الورشة الغربية لصناعة المبدعين
قيل الكثير وما زال يقال حول حياد الجوائز العالمية الغربية، إذ أن دول العالم الآخر ـ أي الثالث ـ ليس لها أية علاقة من قريب ولا من بعيد في تنظيم أوتتبع أومنح تلك الجوائز...
هي الغربية إذا، وما لنا ولأمثالنا فيها إلا اختيار البعض منا تفضلا منهم أحيانا نادرة من أجل "الفوز" بها... إذ تخرج عن مسارها التكريمي الغربي مرات قليلة لتُنعِم على بعض "المميزين" منا أولائك الذين يرونهم يملكون صفات التميز...
ولعل أكثر تلك الجوائز قيمة جائزة نوبل...تلك المتألقة الفريدة التي ما يفتأ يدغدغ الحنين إليها والطمع في نيلها كل المبدعين في العالم، وهي لا تخرج أبعادها وصفاتها عن هذا السياق، ولا تتخطى مساراتها هذا السبيل...
وإذ نقبل بأن تكون لنا الدرجات السفلى فلا نفوز نهائيا ـ أوتقريبا ـ بتلك الجوائز الفرعية منها هي جائزة نوبل، تلك المخصصة للعلوم، والتي نعترف بموقعنا الممهور بالعدمية وعدم الوجود أصلا في مصاف المشتغلين فيها والباحثين في شعبها، فإننا نرى بأنه قد يكون لنا بعض الوجود في العلوم الإنسانية تلك المتعلقة بالنبش وبالغوص في أغوار الإنسان، والتي يمكن أن يكون لنا بعض الإنجازات فيها مهما قلت، لأنها تلك التي لا تنبني على التراكمات المعرفية للغير ولا على مسلماته، وبالتالي فهي الممكن إنشاء هيكل في إطارها، ويُمتح فيه مما هوخاص من الخلاصات المعرفية المبنية على مقومات الشخصية الفكرية والثقافية المميزة لنا...
ولعل الأدب كمكون رئيسي في تلكم المعارف والعلوم الإنسانية هوأكثر ما يصدق عليه الأمر...إذ هوالتعبير عن لواعج الذات وعن همومها وعن تطلعاتها...
فهوالهوية إذا...وهوالتصوير لواقع حال الفرد والجماعات والمجتمعات...إذا الأديب لا ينفك عن كونه شخصا انصهر كيانه في بوتقة الواقع المعاش، وضمخت أناه بزخات الهوية المنتثرة في مساحات الفضاء المكون لذلك الواقع...ثم اختلط الكل... وحين المخاض تنطلق الكلمات وأنساق التعابير موسومة بتجليات وبتداعيات تلك الهوية، وحتى بتلكم الاستشرافات المستقبلية المتعلقة بها...
فما هي إذ تلك المعايير التي يمكن أن يكون الغرب قد اعتمدها من أجل نقد وتمحيص أعمالنا الأدبية للتوصل للحكم عليها وتمييزها بالجوائز المكرمة لها :جائزة نوبل ونجيب محفوظ نموذجا ؟؟؟
أويمكن أن يكون له الوعي ذلك الغرب بمكونات الهوية منا، وبمقومات الشخصية لدينا، حتى أنه استطاع معرفة صدق الأعمال الأدبية المنتجة لدينا، والتي أُحسن فيها التعبير عنا وتميزت فيها تجلية غوامضنا وأسرارنا؟؟؟
قد يكون هوالغرب قد استبقنا إلى أنفسنا ـ كعادته وكدأبنا ـ ودرس خبايانا، وتلصص إلى دواخلنا عن طريق دراسات مستشرقيه، وبتوسل أبحاث تلامذته النجباء من أبناء جلدتنا...
لكن الحُكْم... أويمكن أن يكون الصواب؟ والحَكَم غريب ويقف في غير الزاوية التي نقف فيها؟
أويمكن أن تكون الوزن حقا ومقبولا والميزان المستعمل مستورد أوحتى هجين، قد تشرب معدنه الشوائب انخرطت في نسيجه حتى ما عاد له الصفاء الضروري لاعتماد نتائج تقييمه؟؟
هوإذا ذلك الحكم انبنى على معايير استعملها ذلك الغرب من تلقاء نفسه، انطلقت منه ومن مكونات هويته استخدمها ـ لاستحالة النزاهة والحياد منه ـ في الحكم على مخالفين له، وما جمعته بهم إلا مواجهات ثقافية وفكرية وحتى عسكرية كانت الدامية على مدى التاريخ...
فلقد انتظرنا طويلا...طويلا جدا...وأخيرا رضي ذلك الغرب وتوجنا...توج إنتاجنا الفكري الإنساني...أي ذلك الأدبي... واختار لذلك التتويج شخص أديب هونجيب محفوظ... فصرخنا مهللين متنادين أن ها نحن نضاهي الأمم فكرا وثقافة ولسنا بأقل منهم قدرة على التعبير عن الذات...
ثم وإذ لم نتصد للبحث والتنقيب عن ما يمكن أن يكون قد أعجب ذلك الغرب في كتاباتنا حتى وضع الإكليل فوق رؤوسنا لنستيقن من موافقته للهوية، ومن انسجامه مع خصائصها ـ خاصة ونحن نعلم مرجعية التصور والفكر لذلك المتوج تلك المخالفة لنا المباينة حد النخاع والمصادمة حتى ـ توقفنا عند ذلك المعجب به من طرفه هوالغرب من سبل الكتابة وطرائق التصوير ومضامين الأنساق في "إبداعات"المُتَوَّج، وذلك لكي نتعرف عن كثب على أبعادها ومقاساتها وأوصافها، حتى نحاول إنتاجها مرات ومرات رغبة في الإرضاء مرات ومرات...استجداء للانتشار وطمعا في الاشتهار...
لكن أوحين نكون نحن قد صدَّقنا أن لنا القدرة على الإبداع بمقاييس عالمية منحنا من أجلها الجائزة يكون هوذلك الغرب مصدق لذلك وموقن به؟؟؟
لا شك أننا لم نحاول حتى أن ندرس خبايا ما قيل وما كتب عندهم عن ذلك التكريم وعن ذلك المكرم بعقول وبأفهام نقدية من أجل أن ندرك كنه ذلك التكريم ودوافعه والحيثيات الموجبة له...
أصدرت مجلة العربي الكويتية عددا خاصا عن الأديب نجيب محفوظ بتاريخ ديسمبر 2006 وتضمن مقالات عدة عن الراحل ودراسات تحليلية نقدية لإنتاجاته الأدبية...
وكان مما أدرج في هذا العدد الخاص ـ رقم 577 ـ مقال بعنوان:"عبقرية استشراف المستقبل" لدنيس جونسون ديفز وترجمة كامل يوسف حسين...
وكان مما ورد فيه:
لم أتخيل قط أنني أخاطب أديبا سيحرز في المستقبل جائزة نوبل في الأدب، فكنت أنتقد رواياته، مشددا، على سبيل المثال، على أن رواية مثل "اللص والكلاب" تفتقر إلى تلك الدرجة من الجنس والعنف كليهما التي من شأن القراء بالإنجليزية أن يتوقعوها من رواية بمثل هذه الحبكة...."(1).
وهكذا يبدووكأن المسار الذي سار عليه الأديب نجيب محفوظ مرسوم منذ عشرات السنين، وقد مهد له من قبل مختصين واكبوا ذلك التحول الثقافي والأدبي المطلوب توفيره من أجل العمل على إحداث تغييرات في النسيج الاجتماعي للمجتمع العربي الإسلامي،وذلك بغية تدجينه وإفراغه من خصائص قد تجعله عصيا على الانقياد والتبعية، تلك التبعية اللازمة من أجل استباحة الأسواق واستحلال الخيرات واستغلال القدرات...ومن أجل بناء أركان ذلك الكيان منهم الطامع في الهيمنة على العالم كله، وخاصة على ذلك الجزء الذي طالما استعصى بل وحتى سيطر وساد في زمن من الأزمان...
ف دنيس جونسون ديفز الكندي المستعرب مر من هيئة الإذاعة البريطانية، تلك المؤسسة التي يراد لها أن تبدوالثقافية والإعلامية المحايدة، بل والمهتمة بشؤون العالم العربي والإسلامي...لكنه في الحقيقة ليست إلا وسيلة من وسائل تتبع مُستعمَري الأمس عن طريق إعلام مشوق مغر ينضح بالتفتح ويدعوإلى "التجديد"،بل ويبدووكأنه يواكب الصعوبات ويقترح لها حلولا، ثم وكأنه أيضا يقتحم الغوامض ويستجلي الخبايا بطريقة تقدم بأنها العلمية النزيهة الوجيهة.
ف"الدراسات النقدية" و"التحليلات الواعية" تنطلق منها هي المؤسسة الإعلامية،
وتتغلغل في عمق نسيج الواقع الفكري والثقافي السياسي الاجتماعي العربي...ثم
والاستنتاجات تكون دائما منتقدة ما هوكائن وداعية إلى ما يجب أن يكون...أي ما يرضيه هوالمُستعمِر أن يرى عليه المُستعمَر من تبعية واستلاب وسير نحوتقليد أعمى، يستوعب القشور دون القدرة على الغوص في بواطن الأمور...
ففي الاقتباس من مجلة العربي أعلاه يبدووكأن هذا المستعرب المستشرق هوالذي يملي ـ وبشدة ـ ما يجب أن يكون... أي ما يجب أن تكون عليه الرواية الأولى لنجيب محفوظ "اللص والكلاب"والتي صدرت سنة 1961 تلك التي رأى ـ وقد شهد بذلك شخصيا في مقاله المترجم ذاك ـ أنها لا تتوفر على القدر الكافي من الجنس والعنف حتى تحظى برضاه هوالمُحَكَّم والمُوَجِّه، وتبعا لذلك طبعا برضا الغرب ـ الإنجليز ـ الذين سخروه لكي يقوم بتلك المهمة من توجيه و"تصويب" للمؤثرات في الحقل الفكري الثقافي عن طريق التأثير في الفاعلين المنتجين فيه.
ولم يكن هذا الأمر بالمستغرب منه ولا بالمستهجن لدى نجيب محفوظ، إذ كان يعرف الذين كان يكتب لهم ومن أجلهم، كما كان يستوعب أنها المحجة والسبيل لكي ينال الرفعة لديهم ويحظى بالتقدير على أيديهم، كان يدرك منذ البداية ومنذ ذلك الحين المتقدم بأن حل القعدة معهم، ولقد فاز في النهاية إذ تتبع المسار وأطاع الأوامر...
هوإذا ذلك الجنس المتناثرة الشذرات منه، بل تلك الكتل في كل "الإبداع" المبدع من طرف "الأديب العالمي" نجيب محفوظ كان توصية غربية إنجليزية،ومن طرف خبير غربي إنجليزي، كان الحاضر والمتواجد في القاهرة من أجل ذلك لا غير...
كل هذا يبدوجليا وواضحا في المقال الذي منه الاقتباسات التالية للكاتب والناقد "عزت عمر" المنشور في موقعه الإلكتروني (2)، والذي هوعبارة عن قراءة مختصرة لكتاب "ذكريات في الترجمة"، لدينس جونسون ديفز(3).
"...دنيس جونسون ديفز» من مواليد مدينة فانكوفر بكندا عام 1922، اختار أن يتخصص باللغة العربية مبكّراً، وربّما لأنه أمضى بعضاً من طفولته في القاهرة، وفي وادي حلفا بالسودان، ولكن هذه الرغبة المبكّرة في دراسة اللغة العربية سوف تصطدم بعائق كبير يتمثّل في منهج سقيم يدرّسه مستعربون لم يسبق لهم أن عاشوا أوزاروا أي مكان في العالم العربي، مما دفع بالفتى الطامح إلى ما يشبه اليأس.
حيث إنهم كانوا يعلّمونه لغة ميتة لم تمكّنه من شيء، اللهم بعض الدروس من كتاب «الكامل» للمبرّد، لم تشكّل أرضيّة تمكّنه من الانطلاق منها نحودراسات معمّقة، أوالعمل في إحدى الأكاديميات، ولم تمكّنه في الوقت نفسه من الدخول في عالم الأدب العربي الحديث، إلاّ أن الصدف ستقوده نحوهيئة الإذاعة البريطانية، لينطلق في رحاب العربية من خلال الموظفين العرب هناك، ومن خلال دأبه وإصراره على تعلّمها..."(4).
فهذا الذي أصر على تعلم العربية، وكان قبل ذلك قد تشرب النمط الحياتي العربي منذ الطفولة، لم يكن هنالك أحسن منه ليُكلف بمهمة تأطير الواقع الثقافي في البلدان العربية في تلك الفترة، وذلك حتى يتيسر إدماجها في المنظومة الفكرية الميسرة لتكريس استعمارها ومن ثم ابتلاعها وخيراتها كلية...
ويستمر المقال المحلل لما ورد في كتاب ذلك المستعرب القائم بالمهمة دينس جونسون ديفز:
"... ومن ذلك على سبيل المثال حياته في القاهرة إبّان المرحلة الاستعمارية، وانخراطه في حياتها الثقافية وبداية مشروعه الترجميّ لكبار كتّاب القصّة والرواية والمسرح آنذاك..."(5).
لقد كانت تلك المرحلة الاستعمارية... فترة حضور المستعمر شخصيا بعسكره وسياسييه ومنظريه وفكره وثقافته الغالبين المسيطرين...وهي المرحلة التي استغلها هوالمستعمر خير استغلال من أجل تهيئة الأجواء للتحول الاجتماعي الفكري الثقافي الضروري قبل الاضطرار إلى الانسحاب...
إذ هوكان ولابد ويدرك أنه المنسحب يوما ما لوجود معارضين للاحتلال ومناضلين من أجل الاستقلال، ثم هوالاحتلال العسكري مكلف ومرهق مجهد، لكن ذلك الاحتلال الفكري بخس التكاليف، ومستمر متواتر الوجود حتى بعد انسحاب العسكر... إذ يكفي من أجل التوصل إليه بناء فكر تلامذة نجباء مطيعين مستوعبين للدرس وللتعاليم، ولابد أن يكونوا الطامعين في الحظوة عنده ـ هوالغالب ـ يمنون بها أنفسهم فلا يشقون عصا الطاعة، ولا يحيدون عن المسار رسم لهم ولوبقدر يسير..
ثم إن هذا العقل المدبر لم يكتف به وحده هونجيب محفوظ، بل كان معه الكثيرون ممن كان يرى فيهم الرغبة في نيل تلك الحظوة حتى مع ترك الهوية...تلك التي لربما كانت قد انمحت أصلا بفعل تثاقف أهوج مع المستعمر ومع تراكماته المعرفية، والتي كان هوذلك المستعمر لا يمتحها إلا من عمقه الغربي ومن كيانه ومن خصوصياته:
"... وقارئ هذه الذكريات لا بدّ له أن يلاحظ أن مسيرة دنيس جونسون ديفز الترجمية، رافقت مسيرة الأدب العربي الحديث والمعاصر، فهومنذ أربعينات القرن العشرين مقيم في الشرق الأوسط وعلى تماس مع مثقفيه الأعلام، حيث يفرد مساحة مناسبة لكلّ واحد منهم بكثير من الودّ والموضوعية، فبالإضافة إلى من ذكرناهم نجده يقف عند كلّ من: نجيب، لويس عوض، يحيى حقّي، يوسف إدريس، الطيّب صالح، إدوار الخرّاط وغيرهم..."(6).
فها هويُرى في القاهرة وهولا يؤطر نجيب محفوظ فحسب...أي واحدا فقط...لكنه يواكب التكوين الفكري الأدبي لمجموعة من هؤلاء "الكتّاب" المستعدين للاستلاب، والراغبين في الشهرة كيفما كان وكيفما اتفق:
"...حيث يتابع القارئ ذكريات المؤلّف في تلك المرحلة المهمّة من نهوض الأدب العربي الحديث، ويطلعه على كثير من الجوانب الشخصية لهؤلاء الكتّاب بدءاً من محمود تيمور الذي ترجم له كتاباً يضمّ مجموعة من قصصه بعنوان «أقاصيص من الحياة المصرية».
حيث يذكر المؤلّف أنه كان اعتاد لقاء تيمور بصورة منتظمة في مقهى الجمّال، أوفي دعوات الغداء التي كان ينظّمها للكتّاب الناشئين الذين كان يرعاهم، وبذلك فإنه فتح له الطريق للتعرّف على عدد من هؤلاء الكتّاب، ومما يذكره في هذا الصدد أن محمود تيمور كان كريماً في رعايته للكتاب الشبّان، بما في ذلك دفع تكاليف طباعة الكتاب لدينيس، بالرغم من أنه لم يكن هناك اتّفاق بينهما حول ذلك..."(7).
وكما يبدوجليا في المقال فقد كان يساعده في ذلك كاتب مصري تشرب نفس التأثير الغربي، ونُسج فكره على نفس النول الذي يباركه ذلك المستعرب، ويعمل من أجل ترسيخ العمل به وتوسله، إنه الأديب محمود تيمور...
ثم ها هوآخر من تلك الفئة المُؤطَّرة رضيت عنه حتى الصهيونية ممثلة في شخص الإسرائيلي الصهيوني المشهور "أبا إيبان"، إذ كافئه حتى قبل أن يفعل دنيس جونسون ديفز بترجمته لمؤلفه "يوميات نائب في الأرياف":
"...أما توفيق الحكيم، فكان يجلس معه صباحاً خارج مقهى «ريتز»، وكان قد قرأ كتابه «يوميات نائب في الأرياف» وساورته الرغبة في ترجمة الكتاب إلى الإنجليزية، غير أنه فوجئ بأن الكتاب ترجم من قبل «أبا إيبان» الذي سيصبح وزير خارجية «إسرائيل» لاحقاً..."(8).
ثم إنه هذا المكلف بمهمة لم يقنع بالعمل الدءوب من أجل استكمال رسالته في القاهرة، وإنما تجاوزها إلى بلدان عربية أخرى كالعراق مثلا، وذلك من أجل أن "يصوب" مسار مثقفيها و"يسدد"خطاهم حتى تكون الوجهة المبتغاة التوصل إليها واحدة في جميع الدول العربية:
"...لينتقل بعد ذلك إلى العراق في عمل لدى إحدى الشركات، وسيمضي هناك وقتاً لا بأس به مع جبرا إبراهيم جبرا وبلند الحيدري وبدر شاكر السيّاب ولميعة عباس عمارة، ومن خلال لقاءاته بجبرا في لندن سيتعرف إلى توفيق صايغ الذي كان يعمل آنذاك محاضراً في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية..."(9).
ولكي يحسن ذلك المستعرب القيام بمهامه كان عليه ـ ولابد ـ أن يستعين بالمجلات الأدبية، تلك التي تهب للأديب الإمعة فرصة للانتشار، ويمكن أن يقايضها حتى ببيع هويته، وخاصة إذا كانت المهلهلة المتأرجحة أصلا تلك الهوية:
"...وكان المؤلّف إبان إقامته في لندن قد أصدر مجلة أدبية سمّاها «أصوات» صدر منها اثنا عشر عدداً، ساهم الكثير من الكتاب والشعراء بها، ومنهم توفيق صايغ، والسيّاب وغسّان كنفاني وغيرهم، وفي معرض حديثه سيتعرض إلى قضية مجلة «حوار» التي أثيرت عنها أقاويل شتّى لجهة تمويلها.
حيث يذكر المؤلّف أن الأميركي "جون هانت" مندوب منظمة «مؤتمر الحرية للثقافة زاره في أوائل الستينات، وأبلغه انه يفكّر في إصدار مجلة ثقافية باللغة العربية، وإسناد رئاسة تحريرها إلى يوسف الخال صاحب مجلة «شعر» في بيروت، إلاّ أن المؤلّف سيقترح عليه توفيق صايغ.
وفي هذا الصدد يقول: كنت اعرف أن توفيق إنسان صعب المراس، وأعلم أنه لن يوافق على أي شيء إلاّ على الحرية الكاملة في كلّ ما يتعلّق بالتحرير». وصدرت هذه المجلة بالفعل ولقيت قبولاً حسناً، إذ تضمنت أعدادها الأولى رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيّب صالح بكاملها، غير أن الكثيرين في العالم العربي كما يذكر المؤلّف لم يكونوا سعداء حيال راعيها الرسمي، الأمر الذي منعه وجبرا من الكتابة فيها.
وعندما سألهما توفيق عن السبب أخبراه بأن الشكوك تساورهما بشأن الراعي، وأنهما ليسا في وضع يخاطر معه بالكتابة لمجلة ينظر إليها الكثيرون بعين الشكّ. ولم تنقض أشهر على هذا الحديث، حتى انكشف أمر تمويل منظمة «مؤتمر الحرية الثقافية» التي كانت ترعى مجلة «حوار» من قبل المخابرات المركزية الأميركية، وهكذا فإن جام الغضب سوف يندفع باتجاه توفيق صايغ واتهامه بأنه جاسوس أميركيّ...."(10).
فالمقال من ذات نفسه يكشف عن هوية الممول، تلك التي أوردها كاتب المقال ـ عزت عمر ـ بعفوية وسذاجة دون أن تثير في نفسه شيء ضد من تصدى لمدحه وإكباره ـ وسيأتي ذكر ذلك ـ هوذلك "الخادم المتجرد" من أجل الأدب العربي دينس جونسون ديفز!!!
فدنيس جونسون يوافق زميله في التخطيط الأميركي جون هانت مندوب منظمة "مؤتمر الحرية للثقافة "على إصداره المجلة الممولة من طرف المخابرات الأمريكية، بل ويقترح لها رئيس تحرير من تلامذته وخلصه الأوفياء...كل هذا وهويكتم عنهم مصدر التمويل!تواطؤ بغيض ويعكس الترتيب المسبق للخطة المعدة من أجل الإجهاز على الهوية العربية الإسلامية عن طريق الأدب والأدباء، أولائك الذين ما أهَمِّهم إلا نشر سطورهم المفعمة بالجنس وبالتراكيب المختلة العامية على تلك المجلات هنالك في الغرب، وذلك دونما التساؤل عن هوية تلك الجهات الداعمة لتلك المجلات...الطيب صالح نموذجا...
فهذا مقال للكاتب د.صديق أمبده بعنوان "سياحة في كتابه "ذكريات في الترجمة"ـ مترجم أعمال الطيب صالح دينس جونسون ديفز"، نشر في الموقع الإلكتروني "السوداني" بتاريخ 9 ـ 12 ـ 2007 (11)، ويدعم هذا الطرح ويساهم في التدليل عليه:
"...أما عن رواية موسم الهجرة إلى الشمال فيقول ديفز أن الطيب صالح أتاه ذات يوم وأخبره بأنه يكتب رواية جديدة. وأصبح يجد على مكتبه كل بضعة أيام جزءاً من الرواية بخط اليد.
وبعد فترة وجيزة كانت موسم الهجرة قد اكتملت، وفي نفس الوقت كانت الترجمة نفسها قد اكتملت (ص 84)(12).
يقول ديفز " كان الطيب غير متأكد من قبول القراء لبعض الفقرات ذات الإيحاءات الجنسية في الرواية "، وقد قرَّر بعد حين عدم تضمينها.
ويضيف " في وقت من الأوقات كدنا أن نضمنها في الترجمة الإنجليزية ولكننا عدَّلنا عن ذلك " ثم يضيف إضافة مذهلة فيقول " في مكان ما في أوراقي المبعثرة أنا أحتفظ بهذه الفقرات كتبت على صفحتين بخط الطيب صالح.... وفي يوم من الأيام ربما تجد هذه الصفحات طريقها إلى بيوتات المزايدة Auction ويقوم بشرائها أحد المليونيرات المولعين بالاحتفاظ بمثل هذه الغرائب بمبلغ كبير من المال" (ص 84) (13).
فها هويلعب دور "الموجه" مرة أخرى، ويشارك الأديب الطيب صالح في النقاش والتفكر حول "الفقرات ذات الإيحاءات الجنسية"، وحتى حين لم يجرأ الأديب على تضمينها في الرواية رغم التشجيع، فإن الموجه احتفظ بها لحين إشهار واشتهار تلميذه النجيب، ولحين تطبيع فكرة تداول الجنس في النصوص الأدبية العربية وتقبلها، تلك التي كان هومؤسسها ومهندسها ومتتبعها حتى نهاية المطاف...
وكإحاطة بكل جوانب مهمته انتقل أيضا إلى لبنان من أجل صناعة أدباء أتباع لبنانيين...بل وحتى مغاربة تواجدوا هنالك...وقد عمل على صقل جوانب هويتهم حتى ما يعود للأصل فيها إلا شذرات لا تصمد لحفيف الأيام تنصرم:
"...وإبان إقامته في بيروت سيتناول المؤلّف تجربة مجلة «شعر» التي كان يمتلكها يوسف الخال ويشير إلى أن ربطت بينهما صداقة مكّنته من التعرّف على الكثير من الكتّاب اللبنانيين، ومما يذكره في هذا الصدد عن شخصية يوسف الخال، أنه كان يستبدّ به عشق الحياة، وكانت شقّته تمتدّ أمامها حديقة صغيرة مليئة على الدوام بالكتاب اللبنانيين.
وغير اللبنانيين الذين كانوا يؤمّون بيروت حينها، وبذلك فإنه سوف يتعرّف على الكاتب المغربي محمد زفزاف، وزكريا تامر الذي على حدّ تعبيره، تبيّن أنه واحد من أفضل كتّاب القصّة القصيرة باللغة العربية، أطلقه يوسف الخال من خلال إصدار مجموعته الأولى «صهيل الجواد الأبيض»، وفيما بعد وفي لندن سيترجم له «النمور في اليوم العاشر»..."(14).
وحتى الخليج ما فاته هوالمحنك المدرب أن يعرج عليه من أجل استكمال الرسالة وإتقان القيام بها:
"...ولعل المحطّة الخليجية في ذكريات المؤلّف تشكّل مرحلة مهمّة في حياته، إذ يذكر أنه قضى جانباً من حياته بدولة الإمارات العربية المتحدة فالتقى كلاً من المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، والمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وذلك بعدما اقترح عليه عز الدين إبراهيم العمل على ترجمة إنجليزية لبعض كتب الحديث النبوي الشريف.
وقد دعم الشيخ زايد رحمه الله هذا المشروع، كما قام بالتعاون مع حكومة الشارقة في مشروع مماثل يتلخّص في إنتاج تسجيل للقرآن الكريم على شرائط كاسيت، وفي هذا الصدد يقول أيضاً: «قضيت جانباً من حياتي في الخليج، وبصورة أكثر تحديداً فيما أصبح الآن دولة الإمارات العربية المتحدة، وقد أردت منذ وقت طويل أن أقدّم مجلداً من القصص القصيرة من هذه»..."(15).
اقترح عليه القيام بدور مترجم عادي...أي النقل من لغة إلى أخرى...لكنه لم يهتم ولم يقم بذلك....
وخاصة وأن المطلوب نقل أركان الهوية الدينية الإسلامية إلى الغرب... القرآن والسنة النبوية...ولقد كان من الطبيعي أن لا يقوم بذلك، إذ مهامه "الرسالية" كانت تقتضي هدم هياكل تلك الأركان من النفوس وتقويضها، وخاصة من نفوس النخبة العربية المثقفة المقتدى بها حتى تنتفي تلقائيا من نفوس العوام التابعين المقتدين...
وقد أبان بموقفه هذا عن مقصوده من تواجده هنالك في الخليج العربي، إذ هو"تقديم مجلد من القصص القصيرة"، أي الدفع بالأدباء إلى مسار يوفر إعادة تشكيل عقولهم،
وذلك حتى تتوجه إلى إنتاج قصص يتماشى مع المطلوب من ضرورة الكتابة على نمط الفكر الغربي، ذلك الذي يؤدي إلى إحداث تغييرات في عقول وأفهام القراء العرب المسلمين حتى ينساقوا وتنهار مقاومتهم...
فهذا "العلامة" "المعلمة"، وهذا المثابر المرابط في سبيل هدفه كان على نجيب محفوظ أن يرد له ـ مع أمثاله ـ الجميل، فلقد فعل وكال له الثناء والمديح، ولعله توسط له أيضا من أجل الفوز عند بني جلدته من العرب:
"...حتى أن نجيب محفوظ وإدوارد سعيد اعتبراه «رائد الترجمة من العربية إلى الإنجليزية». حيث إنه أصدر نحوثلاثين مجلّداً ضمت الكثير من النتاج الإبداعي القصصي والروائي العربي، وقد توّج مسيرته الطويلة هذه بالفوز بجائزة «الشخصية الثقافية لجائزة الشيخ زايد للكتاب»..."(16).
إذ من الطبيعي أن يَمُنَّ الفائز على من كان السبب في فوزه...حيث قدم نجيب محفوظ لذلك الكتاب الذي ألفه دنيس جونسون ديفز "ذكريات في الترجمة"(17)، ثم ورفع من قيمته، وجعله بالغ الروعة وسببا للسعادة استشعرها هووملأت كيانه منذ تعرف على مؤلفه أي منذ ستين عاما، تلك المدة التي اقتضاها "صنعه"، وتطلبها التأكد من إعادة تشكيل كيانه وعقله، ومن بعد ذلك إعلانه الفائز المتوج!!!:
"...ومما يجدر التنويه إليه في الختام أن الأديب المصري نجيب محفوظ حائز جائزة نوبل، قدّم لهذا الكتاب قبل وفاته، حيث نوّه إلى أنه يعرف المؤلّف منذ عام 1945، وهوأول من ترجم عملاً له، ثمّ ترجم العديد من رواياته، وختم قائلاً:
«والحقيقة أن دنيس بذل جهداً لا يضاهى في ترجمة الأدب العربي الحديث إلى الإنجليزية وترويجه.. يسعدني كثيراً أن كتب دنيس هذا الكتاب البالغ الروعة، وأتمنى أن يحظى قارئه بنفس القدر من السعادة الذي حظيت به من معرفتي بمؤلّفه على مدى ستين عاماً»..."(18).
ثم لقد وجد ذلك المستعرب من ينعته منا ـ وبسذاجة ـ بأنه صاحب " نزعة رسالية"، وبأن القدر هوالذي كان يدفع به على الدوام إلى الشرق الوسط....وذلك من "حظ" الأدب العربي... إنه الناقد عزت عمر صاحب المقال إذ يقول:
"...ولكن فيما يبدومن السيرة، أن القدر كان يدفع به على الدوام باتجاه الشرق الأوسط والترجمة، ومن المؤكّد أن هذه المصادفة القدرية ستكون من حظ الأدب العربي الذي قيّض له مترجم ذونزعة رسالية لا يأبه للصعاب التي كانت تعترضه سواء في نشر المادة المترجمة، أوفي التعامل مع الناشرين المتبرمين دائماً، هذا بالإضافة إلى الصعاب السياسية وظروف الحرب والثورات وغير ذلك..."(18).
ولعله فعلا كان صاحب "رسالة" ذلك المستعرب، وقد كُلف بها من طرف من كان وما زال يعنيهم استلاب الأمة العربية الإسلامية، وذلك حتى تسير في الركب الذي يراد لها أن تنخرط فيه دون تردد ولا تساؤل...
ومما يمكن من المساعدة على فهم واستيعاب مهمة صناعة الأدباء ـ تلك التي أوكلت إلى هذا المترجم ـ الإطلاع على هذا الحوار الذي أجراه معه عبد الوهاب أبوزيد، ونشر في موقع اليوم الالكتروني بتاريخ 2007-06-21م بعنوان:"لقاء مع دنيس جونسون ديفز...العرب غير واعين بأهمية الترجمة"(19).
فلقد كان توجيهه للمهمة منذ البداية، أي بمجرد الانتهاء من التكوين الأكاديمي النظري في جامعة كامبردج، ومن التكوين التطبيقي في البي بي سي، إذ بعد ذلك مباشرة ولد الوعي بضرورة "فعل شيء ما" من أجل توجيه تلك "النهضة" التي بدأت في العالم العربي كما ورد في المقال:
"... درست اللغة العربية في جامعة كامبردج. فيما بعد، وحين كنت أعمل مع إذاعة البي بي سي العربية أدركت أن نهضة ما قد بدأت في العالم العربي. قرأت بعض القصص التي كتبها محمود تيمور وتوفيق الحكيم..."(20).
"... بعد ذلك بفترة قصيرة ذهبت إلى القاهرة، حيث تسنى لي أن أتعرف على كل من له صلة بالعالم الأدبي. أحسست بأن على أحد ما أن يقوم بشيء ما، غير أنني تساءلت: أين سأعثر على ناشر لمثل هذا النوع من العمل؟.... كان الكتاب الذي نشرته مطابع جامعة أكسفورد يحتوي على قصص لحقي وقصة لنجيب محفوظ من بين آخرين.
ومنذ ذلك الحين أصبحت مهتما بكتاب من المغرب وتونس وفلسطين وسواها من البلدان..."(21).
ولقد أجاب ببساطة في هذا الحوار حين سئل:
"...ما الذي يميز الأدب العربي في اعتقادك؟..."(22).
أنه لا يراه المتميز أصلا:
"...لا أرى أنه متميز، ولكنني أظن أنه لا يزال يواجه بعض المتاعب. فلكي تفهم الأدب العربي لا بد لك من أن تفهم الإسلام..."(23).
لكنه رأى أن المتاعب التي تواجه الأدب العربي منبثقة من ارتباطه بالإسلام...إذ أن وجوب استيعاب الإسلام من أجل استيعاب الأدب العربي مسألة تؤرق الغرب الذي يمثله هو...ولذا فقد تصدى هومنذ البدء من أجل خلق الانفصام بين القيم والمبادئ الإسلامية وبين تلك النصوص الأدبية المنتجة من طرف الأدباء العرب المُوجََّهون...
ثم حين سئل:
"...لماذا لا يدعم العرب مثل هذه المشاريع؟"(24).
أجاب بنرجسية مفرطة وباعتداد بالذات متفاقم:
"...ذلك بسبب قلة الوعي، لا بد من العمل مع شخص على معرفة كافية، وكما يقول المثل العربي القديم «أعط الخبز لخبازه». وفي هذه الحالة أنا هوالخباز..."(25).
ورغم وضوح تصريح بكونه هوالخباز الذي عجن عجينة الأدب العربي وشكلها منذ البداية، وبالرغم من الاتهام الصريح للعرب بقلة الوعي!فإن المحاور العربي عبد الوهاب أبوزيد لم يعلق ولم يستأ...بل وأكمل الحوار معه وكأن شيئا لم يكن ولم يُقَل....
ولعل ثالثة الأثافي ومكملة الصورة هي الكلمات الأخيرة مما قاله دنيس جونسون ديفز في هذا الحوار:
"...بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، أصبح هنالك المزيد من كتب الأدب العربي الحديث. لقد صنع الأدب العربي الحديث لنفسه مكانة من لا شيء تقريبا. إنني أعمل حاليا مع 77 كاتبا من أنحاء مختلفة من العالم العربي. إنني بحاجة الآن للعثور على محفوظ آخر"(26).
فهكذا يبدووكأن "المترجم الرسالي" لم يكل بعد ولم يتوقف عن القيام بما أوكل إليه من مهام وهوالشيخ في السابعة والسبعين من عمره، إذ ولد سنة 1922، فما زال هنالك من هم في طور الإنشاء والتشكيل والعجن والخبز على يديه من الأدباء العرب، أولائك الذين يمكن أن يحصلوا على رضا الأسياد، ويمكن أن يتوج واحد منهم ذات يوم كما توج نجيب محفوظ، وذلك إن هوحفظ الدرس جيدا، وإن سار مخدر الحواس بثقة ويقين على المسار المرسوم !!!
إذ هوالأمر كما صرح دنيس جونسون ديفز، فهوما يزال دائب البحث عمن يمكن أن يكون "نجيب محفوظ" آخر يتم ما بدأه الأول من سلخ الأدب من مقومات الهوية، ويجعله ذلك الإبداع الأدبي المسخ الذي يعين على إتلاف تلك المقومات من أنفس وعقول المتلقين المستهلكين المسلمين.
ولقد كانت لجريدة أخبار اليوم المصرية يوم 4 فبراير 2007 وقفة مع ما نشر في مجلة العربي في ذات العدد رقم 577 الخاص بنجيب محفوظ(27)، إذ كتب الكاتب السيد حسن جغام مقالا بعنوان " عودة إلي جائزة نوبل لنجيب محفوظ"، وتطرق فيه للمقال إياه، ذلك الذي كتبه دنيس جونسون والمتطرق إليه أعلاه: "عبقرية استشراف المستقبل".
وكان مما حز في نفس الكاتب هوذكر ذلك المستعرب لكونه استُدعِيَ في القاهرة من طرف سويدية زوجة السفير الفرنسي لدى تونس للتداول حول من يستحق جائزة نوبل من العرب:
" وكانت معها قائمة بأسماء المرشحين المحتملين، ومن بينهم أدونيس، ويوسف إدريس، والطيب صالح، ونجيب محفوظ، وسألتني أولا عما إذا كنت أشعر أن هناك أي كاتب آخر من العالم العربي يستحق النظر في إمكانية فوزه بالجائزة...’(28).
ويتعجب السيد حسن جغام من البساطة والسطحية التي تمت بها عملية انتقاء المتوج بالجائزة حسب رواية السيد دنيس جونسون قائلا:
"...وهذه الإشارة في اعتقادنا تضيف بلبلة إلي ما سبق من كتابات مرتجلة حول هذا الموضوع.
وإن أول ما يلفت الانتباه في رواية السيد ’جونسون’ انه لم يذكر اسم هذه ’السيدة السويدية’ ولم يذكر دورها في ’لجنة الجائزة’ والذي يبعث علي الترتيب أكثر من هذه الأسئلة هوما يلي:
ما الذي يجعل ’لجنة الجائزة’ تترك المؤسسات الثقافية، ونحن نعلم أن الأكاديمية السويدية لها تبادل علمي مع عدد من الجامعات العالمية والعربية، وكذلك لا نشك في أن لها أدوات عمل أكثر جدوى في اتخاذ قرارات مثل هذه.. المفروض أن تكون هذه الأساليب هي المرجع والمرجعية للبحث عن كاتب عربي أوغير عربي يستحق جائزتها.. أوهل تترك كل ذلك ونلتجيء إلي هذه ’السيدة السويدية’ النكرة تجوب القاهرة وتسأل عمن يستحق الجائزة؟!"(29).
ويبدووكأن السيد جغام غير قادر على تصديق ما صرح به صانع الأدباء العرب، إذ يبدووكأنه مؤمن حتى النخاع بتفوق العرب الأدبي، وبجدارة أحدهم ممثلا في نجيب محفوظ في الحصول على تلك الجائزة "العالمية المميزة"، إذ هو"تزييف للتاريخ" حسب قوله أن يقال مثل هذا القول، حتى ولوصدر ممن اعترف له حتى نجيب محفوظ نفسه ب "دوره الرائد" في بناء الأدب العربي...
إنه الوهم العربي... ويجثم كغلالة تمنع من وضوح الرؤية، ومن التغلغل بين ثنيات الأحداث المتواترة عبر السنين ابتداء من فترة الاستعمار وإلى الآن...
فالكاتب ينفي حتى تأثير مساندة كامب ديفد ودور إسرائيل بالرغم من أنه قرأ في المقال ما يفيد علاقة تلامذة دنيس جونسون بالكيان الصهيوني منذ فترة تأسيسها... ترجمة أبا إيبان لإنتاج محمود تيمور المذكورة سابقا نموذجا...
فالمهم بالنسبة للسيد جغام هوتفادي البلبلة و"تشويش الأذهان" وليس التوصل إلى الحقيقة والاستفادة منها ومن تداعياتها والانطلاق من جديد، إذ يقول:
"...انطلاقا من هذه الاستفسارات التي دفعتني إليها ما ساورني من ضعف هذه الرواية، إضافة إلي ما قرأناه قبل سنوات وظل يتردد من حين لآخر مثل ما قيل عن كاتب إنجليزي هوالذي رشح نجيب محفوظ للجائزة، وكذلك الادعاء الذي يقول: أن إسرائيل هي التي كانت وراء منح نجيب محفوظ للجائزة لأنه بارك اتفاقية ’كامب دافيد’.. وروايات أخري لا يتسع لها المقام تدعي مثل هذا القول أوما يشبهه.
هذه الروايات جميعها بما في ذلك الرواية الأخيرة أعني رواية السيد جونسون يمكن في نظري أن تحدث بلبلة تعمل علي تشويش الأذهان، وتساعد علي إبعاد الحقيقة وبالتالي تزيد في زيف التاريخ..."(30).
ثم والكاتب يتابع مسيرته الدفاعية بلا هوادة عن استحقاق العرب للجائزة وعن نبوغهم الأدبي:
"... وهذا ما دفعني إلي القول باني اعتقدت أنه ثم القول الفصل في هذه المسألة.
أما خلاصة الفصل المتعلق بجائزة نوبل الوارد في كتابي ’طه حسين.. قضايا ومواقف’ هوأن احد أبناء مصر الذي غادرها منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي هوالذي ناضل باصرار وإيمان من اجل أن يرشح كاتبا عربيا لجائزة نوبل، وأول من رشح طه حسين سنة 1967 فعملت رياح السياسة ضده، فأعاد الكرة مرة ثانية مرشحا نجيب محفوظ ليعلن للغرب انه ليس هناك طه حسين فقط يستحق جائزة نوبل.. فكان له ما عزم عليه ولكن ليس ببساطة اختصار هذه الفقرة الأخيرة.. وكان هذا الذي سميته ’الجندي المجهول’ الذي كان وراء جائزة نوبل للعرب، هوالدكتور عطية عامر رئيس قسم اللغة العربية بجامعة استكهولم وصاحب عشرات الكتب في النقد والتحقيق والأدب المقارن باللغة العربية والسويدية والفرنسية..."(31).
إذ لا بد وأن يكون العربي ذلك الذي رشح نجيب محفوظ... الدكتور عطية عامر مثلا...رغم أن نجيب محفوظ نفسه لم يذكره ولم يشر إليه...!!!!
قمة الإيمان ب"السموالعربي"...ولوأنه الطرح المجرد من الأدلة والبراهين...
ولعل القبط كانوا أكثر موضوعية في الحكم عليه من بني جلدته العرب، إذ رغم فرحتهم بفوزه وإكبارهم له، إلا أنه وصفوه بما هي موجودة فيه من نعوت وصفات، وذلك دون مواربة ولا تدليس ولا تنميق لواجهته التي تراد الصقيلة حتى ما تثير الشكوك...
ففي مقال بعنوان:" سيرة نجيب محفوظ – تاريخ اللبرالية العربية الموؤدة" بقلم حميد كشكولي المنشور بتاريخ 2 ـ 9 ـ 2007 في الموقع الإلكتروني "منظمة أقباط الولايات المتحدة الأمريكية" ورد الآتي:
"...فمن مميزات الراحل العظيم التي تقربه " أوأرى من المفروض أن تقربه" من الشيوعيين، وهي كثيرة، منها أن الإسلام السياسي والعروبة العنصرية قد فرزا نفسيهما عنه، عبر إدانة بعض كتاباته وخاصة رواية " أولاد حارتنا"، وكذلك محاولة اغتياله الجبانة من قبل شاب إسلامي متطرف، ومقاطعته من قبل القوميين بعد تأييده لإبرام اتفاقية كامب ديفيد، والصلح مع إسرائيل التطبيع الثقافي.
ومن المميزات التقدمية والإنسانية الأخرى لنجيب محفوظ هي أن آفاقه الفكرية أرحب من آفاق اليسار التقليدي في العالم العربي، وقد كان ينتقد كل الخرافات الدينية والقومية والوطنية السخيفة، فلم يتغن مثل بعض الكتاب السفهاء " بعطور روث بلاده " المنعشة، ولم يدع ُ الناس إلى تفضيل الفول الوطني الشريف على " لماكدونالد الصليبي والغربي الفاسد". ولم ينجر وراء الشعارات القومية من قبيل "تحرير القدس عبر طهران أوبغداد"، و"قتل الأعداء والغرباء والخونة"، ولم يطمع يوما في مكرمة رئيس أوفرعون، بل أن إبداعه أغناه عن كل قصور الفراعنة، وذهب الرؤساء، وجاه الدنيا والسلطان..."(32).
إذ ذكروا انتقاده لكل "الخرافات الدينية" كأحد مناقبه التي من أجلها يستحق التبجيل... كما هوالأمر بالنسبة لتنكره لمقومات الوطنية، وحتى لتلك القومية، ولكل الوشائج العقدية التي يمكن أن تجعله مهتما بما يقع في بلاد العرب والمسلمين...
وعلى صفحة من موقع "مكتب برامج الإعلام الخارجي" وزارة الخارجية الأمريكية ـ النسخة العربية ـ نشر مقال بعنوان:" الكاتب المصري الراحل نجيب محفوظ ـ سعى جاد للتوفيق والتفاهم بين الشرق والغرب" ل من لورين مونسن، المحررة في نشرة واشنطن ـ بتاريخ 21 يناير 2007 ـ (33)وقد كتبت فيه:
"... وقد اجتذبت محاضرة ألقيت أخيرا عن حياة محفوظ ونتاجه الأدبي جمهورا كبيرا غصّت به القاعة الكبرى للبنك الدولي في واشنطن. وقد جرى تنظيم المحاضرة وما رافقها من نشاط تحت رعاية مؤسسة موزاييك، وهي مؤسسة خيرية تهدف إلى زيادة المعرفة بالتراث الأدبي العربي وفهمه وتقديره.
وتحدث عريف الحفل الذي أدار المحاضرة روني حماد، وهومن البنك الدولي، عن المضامين الاجتماعية التي شكلت أدب محفوظ وأعماله، وتطرق في حديثه إلى المجتمع العربي فقال "إنه آخذ في التكيف مع قوى العولمة ويحاول التوفيق بين الثقافة الدينية والعلمانية والتنوع والديمقراطية..."(34).
فالسعي الحثيث نحوالتوفيق بين الثقافة الدينية وبين العلمانية، أي تقزيم والدين وتبني العلمانية من طرف المجتمع العربي هوما أثار إعجابهم هم الأمريكيين، وكذا حاز اهتمام وإعجاب مقدم المحاضرة المسيحي روني حماد...وكأن هذا ممكن !!وكأن العلمانية ليست سلخ الدين من كل مناحي الحياة غير ما يتم منه داخل أسوار أماكن العبادة من طقوس...وإذا اختزلنا الدين في هذا أويمكن أن نطلق عليه اسم الدين أصلا؟؟؟
وتتابع "من لورين مونسن في المقال:
"...وقال المحاضر الرئيسي روجر ألن، أستاذ اللغة العربية والأدب المقارن في جامعة بنسلفانيا، إن محفوظ دمج بين تقاليد العالم العربي وعاداته وبين تلك التي للغرب. ووصف ألن صديقه محفوظ الذي حافظ على صداقته 39 عاما بأنه كان "بيروقراطيا منظما جدا. فقد احتفظ بملف عن كل شخصية كتب عنها لكي يعود إليها في أعماله القديمة" ويقدمها بصورتها الصحيحة في أعماله اللاحقة..."(35).
فهذا الأمريكي الصديق لنجيب محفوظ منذ 39 عاما مدحه بكونه دمج بين "تقاليد" العالم العربي وعاداته وبين تلك للغرب...وكأن اقتباس مقومات الآخر وخلطها مع تلك للذات محمدة وشيمة تحسب للمبدع الأديب...وكأن الذوبان في الغير مع التأكد من حماية ذلك الآخر لنفسه من كل ما يمكن أن يشوبه من مؤثرات ليس من قبيل السذاجة والتفاهة وحتى الحمق...
ثم ويظهر المقال أيضا كيف أصبح الشك من مناقب نجيب محفوظ، بل ولعله هوالذي رفعه في عين المحاضر المتحدث باسم الفكر الأمريكي...ولعل التوفيق بين الشك والإيمان هي من "الإنجازات" الخارقة للعادة المستحيلة حتى، والتي حققها أيضا بنبوغه المتألق ذلك الأديب المصطفى المختار، الشيء الذي أهله لنيل المباركة والتبجيل منهم:
"...وأضاف "ألن" أنه لعل ما كان أكثر أهمية هو"أنه (محفوظ) كان ذا حس إنساني عميق نتيجة دراسته الإنسانية. وكان شكاكا لكنه كان مؤمنا مخلصا حاول التوفيق بين المعتقدات الدينية التقليدية وفكر القرن العشرين وواقعيته. وكان فكاهيا عظيما" صاحب ظرف وفكاهة..."(36).
ثم ويبدوأنها التقية مارسها نجيب محفوظ بمباركة عرَّابِيه حين التعبير عن أفكاره "النيرة" ذات العمق الغربي في لجة ظلام الشرق الأوسط المتخلف:
"...وقال ألن، كان محفوظ إلى جانب ذلك كله مهتما اهتماما شديدا بالسياسة "وعبّر في بعض كتبه ورواياته عن آراء سياسية، وأن لم تكن أفضل ما عنده." فقد عمد محفوظ بسبب الرقابة المنتشرة في مصر إلى التعبير عن أفكاره بشكل رمزي، وهوأسلوب انتهجه الكتاب ومنتجوالأفلام السينمائية في كثير من أرجاء العالم الإسلامي..."(37).
وفي المقال أيضا ما يبين بأن صانعيه يصفونه بصدق....ويضفون عليه من النعوت ما يفيد بأنه مثال التلميذ الطيع المنقاد لأسياده المنفذ للتعاليم وللتوصيات، ولذلك جوزي أحسن الجزاء:
"...وعثر محفوظ في شبابه على قائمة طويلة من الكتب والروايات الأوروبية الهامة وقرأ معظمها. وقال ألن إن محفوظ "درس بشكل منهجي شامل كل كتاب قرأه ونقب باحثا عن أساليبه ولغته" ثم قرر بعد ذلك أن يكتب روايات معاصرة"، وعمل بقراره ذاك على "تغيير مجرى الأدب العربي.".."(38).
ودائما هونفس الإعجاب بالقدرة من الأديب المتوج على إنكار ذاته وسلخها من جلدها الحقيقي ثم وإلباسها لبوس الآخر:
"... وتساءل بعض المثقفين ممن يجيدون العربية عما إذا كان محفوظ قد كتب مقلدا الروايات الغربية، لكن الإجماع يرى أن تبنيه الأساليب والأدوات الأدبية الغربية في خدمة رواية مصرية محضة إنما يدل على رغبة في دمج ولحمة العناصر الشرقية والغربية...
ووصف ألن الأديب المصري محفوظ بأنه "كان رجلا امتد متخطيا الحدود بين التقليدية والحداثة..."(39).
إعجاب يبدومبررا، إذ أنتجه في نفوس المعجبين إعجابه هوأولا حد الوله بالحضارة الغربية، تلك التي أغناه بريقها المشع الذي سلط عليه منذ شبابه عن كل نور يمكن أن يأتيه من أي جانب أومصدر:
"...وقال ألن في رده على أحد الأسئلة إنه متفق مع القائلين بأن محفوظ "كان معجبا جدا بالحضارة الغربية" وقال إنه وصفها في وقت من الأوقات بأنها الحضارة "الوحيدة القادرة على البقاء لأنها تضم تأثيرات من كثيرات غيرها وتجسدها" (40).
وهكذا وبعد هذا العرض حول ذلك الأديب الذي "تُوجنا" بتتويجه وانتشينا بذلك حتى النخاع، يبدووكأن التروي والتأني قبل الحكم على أي فعل تجاهنا يجب أن يكون المستحضر والمستدام العمل على تفعيله، وذلك قبل الاندلاق على عتبات الفاعل شاكرين ممتنين مبايعين على الطاعة وعلى حفظ الدرس وتطبيق توصياته...
ثم ويبدووكأن التتبع للمسارات الثقافية والفكرية والأدبية لدينا وللانتاجات والإبداعات النابعة منها لا بد وأن يكون الإلزامي، وذلك حتى يتحرر ذلك المسار من كل المؤثرات الدخيلة التي يمكن أن تجعله الهجين المدنس بالشوائب، وحتى تفقده الاستقامة المطلوبة وفق معايير الهوية ومقتضياتها.
[1]
مشاركة منتدى
5 نيسان (أبريل) 2013, 12:31, بقلم محمد العقيد
مقال رائع حقاً
فلك خدعت الأمة في نخب ما هم إلا صناعة غربية لهدم الإسلام من دتخله على يد أمثال هؤلاء الذين باعوا أنفسهم وفقدوا ضمائرهم
وعن المنظمة العاليمة لحرية الثقافة، فهي تابعة للمخابرات الأمريكية.
هنالك كتاب لمؤلفة بريطانية بغنوان: الورشة الغربية لصناعة النخب
5 نيسان (أبريل) 2013, 12:39, بقلم محمد العقيد
المقال رائع حقا، وبارك الله فيك يا دكتورة