النقد الحديث والاقتراض الاصطلاحي
من السمات البارزة التى يتمتع بها النقد الحديث ولا سيما فى مرحلة الحداثة وما بعدها هو تداخله مع الكثير من الحقول المعرفية. ولعل أبرز ما يوضح هذا التداخل هو إفادة النقد الحديث فى صياغة مصطلحات جديدة تعرفها واستعارها من هذه الحقول والعلوم المختلفة. نكاد لا نرى علما أو حقلا معرفيا إلا وأفاد منه النقد الحديث. تلك الإفادة فى حد ذاتها تعد مؤشرا وبوصلة تشير إلى الاتجاه العلمي الذى سلكه النقد الحديث ولا سيما منذ تعرفنا تيارات الحداثة وما بعدها.
ولا ينبغى أن يدفعنا هذا إلى شىء من الغبن تجاه النقد القديم أو نظلمه ونحاكم القدماء بثقافتنا نحن اليوم. الحق يقتضى الإنصاف والموضوعية ، فلولا النقد القديم لما كان النقد الحديث. وحين نهضم مورثنا النقدى هضما جيدًا ونعيد قراءة النصوص النقدية القديمة بعين جديدة وفق آليات التلقى الكاشف ، فإننا سوف نكتشف أن الكثير من نظريات ومناهج النقد الحديث إنما بذورها موجودة فى تراثنا فى موروث النقد العربى القديم الذى صاغه نقادنا الأوائل.
من هنا فإن طبيعة العصر عند القدماء لم تكن تسمح لهم بهذا الانفتاح بين النقد والمجالات الأخرى. أما فى العصر الحديث فإن طبيعة العصر وتطوراته المعرفية سمحت بهذا التداخل، ومن ثم كانت تلك الإفادات الهائلة التى حققها النقد الحديث.
ومن تلك المجالات التى أفاد منها النقد الحديث فى الاقتراض من مصطلحاتها نجد:
. الطب: ظهر فى النقد الحديث استخدام مصطلح "تشريح النص"، فاقترض اصطلاح "تشريح" ليدل به على عمق التحليل النقدى الذى لا يترك شيئا فى النص إلا وكشفه وتعرفه. بل إن بعضًا استعاروا هذه اللفظة فى تعريف النقد بأنه وصف وتشريح العمل الأدبى، ولم يقنعوا بعبارة وصف وتفسير العمل الأدبى، حتى وضعوا كلمة تشريح بدلا من تفسير .
. الهندسة: ظهر استخدام بعض الاصطلاحات المرتبطة بالهندسة، ومنها "عتبة النص – دهليز النص – البناء المعمارى للنص"، فعتبة النص تطلق على العنوان أو أول ما يطالعه المتلقى فى النص، ودهليز النص هو المدخل إلى لب النص والفكرة الرئيسة، والبناء المعمارى للنص هو البناء العام للنص الذى يشمل كل عناصره البنائية. وازدهرت هذه الاصطلاحات بازدهار تيار البنيوية.
. الرياضيات البحتة: أفاد النقد الحديث من بعض مصطلحات الرياضيات ومن ذلك: ديناميكا، استيكا أو استاتيكا. فالديناميكا علم الحركة، والاستيكا علم السكون، فانتقل ذلك إلى النقد ليعنى بديناميكية الجملة أى حركية لغتها والحدث فيها، أما الجملة الاستاتيكية أى التى فيها حالة سكون وثبات، ومن أبسط النماذج فى ذلك ما يقال عن الجملة الفعلية أنها تدل على الحركة والحدث، أما الجملة الاسمية فهى تدل على الثبات.
. علم النفس: أفاد النقد الحديث من مصطلحات كثيرة فى علم النفس، ومنها: الوعى، اللا وعى. وازدهر هذان المصطلحان مع ظهور منهج التحليل النفسى فى الأدب. كما نجد مصطلحات نفسية أخرى أفاد منها النقد، ومنها: الأنا، تضخم الذات، النرجسية، دافعية، سيكولوجية.
. الفلسفة: أفاد من الفلسفة ومن ذلك اصطلاح "البرج العاجى" الذى يطلق على الفئة التى تعيش فى علو، بعيدًا عن حياة العامة ومشكلاتهم وواقعهم فلا يدرون عنهم شيئا، وكأنهم يعيشون فى برج عال مبنى من العاج الذى لا يملكه إلا خاصة الأثرياء. فأصبح النقد يستخدم اصطلاح "أدب البرج العاجى" ليصف به الأدب الذى ينفصل عن المجتمع وهمومه ومشكلاته، الأدب الذى يكون كاتبه وكأنه فى برج من العاج لا يعرف عن الناس شيئا.
ومن المصطلحات الفلسفية نجد : الجوهر والعَرَض، والجوهر هو أصل الشىء، أما العَرَض فهو المحيط الخارجى للشىء، وكان العقاد باكورة استخدام هذين المصطلحين حين وظفهما فى نقده لشعر شوقى، إذ رأى أنه مولع بالأعراض دون الجوهر، أى أن شوقى يصب كل مجهوده فى الإطار الخارجى للفكرة ولا يهتم إلا بسطح المعنى دون أن ينفذ إلى العمق.
. الموسيقى: أفاد النقد من بعض اصطلاحات الموسيقى، ومن ذلك اقتراضه للمصطلحين "كيرشندو / فيوجى"، والكيرشندو هو التصاعد النغمى، أما الفيوجى فهو التكرار النغمي.
. الحاسب الآلى: اقترض من الحاسب الآلى عدة مصطلحات ومنها "أيقونة" والأيقونة هى ملف رئيس يحتوى فى داخله على العديد من الملفات. فأصبح فى النقد يعنى الشىء الواحد يحتوى فى داخله على الكثير من الأشياء، مثل الفكرة الرئيسة التى تضم العديد من الفكر الجزئية.
. الاتصالات: ومن أشهر ما اقترضه النقد من مجال الاتصالات هو مصطلح "الشفرة" فالشفرة هى علامات أو رموز تدل على شىء خفى يستتر خلف تلك العلامات والرموز الشفرية، من هنا استخدمه النقد بكثرة مع النصوص التى تعتمد على الرمز الذى يحتاج لعملية كشف وفك لنصل إلى المعنى المقصود. كما استخدم أيضا اصطلاح "الإشارة" ليصبح فى النقد الكلمة الدالة التى تدل مباشرة على معنى واحد لا يقبل الاختلاف.
. العلوم التطبيقية: اقترض النقد من اصطلاحات العلوم التطبيقية ومن ذلك "تقنية" ليعنى به فى النقد آلية صياغة العمل الأدبى وطبيعة تكوينه.
. علم الاجتماع: من أبرز ما اقترضه النقد من علم الاجتماع اصطلاح "أيدوليچم" ويعنى به مجموعة العقائد والأفكار.
وأدخلته جوليا كرستيفا رائدة التناصية فى ميدان النقد لتعنى به مجموعة العقائد والأفكار المشتركة بين مجموعة من النصوص.
. الفلك وما وراء الطبيعة: من أبرز ما اقترضه النقد اصطلاحى "فضاء" و "ما وراء"، الفضاء استخدمه فى شق اصطلاح جديد وهو فضاء النص ليعنى به المعانى غير المباشرة الكائنة خلف النص فنصل إلى المجهول من خلال الدوال المعلومة. وكذلك اصطلاح "ما وراء النص" الذى يرادف الاصطلاح السابق، وكلاهما كان بزوغ استخدامه فى النقد مواكبًا لإجراءات التفكيكية.
وختاما فإن رحلة الاقتراض الاصطلاحى لا تنتهى فهى مستمرة فى اطراد ونمو، مما يدل على آليات جديدة يتمتع بها النقد الحديث وحركة انفتاح تستوعب تطورات العصر ومجرياته وتتوافق مع كل جديد، ولعل هذا مما يفسر لنا التطور المستمر للنقد الحديث والظهور المستمر لمصطلحات جديدة.