الوشم النبيل
قدّر لي أن أطوّف في البلاد، وأشاهد وشومًا شتّى تغطي أجساد البشر، لكنّ عيني لم تقع قطّ على وشم يضاهي وشوم جدتي؛ خضرتها تنبض بالحياة، يخيّل إليّ أنّها تشع دفئًا، أربع سنبلات تتسلق بعشق ولهفة أصابع يدها اليمنى ثم تتشابك على ظاهر كفها لتنتهي إلى سوار مدهش منقوش على مفصل اليد بزخرفة أخّاذة تسحر العيون والقلوب.
على جبينها الوضيء نُقشت ثلاث وريقات تشبه وريقات الزيتون، والأخضر الزيتوني يصبغ شفتها السفلى الرقيقة كذلك؛ فتبدو غاية في الجمال كأنّها ملكة من عالم سحريّ أو كائن فضائيّ كما تخيّل طفلي الصغير يومًا.
سألتها مرة عن وشومها تلك، أشعلت سيجارتها (الهيشيّة) ورنت إليّ بعينها الحوراء وقالت: "كانت هذه وسيلة التجمّل لفتيات جيلنا ... عندما كنت طفلة جاءت إلى بيتنا غجريّة فدفعتني أمي إلى إبرها الحارة فلم تتركني إلا وأنا متورمة والدموع تنفر من عينيّ".
كلّ تفاصيل جدتي حادّة، نظراتها حادّة وأنفها الأشمّ حادّ، وذقنها حادّ، صوتها كذلك حادّ ومواقفها حادّة. رغم ضآلة جسدها كان لها شخصيّة طاغيّة، في طفولتي كنت أشعر بالزهو حين أسترق النظر إلى مجلسها بين النساء المتحلقات حولها وهي متربعة كأنّها تمثال مهيب، لا تجرؤ إحداهن على مقاطعة حديثها أو معارضة رأيها، وهي لا تتردد في توجيه النقد الحادّ لأيّ منهنّ علانية بكلمات حادّة ... رغم ذلك يحرصن على دوام زيارتها وتبجيلها؛ فهي صاحبة الحكمة والرأي السديد واليد البيضاء ، أزعم أنّها كانت سببًا في عشرات الزيجات في الحيّ، والنسوة يطلبن حضورها عند ولادتهن تيمنًا بها ، وكانت تقطع أسرار المواليد وإذا حدث أن أفلح أحد المواليد في كبره كانت جدتي تقول مفتخرة :(أنا اللي سرّرته).
الرجال كانوا يكنون لها تبجيلاً عظيمًا ويلجؤون إليها في مسائل الأنساب والتاريخ الشفويّ - رغم أنّها كانت حييّة تمامًا أمامهم وتتغشى حتى من الغلمان - ويحتسون قهوتها بمتعة كبيرة، فقد كانت علاقتها بالقهوة العربيّة متجذّرة؛ كلّ صباح يعبق بيتنا برائحتها الزكيّة حين تدخل في طقوس إعدادها بالطريقة التقليديّة وتؤكد أنّ موقد الغاز أو طحنها بالماكينات يفسد مذاقها.
لديها عنفوان عجيب؛ مات تسعة من أبنائها صغارًا، اثنان منهم في ليلة واحدة فلم يفتّ ذلك في عضدها، ولم تُسمع مرة واحدة تتحدث عن ذلك بحزن أو شكوى، وكان والدي عاشر أبنائها ولما وافاه الأجل كذلك، تحمّلت ولم تظهر انكسارًا رغم أن وفاته كانت مأساة لكلّ عائلتنا.
يُشهد لها بالقوّة وحسن التصرف، عندما جاءها المخاض بأحد أبنائها وهي تحطب في البريّة وحيدة أدارت الموقف بنفسها وعادت بالطفل ملفوفًا بغطاء رأسها، قصّت عليّ مرة كيف أُلهمت حسن التصرف عندما جاء عسكر المحتلّ يبحثون عن السلاح في بيوت الشعر فربطت البندقية في حبل الدلو بسرعة وخفة وأنزلتها في البئر مراهنة أنهم لن يبحثوا في البئر وهكذا كان.
لم تكن تخشى الموت لكنها تخشى المرض ولم تدخل مستشفى قط حتى عيادة للمرضى وحين أُرقد أخوها في المستشفى واضطرت لعيادته تحامل على نفسه ونزل ليقابلها في حديقة المستشفى؛ فهي لا تطيق رائحة المستشفى، هكذا كانت تقول.
كانت بؤرة لأسرتنا وأقاربنا وجيراننا، لا يكاد يمرّ يوم واحد لا نستقبل فيه ضيوفًا أتوا لأجلها، كان الجميع يستلهمون منها ما يعينهم على مواجهة مصاعب حياتهم، تغدق عليهم من صادق نصحها وطريف حكاياتها وفيض ذاكرتها التي لم تفلّها حوادث السنين، فقد كانت حاضرة الذهن متقدة الذاكرة وقد تجاوزت المئة عام من عمرها.
عندما تهيأت للرحيل الأخير كان رحيلها مختلفًا عن كلّ رحيل، رحلت بهدوء كأنّها أغفت في قيلولة عابرة، لم تودع أحدًا ولم تربك أحدًا ... لكنّ رحيلها فجع أيتامًا لا حصر لهم يفتقدون أبدًا الإلهام والحكمة والألفة والوشم النبيل.
مشاركة منتدى
14 حزيران (يونيو) 2023, 09:54, بقلم أحمد العلوش
من أجمل وأجل ما قرأت حروف ذهبية سطرت بأنامل مميزة، قرأت كل كلمة بتأنٍ وتمعن خلت نفسي كأنني أعيش في ذلك الزمن الجميل، وكأنك تحكي لنا سيرة وحياة جدتيَّ رحمهما الله وجدتيك، سلمت يمناك وزادك الله علماً وفضلاً أستاذنا ومعلمنا المربي الفاضل والكاتب الأديب الأريب الغالي: منصور محمد أبو صفية.
14 حزيران (يونيو) 2023, 14:16, بقلم بسام البلاونة
أحسنت وأجدت في التقديم والعرض والخاتمة فقد أرخت ووصفت حقبة كانت فيها المرأة على بساطتها مركزا للرأي والحكمة والمشكلة والألفة والحنان . نعم كانت تشع في يديها خضرة الحياة وفي بيتها بن يمن عربي أصيل وفي نبضات قلبها وزارة صحة وتسامح وحنان . وفي صبرها على الكلمات كانت أم عمارة وزينب .
جزاك الله خيرا على هذه اللوحة الجميلة التي أصلت رأينا بك ككاتب التقيناك وعرفناك من خلال ما قدمت من أعمال .
أتمنى من كل قلبي وأدعو الله أن أتعرف على شحصك عن قرب .