شاعر الرسالة
في الجلسةِ التاسعة عشر منْ جلساتِ الصالون الأدبي فقد استضفنا وبكلّ اعتزازٍ شاعرًا منْ طرازٍ خاص، ومنْ نمطٍ مختلف، لن يتمَ تصنيفُ مكانتَه الشعرية على الأسسِ المتبعةِ في ذلك، أو طبقاً للمعاييرِ المعروفةِ فحسب، وهو أهلٌ لذلك أيضًا وإن قال دائمًا إنّني مجرد هاوٍ فلا تُسمّوني شاعرًا، ولكن تصنيفُه عندي يتمُ وفقَ شرف شعرهِ ورسالتهِ النبيلةِ وتميّزه الّذي لا شبيه له.
فليس لدينا في الأدبِ العربي الحديثِ، و ندر ذلك في القديمِ، شاعر مثل نوري سراج الوائلي، فإذا كان حسانُ بن ثابت شاعرَ الرسولِ، والأمامُ البوصيري شاعرَ البردةِ، فأنّ الوائلي (شاعرُ الرسالةِ) و شاعرُ الإسلام، في زمنِ خذلان الإسلامِ، والتكالبِ عليّه، شاعرٌ قابضٌ على جمرةٍ من النارِ، يعيشُ في بلدٍ يتآمرُ بعضُ ظلاّمه على الإسلام، شعرهُ شعرُ التميّزِ في زمنِ الإسفافِ ، والقيمِ في زمن الانحدارِ.
وإذا غفلَ بعضُ النقادِ عن شاعرٍ مثل هذا لاختلافِ نهجهِ وأغراضِ شعره ، فأنا والصالون نتشرفُ ونرجو إلى اللهِ التقرب ومنه القبول والثواب ، إذ تحتضنُ جنباتُ منصّتنا هذهِ قصائدَ شريفةً كقصائدِ شاعرِ الرسالةِ ، ونطمحُ أن يشملنُا اللهُ ببركته نوري الوائلي، الشاعر الذي اختار لنفسهِ هذا الخط، وندعو الله أنْ يجعلنا من خطهِ ، فهو المختلف في كلّ غرضٍ شعري عن كلّ شاعرٍ سبقه أو عاصره ، فإنّه عندما يتغزلُ في العيونِ أو الشفاه فهو ليس كالمتغزلين ، و إنّما يتشببُ ويتغنى بعيونٍ من نوعٍ آخر، ليس كعيونِ الحورِ أو الجآذر أو الجميلات تشبيبًا، بل يقول من قصيدته (أجمل العيون):-
أبهى الشفاه شفاهٌ تنطقُ القيما = وأزينُ الأذن اذنٌ تسمعُ الحكما
واكرمُ العين عينٌ فاضَ محجرُها = عند السجودِ بقلبٍ يكتوي ندما
وحتّى وأنْ وصفَ العيونَ الّتي يصفها الشعراء فإنّه يجعلها في آخرِ مطافِ القصيدةِ استدلالاً لخلقِ اللهِ، وجمالِ صنعه، حيث يقول في قصيدته (العيون الملاح): -
اسألْ عن الخلقِ الجميلِ فإنّه
خيرُ الضمانِ بدايةً وختاما
لا تعحبنّ من الجمالِ فإنّه
آياتُ ربّك تبهرُ الأعلاما
ولكي أثبتُ لك إنّ هذا الشاعر لو أراد أنْ يفعل كما يفعلُ الشعراءُ لما أعياه ذلك، سأوردُ لك هذه الأبيات من النص الغزلي: -
أسعى لسحرك يا مليحُ هياما
وأصوغُ مِنْ أوصافك الأنغاما
كحلاءُ ما صبغ الرموشَ تكحّلٌ
كالليلِ أطبقَ والسَّوادُ ترامى
تعلو بها الأخلاقُ كلّ جميلةٍ
وحجابُها زادَ البهاءَ قواما
لا خيرَ في حسنٍ بدونِ تخلّقٍ
حتّى وإنْ ملكَ القلوبَ لزاما
وبنظمٍ جميلٍ يزاحمُ الشعر جرسًا، ويطاولُ العلومَ درسًا، ويجعلُ المتشدقين خرسًا، يرّدُ على الملحدين المنكرين بقوله في قصيدة منظومة أسمها (الشكوك والالحاد)، وقد أخترت منها هذه الأبيات:-
يتخيّلون وجودَنا في وسعهِ
من صدفةٍ جاءتْ به تحويرا
لو كانَ بدءُ الكونِ قام بصدفةٍ
مَنْ أنشأ الأولى لها تسخيرا
كم صدفةٍ يحتاجُ خلقُ خليّةٍ
قد حيّرت في خلقِها التفكيرا
كيف الجمال وسحره قد أُوجدا
من صدفةٍ لا تملك التدبيرا
وعندما يتناول سورَ التنزيلِ فإنّه كمنْ يشتغلُ بالتفسيرِ والتأويلِ، يقول من قصيدته المسماة (أقرا)
أوحى إليه كتابًا معجزًا حكمًا
للعدلِ يدعو وللتوحيدِ والقيمِ
أقرأْ هي الكلمُ الأولى وخاتمةٌ
لمنهجٍ مع روحِ العقلِ مُنسجمِ
منْ كلّ شيءٍ حوى ذكراً ومعرفةً
منْ كلّ آتٍ ومجهولٍ ومنصرمِ
أهلُ الفصاحةِ لم يأتوا له مثلاً
ولا سطوراً من الآياتِ والحِكمِ
لا ريبَ فيه ولا بهتانَ مُدّعيٍّ
ولا اختلافاً به في القولِ والنُظمِ
ما كانَ شعراً بما صاغتْ بلاغتُه
أو كانَ أضْغاثَ أحلامٍ لمُحتلمِ
أمّا في الاحتفال بلغتهِ الامّ التي يُعظّمُ قدرَها وهو المتحدّث منذ عقودٍ بلغةِ الأجنبي اضطرارًا، فانّه يقولُ في قصيدةٍ اسْمها (لهفي على العربي يترك أمّه): -
لغتي وهلْ في القولِ منها أجملُ؟
أو في الكتابةِ والمعاني أكملُ؟
وإذا اللغاتُ كما النجوم تلألأت
لغتي المجرة نورها لا يأفلُ
لهفي على العربي يتركُ أمَّه
عجبًا أمن لغة النبوّة يخجلُ
عربيةٌ لغتي وفخري إنّني
بالضادِ أنطقُ عاشقًا وأرتّلُ
وحيث يتّخذُ الدينَ وشاحًا والقرانَ دليلًا فإنّه يستقي حكمتَه ومعانيه النبيلة منهما، فتراه في الحثِّ على التخفيفِ من أمر التعلقِ بالدنيا، يستفتحُ قصيده بآيةٍ من القران الكريمِ (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) و (اولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَاهُمْ يُنْصَرُونَ) ثم ينشدُ واعظًا: -
أتأمَنَنّ لدنيا غدرها عمَمُ
والخيرُ فيها جوادٌ ما له قدمُ
لم تعطِ إلّا لمنْ بالذلِّ يصحُبها
حتّى إذا تمّم البنيانَ ينهدمُ
مثل العروسِ بهاء في تزيّنها
والروحُ سوءٌ بها والنكْثُ والعقمُ
الناسُ فيها سكارى والردى يقَظٌ
والذكرياتُ شجونٌ والصبا حُلمُ
العمرُ كدّ لمجهولٍ وأمنية
والشيبُ ضرٌّ وتنبيهٌ ومُختتمُ
و لذا فأنّي لا أعدّ الوائلي شاعرًا صوفيًا كما قد يظنُّ البعض، إنّما هو شاعر إسلامي متكامل، واسع، متعددُ الأغراضِ، كثيرُ الأهدافِ، محورها الدفاع عن الدينِ الحنيفِ وقيمه، أنظرْ إلى قوله في قصيدة (رجعية الدين )، حيث يردُّ على المنسلخين من دينهم إرضاءً لأعدائهم أو ادّعاءً للتحضّر:-
داعي التقدّمِ قال الدينُ منكفئٌ
بالجهلِ يبني ظلاماً حيثما انْتشَرا
لا يصلح الدينُ، قد نادوا، لمجتمعٍ
بالعلمِ قامَ وبالحرِّيّة ازْدهَرا
جعلوا التدين عذراً كلّما سقطوا
والعيبُ فيهم وفي أفكارهم نخَرا
الدينُ عدلٌ وإحياءٌ ومعْتقدٌ
والعقلُ فيه دليلٌ يقتفي الأثرا
وقال في المشاعرِ الإنسانيةِ النبيلةِ واصفًا (حنان الامومة) وهو اسم القصيدة، والّتي أخترت منها هذه الأبيات:-
في الدار طيفك شقَ الليلَ اسحارا
وألبسَ الياسَ آمالا وأوطارا
ولملمَ الشملَ حين الدهرُ فرّقه
كالطيرِ لمّ لحا الأعوادِ اوكارا
بدعوةِ الامِّ ما ردّ الكريمُ يدا
ولم يؤخرْ لكشفِ العسرِ إيسارا
إنّ اليتيمَ يتيمُ الأمِّ لو فُقدت
ليفقدُ القلبُ حُبّاً كانَ أقدارا
أمّا قصائده النبوية، وهو الشاعر المتفاني في حبِّ نبيهِ فهي لاتُعد، يقولُ عن إحداها: "بمناسبة ميلاد الرسول (ص) أنشر بعضَ الأبياتَ من قصيدتي الرسالة (خطوة لنهج البردة 240 بيتا) التي لم تنشر سابقًا: - وقد قال يلخّصها
ماذا أقولُ وشوقي فاقني أدباً
وقبـــله ابـنُ سعيدٍ أثـرَ بالنظـــمِ
لكنّني جئت استجدي الحبيب يدا
مُدّتْ إلى الخلقِ جـوداً دون منحرمِ
عذراً إليك وعذري مَنْ رجا سمحا
فالشعرُ قصّر وانتابَ القصورُ فمي
ويقول فيها شاهدًا بالفضلِ لمن سبقه وبالتواضع على نفسه: -
من قاسَ شعري بشعرِ المادحين كمنْ
قاسَ السرابَ بنبعٍ صافيٍ شبمِ
ويضيف قائلاً: -
لم تأنسِ الروحَ كلُّ الفاتنات ولا
شغلنَ قلبي بما فيهنّ من وسمِ
والسبب كما يبيّن: -
حبُّ الرسولِ وأهلِ البيتِ ملّكني
عواطفًا غيرَ ذاك الوجدِ لم ترمِ
وفي التعليل يستطرد فيقولُ: -
سهمُ الأحبة يردي بالأذى شغفًا
وسهمُ احمد يُحيي القلبَ من المِ
وكنت أودُّ لو قال (يبري) بدلاً من (يحيي) لجهة وجود الألم.
وله قصائد مسجلة صوتيًا على اليوتيوب، سمعتُ بعضها، وأعجبتني منها (كبرياء التراب) يقولُ فيها:-
العقلُ خرّ إلى جلالكِ ساجدا
وأناخَ مذلولًا لقربك قاصدا
فوق الترابِ لقد اراحَ جبينه
فسما بذاك إلى رحابك وافدا
وفي مدحِ حبيبه وحبيبنا المصطفى يقول مرةً أخرى: -
يا صاحبَ القبّة الخضراءِ شاهقة
عبرَ الزمان مع الافلاكِ تتّحدُ
فردٌ من الخلقِ لم يُولدْ له كفُؤٌ
ولا النساءُ شبيها بعدهُ تَلدُ
بأجملِ الخَلْقِ موْصوْف ومتّصفٌ
وبالأمانةِ والأخلاقِ مُنفردُ
وله قصائد نبوية أخرى من امثال (بذكر المصطفى):-
بذكرِ المصطفى عَظمُ الثوابُ
وراقَ النطقُ واكـتملَ الخِطابُ
وهلّلَ في مسامعِنا أبْـتهاجٌ
وعانقَ في النفوسِ لـه انْجذابُ
إذا ظَمِـئٌ على المبعوثِ صلّى
يزخّ الغيثُ ما حملَ السحابُ
وإذْ صلّى على طه عليلٌ
يُشافى والصلاةُ له الطبابُ
فصلّوا فالجزاءُ بكـلِّ نطقٍ
عظيمٌ لا يحدّدهُ الحسابُ
بها تـُمْحى المـآثمُ والخطايا
وباليُمْنى بها يُعطى الكتابُ
إذا تبـْغي الإنابةَ منْ ذنوبٍ
لك الصلواتُ للغفرانِ بابُ
وعندما يتدبّرُ الوائلي في خلقِ اللهِ وآياته، فإنّه يعبّرُ عن انبهارهِ بكلماتٍ من وحي قرآنه جلّ وعلا، يقولُ في قصيدته (جمالُ النحل) الّتي يصفُ فيها بتفصيلٍ متمكنٍ معْجزةَ النحلةِ، الّتي خصّص لها القرآن الكريم سورة باسمها
أفنيتُ عمري في رباكِ رحالا
وطرحتُ فكري في عطاكِ سؤالا
وجمعتُ من كلِّ العلومِ لأرتوي
ممّا ملكتِ عجائباً وخِصالا
يا خيرَ معجزةٍ وآية خالقٍ
مَلأَ الوجودَ معاجزاً وتعالى
وكتبَ عن الفايروس كورونا مرةً بنفسهِ الشعري القدري المتّعظ، فقال في قصيدة طاف الوباء: -
مَنْ بات تُبهرُه الدنيا بزُخْرفِها
قد أيقنَ الصبحَ إنّ الأرضَ تضطربُ
مَنْ ظنّ دهراً بإنّ الخُلد مكمنُه
قد أيقنَ اليوم إنّ البعثَ يقتربُ
أين المفرّ وهذا الداءُ يسبقُهم
لأيّ ركن لقاهم حيثما انقلبوا
وفي الزهدِ في الدنيا، يقولُ الوائلي من قصيدة طويلة اسمها (البحر)
لن تقنعَ النفسُ مهما طال مكسبها
حتّى تعيشَ بجدبِ البيدِ أزهارُ
يا جامعَ التبرِ لا تفرحْ بناطحةٍ
فما استدام لأهلِ الأرضِ إعمارُ
حسبي الفُتات وخيطُ الصوف يسترني
والخوْصُ سقفي وطولُ الدار أمتارُ
وعن قصتهِ مع الحرفِ الشريفِ، والقصيدِ النبيل، يخبرنا بقصيدة أخترتُ منها: -
جاهدْتُ دهْري للحروفِ وصولا
وقرأتُ كي أسْتكشفَ المجهولا
وكتبتُ نفسي بالحروفِ مفصّلاً
للشاهدينَ عقائداً وميولا
وقضيتُ عمْري باحثاً ومفكّراً
وركبتُ أمواجَ الكلامِ سجولا
ولذا فإنّه يلومُ الشعراءَ، ويحاججهم، في إنّ الشعر يمكن له أنْ ينجح ويفلح دون الانجرار لأغراضه التي اعتاد على تشجيعها الناس، فيقول في إحدى قصائدهِ: -
ما لي أرى الشعرَ قد ضاعتْ به الحكمُ
وقد تهاوتْ به الأخلاقُ والقيمُ
دارَ الوجوه عن الأحداثِ مُنزوياً
مع الحياِة كأنّ الشعرَ مُختصمُ
لم يبلغ الشعرُ إلّا جسمَ غانيةٍ
فالخدُ يُشغله والخصرُ والقدمُ
وأخيرا فإنّ نوري الوائلي شاعر الالتزام، فهو الذي يقول: -
قالوا بإنّ الشعر ليس قوافيا
أو وزن بيتٍ قد أجادَ معانيا
إنْ لم يكن فيه خيالٌ آخذٌ
يغوي المنافقَ والجهولَ وغاويا
فأقولُ كلّا فالقصائدُ إنّما
حكمٌ بأوزانٍ تضمُّ قوافيا
الشعُر قافيةٌ ووزنُ محكمٌ
وحكيمُ قول لن يضيّعَ ساعيا
و في الختام فأنّي أرى إنّ الشاعر، وقد أكرمه اللهُ بهذه النعمةِ، نعمة الهدايةِ والطاعةِ والالتزامِ، حتّى أنّ له من أسمه نصيبٌ فهو (نوري سراج الوائلي) نورٌ وسراج، أقولُ إنّ شاعرنا بإذن الله هو ليس من الشعراءِ الّذين يتّبعهم الغاوون، ولا من الذين في كلّ وادٍ يهيمون، ولا من الذين يقولون ما لا يفعلون، هو من الذين آمنوا و عملوا الصالحات، بل – ولا نزكيه على اللهِ، وإنْ شاء ربّي كرمًا فإنّه وأيّانا من الناجين.
بقلم الأديب والناقد الأستاذ الدكتور أدهم الشبيب