اليرموك والطبلية والنملية
كانت ومازالت (الطبلية) ومعها (النملية) ذكريات وعشرة عمر... من أساسيات المنزل والدار في مخيم اليرموك، وحتى في البلاد في فلسطين قبل اليرموك. الطبلية والنملية تراث عريق في يوميات الناس. تلازمت كلاهما في ضروريات حياة المعيشة اليومية، فالنملية لحفظ الطعام بشروط جيدة نسبياً. والطبلية لابد منها لوضع (سدر) الطعام، أو للدراسة والكتابة بالإستعانة بها كطاولة، كان هذا الأمرُ عند أجيالٍ درست وتعلمت على ضوء مصباح الكاز، ووصلت إلى ارقى جامعات العالم قاطعة أشواطاً وأشواط.
قبل إنتشار الثلاجات ووصول الكهرباء لمخيم اليرموك (ونحن نتكلم هنا عن عشرية اللجوء الأولى)، كان أهالي المخيم يصنّعون مايشبه الخزائن الصغيرة ذات بابين وهي ليست مغلفة بالخشب اوالزجاج بل من المنخل اوالشبك الناعم وذلك بإتجاهاتها الثلاث وتسند الى الحائط مثل الثلاجة، وذلك لحفظ الأطعمة والطبخ، ومنعاً من وصول النمل أو أي شيء يجذبه فُتات الخبز أو بقايا طعام لذلك دُعيت بالنملية.
تُقسم الى ثلاثة أقسام، العلوي منها يَضُمُ ثلاث طبقات يغطيها من الخارج بابان يفتحان الى الجانبين ويؤمنان دخول الهواء عبر الفتحات الدقيقة للمنخل الناعم (الشبك)، بينما يضم القسم الأوسط جرارين أو ثلاثة حسب الطلب لوضع الملاعق أو السكاكين أوالحاجات المنزلية الأخرى. أما القسم السفلي فيتم تقسيمه حسب رغبة طالب (النملية) وفي العادة يتم تفصيله ليضم (تنكات الزيت) والبرغل والمؤونة التي يتطلب الأمر حفظها، ويغطي القسم السفلي بوابتان أيضا مغلقتان بالكرتون أو مفتوحتان للهواء عبر المنخل (الشبك).
الطبلية والنميلة، كلاهما حنونتان، حنية الأب والأم لأبنائهما، ففيهما معنى المنزل والدار، فباتت الواحدة منهما من تراث الماضي القريب الذي يذكرنا بأيامٍ (مُرها حلو) قياساً للحاضر كما يقول كبار السن وجيلنا ومن سبقنا، الذين مازالوا الى الآن يفضلون تناول الطعام على الأرض وعلى (الطبلية) بدلاً من الطاولات الفارهة والكراسي المزركشة ذات المقعد المريح والمسند الجيد.
من النملية كنّا نجلب الطعام المخزن في مطبخ الطعام، وعلى (الطبلية) كنّا نضع طعامنا أثناء تناول الوجبات الغذائية، وحول (الطبلية) وضوء الكاز كنّا نتحلق حول كراريس وكتب الدراسة التي توزعها علينا وكالة الأونروا، وفي البيت الواحد بات لدى كل اسرةٍ أكثر من طبلية وحتى أكثر من (نملية).
في هذه الزركشة الفلسطينية لحياتنا في اليرموك، تنوعت موائدنا، وكان البركة فيها لطعام الفطور قبل الذهاب لمدارس الأونروا، حين كانت كل أُسرةٍ تضم في ثناياها أكثر من عشرة انفس، ليس أمامهم من فطور سوى حليب الوكالة المُحلى بسُّكر الوكالة بعد (فت) الخبز الفلسطيني، ويمكن أن يضاف مع ذاك الفطور (اللبنة) الفلسطينية المُصنعة على يد أمهاتنا وجداتنا وأخواتنا من حليب الوكالة، ولاننسى في هذا المقام (الزعتر والزيتون) فهما عنوان فلسطين قبل أن يكونا عنواناً لطعامٍ يُؤكل.
في تلك الزركشة والصورة، خمسينيات واوائل ستينيات القرن الماضي، وأيام اللجوء الأولى، كان حائط الغرفة الوحيدة أو الثانية، ينوء بحمل كل ثيابنا، وبالقرب منه تتوضع وساداتنا وأغطيتنا وبطانيات الأونروا, وسقف نراقب منه قطرات الماء الدالف الينا أحياناً، نحصيها قطرة قطرة. ومع ذلك وفي مشهد تلك الصورة (السوريالية) طاف حُلمنا ومازال قائماً وراسخاً مهما نائت الظروف....لكن كفاح شعبنا في الحياة، الكفاح الوطني، الكفاح من اجل لقمة العيش، وتعليم ابنائنا، كفاح متواصل من اجل الخبز والوطن والحرية. أثمر بتحويل مخيمات وتجمعات شعبنا، ومنها مخيم اليرموك الى مدينة عامرة، والى ارتفاع وتطور في امتلاك الدور وتجهيزاتها الحديثة.