الأحد ٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٥

الهيمنة الرأسمالية والبيئة في روايات صبحي فحماوي

نعمان ثابت

في روايت "الإسكندرية 2050" يصف االروائي (صبحي فحماوي) الدمار المتسارع الذي أحدثته الرأسمالية على أنه (تغيرٌ بيئيٌ)، وبنفس الطريقة يقدم النقد البيئي تحليلاً دقيقاً للتوظيف الرأسمالي، حول كمية المصنّعات والفضلات، فإنَّ الاعتبارات الأخلاقية سوف تبقى ثانوية بالنسبة للربح المادي، فالقوانين الاقتصادية الرأسمالية تنتج بالتأكيد سلوكاً ينتهك الغاية في الاعتدال والعناية بالأنظمة البيئية والطبيعية، وهذا ما أكدته الرواية من خلال قول (برهان): "لقد أنشأت مزرعة الأعضاء البشرية مدينة طبية إكثارية قريبة من مدينة (فيسبادن)، وقد بدأ نشاطها بمختبرات ومعامل للإكثار بالاستنساخ، فأخذوا خليتين، واحدة من رجل وأخرى من امرأة نموذجين في صحتهما وذكائهما، وقبل أن يكثروهما، تفحصوا خارطيتهما الوراثيتين، فاستبعدوا من كل منه

ما أي مرض أو نقطة ضعف، وزرعوا فيها جينات مقاومة لكل الأمراض الوبائية والفيروسية المستعصية وبعد أن نجحت التجربة، أنتجوا طفلين ذكراً وأنثى بنفس المواصفات، ثم أخذوا خلابا من أعضاء الطفلين، وزرعوها، فأنتجوا أعداداً من القلوب والكلى والشرايين والأعضاء البشرية النموذجية، وزرعوها كتجارب لمرضى منتظرين الفرج. وعندما نجحت تجاربهم، اندفعوا بالإنتاج بهدف البيع").

يوضح هذا النص جشع الرأسمالية وتوحشها، إذ أنشأت مزارع خاصة لزراعة الأعضاء البشرية الغرض منها زيادة الربح حتى ولو كان ذلك على معاناة البشر، ضارباً بعرض الحائط تلك القيم والمفاهيم الأخلاقية المرتبطة بكرامة الإنسان واحترامه، واستبدلت بقيم ومفاهيم تحكمها الرؤى المركبة من المادية والنفعية، التي تنظر إلى الإنسان على أنه سلعة إنتاجية يمكنهم من الاتجار بها. وهذا ما نادى بيه الإيكولوجيون الاجتماعيون على إنَّ المشكلات البيئية تنبثق من أنظمة السيطرة واستغلال البشر للبشر.

وكما في رواية (الإسكندرية 2050) تظهر الهيمنة الرأسمالية في رواية (الحب في زمن العولمة). حيث تدور أحداث هذه الرواية حول حياة الملياردير (سائد الشواوي) الذي يمثل رأس المال المتوحش الذي يصاب بالإيدز، ويدخل على أثر ذلك في غيبوبة تجعله يهذي على سرير الموت، فيقص للمتلقي قصة حياته، وهو يمارس الأساليب التي تسلكها هذه الرأسمالية المتوحشة القائمة على (حرية) النهب والسلب، واستخدام كل الموبقات الإنسانية، والجنسية، وجرائم القتل بحرية تامة، واللامبالاة في تدمير البيئة التي نعيش فيها على سطح الأرض، ومنها ما جاء على لسانه وهو يهذي ويكلم نفسه: "سأستورد الإسمنت من الأردن، يقولون إنَّ فيها إسمنت بورتلاندي، وأنا لا أفهم معنى كلمة بورتلاندي، ولكنني أفهم أنه باعوا المصنع للغرب باسم الخصخصة، وأكلوا به حلاوة! فقال لي مهران الكلب في ذلك: شلَّحنا الغرب، حتى تراب بلادنا، فقلت له: لكنه يبقى إسمنت عربي أردني، وإن طال الزمن! فقال: ولكن عن أي زمن تتحدثون؟ تلوث البيئة لنا ولأولادنا، وأما أرباح المصنع فتذهب للغرب، ولا يأتينا من المصنع سوى ضراط الغرب؛ غبار وغازات وتلوث بيئة!"().

يرصد الكاتب بأسلوب ساخر الهيمنة الرأسمالية للغرب، فأصبح بإمكان القارئ أن يرى كيف تسهم العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أنماط استهلاكنا، التي تترك تأثيرات مدمرة على البيئة. وأهم المشاكل البيئية تلك الناتجة عن التلوث الصناعي، وهذا ما أشار إليه (مهران)، أنَّ هذه المصانع تطرح الغازات والسموم والأتربة وأرباحها تذهب إلى الرأسماليين في الغرب النقي، لأن "أنماط الاستهلاك في الدول الغنية هي السبب الرئيسي وراء التلوث البيئي وتدمير واستنفاذ الموارد وإنتاج المواد السامة"()، فضلاً عن التلوث البيئي الذي تخلفه هذه المصانع، فهي أيضاً تستنزف المواد الطبيعية للبيئة، ومن ثم تذهب أرباحها إلى جيوب الرأسماليين الأجانب من غير أن يمس التلوث بيئاتهم.
كما يُشيع في هذا النص صور نقدية للإيديولوجيا الرأسمالية بوصفها المنظومة الفكرية التي تقف خلف الاستغلال الصارخ للمنظومة البيئية. يعلق الكاتب بوعي بيئي على التدمير المُمنهج للأرض والطبيعة التي تقطنها المجتمعات المحلية، فيتم تدمير مناطقها نتيجة عمليات التعدين وصناعة مادة (الإسمنت).

إنَّ الهيمنة الرأسمالية لا تنظر إلى البيئة إلا من جانب تحقيق الأرباح والمصلحة الذاتية فقط، وهذا ما أكده (مستر رالف وود) مستشار (الشواوي) في محاضرته قائلاً: "التجارة تجارة، (بزنس أز بزنس)، أنا مستعد أن أبيع غيوماً في السماء، إذا وجدت من يشتري مني هذه الغيوم بأسعار مربحة! ولا اُمانع في دخان المصانع ومجاريها التي تلوث ال... فها هو تلوث الينابيع والأنهار يخلق تجارة جديدة لبيع زجاجات الماء النظيف، إنَّ دورنا هو التفكير بفرص التجارة الجديدة، وليس وقف التلوث، فلا تتشاءموا، فإنَّ التلوث قد خلق تجارة رابحة، ونحن لا نستطيع أن نخلق الكون!، ونحن غير مسؤولين عن البيئة، فإذا كانت غرامة دخان المصنع ألف دولار مثلاً، بينما بقاء المصنع في منطقة غير مسموح بها يوفر عليَّ ألفي دولار، فأنا أُقرر إبقاء المصنع في مكانه، وأدفع الغرامة وأنا مرتاح، ولا تستغربوا إذا ما أدى تلوث الهواء، إلى درجة خلق لنا نحن التجار فرصة بيع الهواء المعلّب، مثل زجاجات الماء النقي، وإذا كانت غرامة النفايات النووية المرسلة إلى الصحاري العربية تكلف مليون دولار مثلاً، بينما توريدها إلى تلك الصحاري يربح شركتنا الناقلة للنفايات النووية عشرة ملايين دولار، إذن ندفع الغرامة ونشحن البضاعة، إنها بضاعة مثل سائر البضائع"().

من خلال النص أعلاه نلاحظ أنَّ العلاقة بين البيئة والرأسمالية علاقة متوترة مبنية على المصلحة المادية، حيث يفصح الكاتب عن منظور الرأسمالية الذي يضع قيمة المال فوق قيمة الحياة البشرية، وفوق قيمة البيئة الطبيعية، كما تظهر النزعة الموجودة لدى ثقافة الرأسمالية باعتبار كل شيء في الوجود (سلعة). بما في ذلك حياة الإنسان وصحة البيئة، وهذه الرؤية في نظر (مستر رالف وود) ليس خللاً أو انحداراً، فهذه الشخصية بحكم مهنتها كمستشار اقتصادي لشركات (الشواوي) تعمل على خلق الظروف الملائمة التي تسمح بتراكم المال وتضمن النمو الاقتصادي، لذلك فهو لن يسمح لقضايا مثل منفعة البشر أو نقاء البيئة وصحتها أن تقف عثرة في طريق هدفه.

إنَّ مظاهر الحياة في (مدينة العولمة) ملوثة بشوائب مادية وانتهازية، فقدَ فيها الإنسان قيمه وأخلاقه، وتمسك بحب المال والسلطة والجاه الذي يبقيه في القمة للهيمنة على البشر وغير البشر، فإنَّ الوصول إلى منتجات الصناعة الحديثة، وإلى التجارة بأشياء ضرورية، مثل الهواء والماء النقي، كل هذا من إفرازات النظام الرأسمالي والتوسع العمراني والصناعي، وبالنتيجة سيخلق لهم ذلك فرص للمتاجرة وزيادة الأرباح، وهذا ما تجلى في النص أعلاه.

يُشير النص كذلك إلى ظاهرة (تصدير التلوث) إلى (الصحاري العربية) حسب تعبير الرواية، إذ أكد (لورنس سمرز) وكيل وزير الخزانة الأمريكية في مذكرته أنَّ الولايات المتحدة وجدت من المعقول اقتصادياً تصدير تلوثها ونفاياتها السامة إلى الدول الفقيرة وبنى حجته على ثلاثة أشياء: أولاً، من الناحية الاقتصادية، فإنَّ تكلفة الأمراض المرافقة للتلوث إذا قِيست بمقياس الوقت الضائع للعمل، تظهر نتيجتها أقل في الدول ذات الرواتب المتدنية، وثانياً: الدول النامية تعد أقل تلوثاً، وبالنتيجة فإنَّ زيادة في التلوث تُعد أقل تكلفة منها في الدول المتقدمة، وأخيراً، أنَّ توقعات الأعمار لدى سكان الدول الأقل تطوراً هي أقل من الدول الغنية، باختصار، لقد وضح (سمرز) أن البيئة النظيفة تليق بسكان الدول الغنية أكثر من سكان الدول الفقيرة، ولذلك فإنَّ كلفة التلوث البيئي في الدول الفقيرة هي أقل من كلفته في الدول الغنية، ومن ثمة فإنَّ المنطق الاقتصادي يوجب علينا تصدير النفايات الملوثة إلى الدول الأقل تطوراً().

لقد شكّلت مذكرة (سمرز) تعبيراً تاماً عن النظرة الفوقية التي تنبثق منها ثقافة الرأسمالية بالنسبة للإنسان والبيئة، لذلك يسعى النقد البيئي إلى نقد الإيديولوجيات المهيمنة والأنظمة المسيطرة للقوة الحضارية، والنظام المالي للرأسمالية، وثقافة الاستهلاك المستمر للبيئة الطبيعية، وهذا ما يريد الكاتب إيصاله إلى ذهن المتلقي ليحفز وعيه بالمحيط البيئي.
إنَّ أهم ما في الخطاب لغته ومجازاته، لذا حرص كثير من المفكرين المعاصرين على التأكيد أنَّ خلف كل خطاب ظاهر آخر مضمراً، وهذا الخطاب المضمر هو الذي يجب أن يعنى به الباحثون والدارسون لمعرفة دلالاته والغرض من وضعه، فمصطلح (الصحراء العربية) الذي وظفه الروائي على لسان الشخصية الانتهازية الغربية(مستر رالف وود) ينقل إلى ذهننا صورة أرض ممتدة بلا تراث أو تاريخ، فلو قال (العالم العربي أو الوطن العربي) المصطلح الذي يستدعي التاريخ والتراث والهوية، لكانت أكثر مقبولية لدى المتلقي من المصطلح السابق. وهكذا هناك مصطلحات عدة تُوظف في الكتابات السردية العربية- سواء بوعي أو من دون وعي- تنقل دلالات خاطئة للمتلقين، وبالنتيجة يتم تشويهها، وتحقيق المقصد الغربي، كل هذا يجعلنا نؤكد أنَّ لغة الخطاب وصوره المجازية تساعد على تمرير تحيزات محددة وفرضها بشكل خفي لصالح إيديولوجيات معينة.

(مدينة العولمة) – كما تصورها الرواية - مكان غير محدد بدولة معينة، يصف بها الروائي التحولات التي عرفها العالم العربي جراء ظاهرة العولمة التي باتت تفرض هيمنتها على الإنسان، وتشكل مصدر قلق واضطراب لدى الكثيرين، بعد أن غيَّرت من القيم والطباع والأخلاق، وهذا ما تجلى في قول (رالف): "إنَّ الدول الغربية تنتج مزروعات ومبيدات لا تسمح بدخولها إلى نفس بلادها، تنتجها في مزارع ومصانع قائمة على أراض إفريقية أو آسيوية أو أمريكية لاتينية، وهي مخصصة للبيع في تلك الدول، ذلك لأن المواد الكيماوية المستخدمة فيها لا تجعلها صالحة للاستهلاك الغربي، ولكنها صالحة تماماً لاستهلاك الدول الفقيرة، وحتى تلك المنتهية صلاحيتها في دول الغرب، هي صالحة للاستهلاك في الدول النائمة! فضحك سائد قائلاً: (يا رالف! اسمها الدول النامية، وليست النائمة!) فأجابه رالف وهو ينفض سيجاره الكوبي:(هي لو كانت نائمة لكانت أحسن، ولكان هناك مبرر لتأخيرها!"().

في النص أعلاه نقدٌ واضحٌ وصريح لهيمنة المركزية الغربية، التي لا تراعي إلا مصالحها، ولا تلتفت إلا إلى ما يضاعف أرباحها، من خلال تصدير التلوث والمنتجات غير الصحية إلى الدول المهمشة والمبعدة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً. الكاتب (صبحي فحماوي) يوظف هذه النصوص من أجل فضح زيف الرأسمالية المهيمنة على البشر وغير البشر، وبما أنَّ الأدب قوة إيكولوجية ضمن الثقافة، فهو تفكيكي وبنائي بالوقت ذاته، فيعيد النظر ولو بصورة رمزية إلى المهمش ويعيد ربط ما هو منفصل ثقافياً().

نعمان ثابت

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى