الناقـد عبـد العزيـز بـن عرفـة يعيـش "عطالة" فكريـة
مقدمــــة
كنا نتابعه في الصحف والمجلات التونسية وأيضا المجلات العربية (الفكر العربي المعاصر ، دراسات عربية ، الموقف الأدبي ، الكرمل ، كتابات معاصرة والمعرفة السورية) استأنسنا بكتبه :
ـ "الابداع الشعري وتجربة التخوم" ـ تونس 1988؛
(حائز على جائزة رئيس الدولة التشجيعية)
ـ "دلالات الأثر في شعر رونيه شار" (ترجمة) ـ سوريا 1993 ؛
ـ "مقدمات وممارسات في النقد" ـ سوريا 1993 ؛
ط 1 : سوريا 1993
ـ "الدال والاستبدال"
ط 2 : لبنان المغرب 1993
أصبحنا نجده (أي كتبه) كمرجع من بين المراجع في الكتب التونسية والعربية ، كلما ذكرنا اسمه على من هم فاعلين في الساحة الثقافية كانت شهادتهم تجلّه كدنا ننساه ولولا صدور كتابا ترجمه "جيل دولوز أو نسق المتعدد" في طبعتين عن المركز الانماء الحضاري (ط1 : سوريا 2200) وعن دار الحوار (ط2 : سوريا 2003) وكادت أن تكون طبعة ثالثة تونسية . فعملنا على انجاز حوار معه فبحثنا عنه ، ولما وجدناه واقترحنا عليه المشروع لم يبد ترحيبا كبيرا مفتتحا كلامه :
كنت أخيّر لو أنّ الحوار الذي تريد ان تجريه معي الآن كان اثر صدور كتاب من تأليفي ، فأنا أعيش حالة "عطالة" فكرية منذ ما لا يقل عن ثلاثة سنوات أو أربعة . ولكنها عطالة مثمرة لأنني في حقيقة الأمر اعتكفت إلى الصمت وإلى العزلة وافسحت المجال للفوضى لتتمرد على النظام ذلك انني أفرطت فيما مضى في التنظير وتحريك المفاهيم وبناء الاشكاليات مما أدى إلى اغراقي في التجريد . لكن مدة السنوات الأربعة الذي ذكرتها تعرضت فيها لزلزال هز معتقداتي الفكرية وكياني . وبعد ان كنت أسير متنقلا في أماكن مضاءة بالمعرفة التي وفرتها لنا الحداثة ها انني الآني أغوص في العتمة ولا أدري متى يفضي ليلى إلى صبحي.
بدأت كتابة الشعر ولم تواصل الكتابة فيه ولكن كتبت عنه من خلال المقالات النقدية في القصائد والمجاميع الشعرية هل يمكن لك أن تقول لنا ماهو مصير الشعر في هذا الزمن ؟
الذي قيل "زمن الرواية" ولكن اتضح أنه "زمن المجهول"
الشعر عندي وسيلة تتمظهر للغة من خلاله لتبدو في أبهج حللها . ولقد كنت دائما عاشقا للغة . ولكن اللغة كائن حي يجدد خلاياه باستمرار . لذلك يمكن اعتبار الّنص الشعري فعل ثوري يتمرد على ميكانيكية اللغة . اللغة في القاموس هي في وضع سكوني جامد لا تاريخي لكن منذ ان تتحول الى نص شعري تصبح تنبض بالحميمية ، تصبح فصلا من الحرارة ترتفع درجاته أو تقل حسب تنوع نغمات الأسلوب ملحميا كان أو غنائيا أو تراجيديا أو ساخرا إلخ...
لذلك كانت قراءتي للشعر بمثابة الحدث المعرفي الذي بادرت ذاتيتي القيام به . لذلك كتبت شعرا حول الشعر تتناسل خلاياه كأنه كائن جنيني فالشعر الذي مارسته متمحور حول الصيرورة الابداعية للشعر . لأن تثوير الصياغات الجاهزة هي رجّ للشكل السائد وتجاوز لما يحمله من تصورات وايديولوجيات ورؤى وأفكار . وفي فترة لاحقة انشغلت أكثر بالإشكاليات وبالمفاهيم وبصياغة الأسئلة وبحركة الفكر وهو يعمل ضمن حقل معرفي محدد أو داخل حدود خطاب معين .
ولكن هذه المرحلة لا تنفي الأولى . فمهما يتعاضدان فنحن نلاحظ ان الفترات التاريخية التي ثار فيها الفكر على طرق تدخله قد واكب ذلك ثورة لسانية وتحول لغوي ملحوظ من ذلك : عصر النهضة ، عصر الأنوار ، السريالية ، البنيوية . واعتبر ان الشعر سبّاق إلى التحولات ومؤثر لها وبما ان الفترة الحالية هي فترة يطغى عليها التمدرس وتداول الآليات الفكرية والنظرية لتطبيقها في المخابر الجامعية وفي المعاهد فإن السائد ليس الخلق وانما المنحى البيداغوجي التبسيطي للمفاهيم ولمناهج البحث وما يستتبع ذلك من تتلمذ وتنافس على احراز المقاعد والشهائد . لذا فالشعر يستقيل عن دوره الريادي الاستشرافي ليتحول الى تمارين انشائية تساهم في ترسيخ المعلوم والجاهز أكثر مما تحاور المجهول وتحدث التوتر التراجيدي الجدير بالأزمنة الشعرية .
وإذا كان ميزان القوى الآن في الساحة الثقافية لصالح الرواية فهذا لا يعني ان فترتنا هي العصر الذهبي للرواية فجل الروايات التي تكتب الآن لا تضاهي الروايات التي كتبت في القرن التاسع عشر بلزاك ، استندال ، فلوبير الخ ...
أو في بداية القرن العشرين : بروست ، جويس ، ميزيل . ولكنني اعترف ان ثمّة إقبال على مطالعة الرواية غير ان ذلك يعني ان الرواية هي حقل يستثمره النقاد والجامعيون والطلبة لتطبيق المناهج البنيوية ومقولات النقد الأدبي الحديث فقرائتنا تحولت الى تمرين مدرسي لا يخلو من تكرار والدليل على ذلك انخراط الكثيرين في تبني هذا السلوك مما يورث التقليد والتجانس وينفي التفرّد الخلاق.
قلت في كتابك :" مقدمات وممارسات في النقد" : المرأة اليوم ومستقبلا هي حسب زعمي ، الاستعارة الأخيرة التي علينا ان نطلق عليها النار . فماذا تقصد ؟
هي فعلا استعارة لأن الحلم يشتغل بالإستعارة ثم ان الاستعارة تحجب أكثر مما تكشف . فالمرأة كائن معتم ، غامض ، هو لغز الوجود حسب فرويد لكن التجربة مع المرأة ليست مسألة معرفية وإنما هي مسألة انطولوجية . لذا قد تخفق الايديولوجيات والسياسات حين تقدّم مشروعا جماعيا لأن المرأة لمفاتن جسدها الذي تعمل جاهدة على ابرازه ليتمحور الانتباه الذكوري حوله قد تعد بجنة جنسية ولكنها قد تكون قدرا يلحق بالكائن البشري فتكون سببا في شقاء محتوم . وحسب تجربتي الانطولوجية معها فإن استعاب السطح أو المظهر لا يستقيم إلا لمن خبر تجربة العمق كثيرون من المفكرين العمالقة كانوا يحترزون من السحر الذي تمارسه مفاتن مظهر المرأة . وكما ان السلطة تقاس نجاعتها بقدرتها السيطرة على تراب البلاد وحدوده ، هكذا أيضا بالنسبة للمفكر الحديث فإن نباهته تقاس بمدى قدرته على مقاومة الاغراء والتصدي له مهما كان مظهره .
أتيت إلى الفلسفة من الأدب وأنت خريج لغة وآداب فرنسية
فما سر ولعك بالفلسفة ؟
كان لي دائما اهتمام بالفلسفة دون ان أكون مرجعا او مختصا . الفلسفة التي تعنيني ليست مضمونا فكريا يمكن تلخيصه وعرض تيماته ، إنما الفلسفة عندي هي جملة من الاستراتجيات التي يستحدثها الذّهن ليخصب المعنى وهذه الاستراتيجيات تبلى وتتجدد باستمرار ولولا هذه الاستراتيجيات لما تعلمنا طرق التأويل والتفسير والتحليل وطرافة توجيه الفكر نحو أفق آخر مغاير لم يرتده من قبل وأيضا لما ارتقينا بالأسئلة من دورها البيداغوجي التبسيطي الساذج إلى مستوى الإشكاليات التي تطرح في شكل ألغاز تتضمن مفارقات محيرة .
بدأت مع باتاي ولاكان وبارت مرورا بدريدا إلى جيل دلوز
فلماذا كل هذا الاهتمام بهؤلاء ؟
أما باتاي فقد كنت أتكئ عليه أيام المحن لقد كان يرافق عزلتي فهو مثلي لا يقيم مستريحا في الوجود . وأما لاكان فقد أعاد صياغة نظرية التحليل النفسي فنزّلها ضمن سياق ومفاهيم ومقولات لسانية . وكان ساعتها محور انتباه كثير من المفكرين المنشغلين سواء بالنقد الأدبي أو بالسوسيولوجيا أو بالفلسفة الخ ... لكن البعض ، الآن ، يعتبره مشعوذا ، ويعتبر قراءته لبعض الآثار (الأدبية) غير دقيقة ومتعسفة وأما بارت كنت قمت بدراسة نقدية أدبية لكتابه "بارت بقلم رولان بارت" وقد قمت بهذا العمل للحصول على شهادة الكفاءة في البحث مرحلة ثالثة . وقد نبهني دريدا إلى أننا اليوم لم يعد لنا مرفأ نستنجد به وإنما هناك فقط مغامرة أساسها التيه . جيل دلوز قارئ جيد لسبينوزا ، ولبرغسون ، ولنيتشه ، وبروست . وهو في قراءته لهؤلاء ينحو منحى كلاسيكيا متأنيا . وربما كان أهم كتبه هو "ألف ربوة (Mille Plateau) ولكنه عسير الفهم على القارئ المتواضع . أما حسب آلان باديو فإن أهم كتب دلـوز هي "الثنيــــــة". (LE PLIT).
رغم انهم من المختصين في الفلسفة ولكنهم يهتمون بالأدب
هؤلاء الفلاسفة الجدد انشغلوا بالأدب وتأويله ومن هنا تأتي أهميتهم بالنسبة لي فطريقتهم في تناولهم للآثار (الأدبية) التي يقرؤنها طريفة وجادة ثم إنهم هم الذين رسموا معالم الحداثة وتوجهاتها بأن جدّدوا أدوات البحث واستحدثوا مفاهيم جديدة تأخذ بعين الاعتبار التحولات التي أحدثتها اللسانيات والبنيوية والبرقماتية.
كنت من حامل لواء "الحداثة" واصبحت الآن مرتدا عليها وإن لم تصرح بهذا .
فهل لك ان توضح لنا ذلك
الحداثة انجاز معرفي مهم ثورة كوبرنيكية في التأويل والتلقي والتقبل تظافرت جهود عدة وحقول معرفية مختلفة في نحت ملامحها ورسم معالمها وكانت استشرافا لأفق جديد ترتاده المعرفة . تعددت الورشات النظرية وكثر التفاؤل وتحددت طرق اخصاب المعنى وتأويله انطلاقا من الشكل وكان الانطلاق دائما من اللسانيات والبنيوية مما أدى بالبعض الى الرسكلة والتتلمذ من جديد . لأن أدوات البحث قد تغيّرت ولقد انخرطت في تيار الحداثة وحاولت استيعاب مقوماته النظرية والتطبيقية وحاولت الاسهام من موقعي المتواضع . ولكن بمرور الزمن خفت بريق الحداثة . وتوفى العديد من منظريها الكبار : لاكان ، بارت ، دلوز ، ألتيسير ، فوكو إلخ ... ثم هي تحولت شيئا فشيئا الى تمرين مدرسي وإلى أدوات تحليلية جاهزة تتداولها الكليات والمعاهد وطغى التكرار على الخلق وأصبحنا نترقب ثورة معرفية اخرى تستجيب لعقّد الواقع الحالي الذي تعجز النظريات الموجودة الآن على المسك به .
يعتبر على حرب نفسه مفكر "ما بعد الحداثة"
وأنت لماذا لا تكون كاتب " مأزق الحداثة ؟
لقد أتيت غريبا ، وسأذهب غريبا . فلا الحنين الى ارض الميتا فيزيقيا القديم يستهويني ولا التجذر في المادية الحديثة يجذبني بالأمس ساد النسق الرباعي للقيم : الخير والجمال والحق والعدل . لقد كانت الروحانيات مطلبا وجوديا ولكن منذ ديدرو وصاد وهلنباخ ... نحا الفكر نحو تخليص المنحى المادي من شوائب الروحانيات ـ ومرورا بنيتشه ـ فقد وقع استبدال الخير بالشر ، والله بالشيطان . أي أن الدعوة الحديثة سعت إلى تحرير الإنسان من الأخلاق . فجاء على لسان الجدد أن الحياة لعبة بريئة يلعبها القوي والمتفوق دون تدخل للأخلاق للحكم عليها . لذا فإن كل ما نلاحظه من ظلم وقهر وفساد ليس في نظر هؤلاء الجدد سواء ترسب الحكم الأخلاقي في وجداننا فإذا انتفت الأخلاق ـ أي الحكم الأخلاقي ـ وأصبح بنسق القيم الرباعي فإن لعبة الوجود بين القوي والضعيف هي لعبة بريئة . فإذا نحن فهمنا الحداثة على هذا النحو فإنما تصبح فعلا مأزقا اي أنها ايديولوجيا جديدة تبرر "إرادة القوة" وتسوغ تصرف "الإنسان المتفوق" وتجعل من نيتشه نبي الأزمنة الحديثة . ثم ان الانسان في زماننا أصبح تائها وهناك من تنبأ بموته لأن البضاعة أخذت واحتلت مكان الصدارة بما في ذلك جسد المرأة (انظر تحليلا مستفيضا في هذا الشأن في كتاب "جون بودريار" بعنوان "مجتمع الاستهلاك" La société de consommation)
ابن عرفة عارف بعدة حقول معرفيه منها التحليل النفسي ، الفلسفة ، النقد الأدبي ،
فأي الخطابات من هذه لم تصبها العطالة . ولماذا ؟
يكفى الإشارة الى بعض عناوين الكتب التي صدرت في السنوات الأخيرة "أفول الكتابـــــــــة" (le déclin de l’écriture) أو نهايات الروايات الكبيرة (La fin des grandes récits) أو نهاية الفلسفة la fin de la philosophie) الخ ... كما ان علماء البيولوجيا والفيسيولوجيا هم بصدد تسجيل أهداف واضحة لأصحاب الاختصاص في ميدان التحليل النفسي .
وحسب رأيي فإن المشهد المعرفي المستقبلي سيكون منقسما إلى معرفة علمية من شأن ذوي الاختصاص "المتفوقون" ومعرفة جماهيرية ، شعبية ، للعامة والضعفاء.
اعتبرت نفسك من كتاب "الاختلاف" في الوطن العربي مثل كاظم جهاد وهاشم صالح ومطاع مفدي وغيرهم ولكن أيضا اعتبرت نفسك كاتب "الاختلاف" في تونس . فما كل هذه النرجسية ؟
لقد رجوت القارئ ان تتسع رحابة صدره لقبول هذا التصنيف الذي اجريته ولكن الأمر لا يتعلق بتصنيف وانما بموقع نضالي ليتصدى لكل أنواع الفاشية الفكرية الحديثة انني لا أقبل حشري ضمن مشروع موجود يجمع الأفراد مختلفين تحت راية واحدة سواء كانت ممارسة سياسية او تصور ايديولوجـي ، او رؤية فنية لأنني غريب وغربتي ليست لها نهاية لا عائلة لي ولا فريق . لا شرق لي ولا غرب.