، خاصة أن الصهيونية تعد الآن الوريث الشرعي للفكرة النازية، أي فكرة التفرد القومي.
وهنا يجد المرء نفسه أمام سؤال مشروع، يقول: هل التكتم على هذه العلاقة مصلحة صهيونية فقط؟ أم أن بعض الدول ذات المشاريع الاستعمارية لها مصلحة في ذلك أيضاً؟ مهما يكن الجواب فالنتيجة واحدة، وصحيح أن العالم كله دفع ثمن التطرف النازي، لكن العرب لا زالوا حتى الآن يدفعون ثمن التطرف الصهيوني، وإرهاب دولة إسرائيل المنظم.