بين الأثرية والمعاصرة
بين الأثرية والمعاصرة: استحضار الحضارات القديمة في أعمال الفنان التشكيلي العراقي السويسري فائق العبودي
افتُتح معرض الفنان التشكيلي العراقي السويسري "فائق العبودي" بعنوان "أبجدية الأسلاف" في غاليري الأرض بمدينة زيورخ يوم السبت 19 إلى 26 أكتوبر، حيث عرض العبودي 15 عملًا فنيًا أثاروا تساؤلات عميقة لدى الجمهور الذي توافد لحضور الافتتاح، والذي كان في غالبيته من المثقفين والفنانين.
قدّم العبودي أعمالاً تبدو كأنها قطع أثرية قديمة، تحمل علامات الزمن وخدوشه، مما أضفى عليها طابعًا خاصًا يجمع بين أصالة الماضي وروح الحاضر.
أول ما يجذب الانتباه في هذه الأعمال هو الإحساس العميق بالزمن، لوحات تبدو وكأنها اكتشافات أثرية خرجت من أعماق التاريخ، لتأخذنا في رحلة إلى عصور قديمة، حيث الحضارات التي صنعت بدايات الإنسان، أعماله تستحضر حضارة السومريين، صناع الحضارة الأولى، وكأن العبودي يُعيد صياغة تلك الرموز القديمة بروح معاصرة، مما يخلق حالة من الحوار الفني بين الماضي والحاضر.
يقول أحد النقاد الذين حضروا المعرض: "لو أخفينا تواريخ الانتهاء من العمل، لأخطأنا في تقدير الزمن الذي أنتجت فيه هذه القطع، وظننا أنها جاءت من أزمان غابرة".
هذا الشعور يعبّر بدقة عن تأثير الأعمال على المتلقي، حيث تُعبر اللوحات عن روح الزمن القديم بوضوح لا يُخطئه البصر، سواء من حيث المواد المستخدمة أو التقنيات التي اتبعها الفنان في إبراز هذه "الخدوش" والعلامات التي توحي بتآكل الزمن.
في هذا المعرض، يواصل العبودي نهجه في استخدام الرموز والطلاسم القديمة التي كانت وما زالت محط تساؤلات الإنسانية عبر التاريخ، هذه الرموز ليست مجرد أشكال جامدة، بل هي لغة بصرية تعكس الفكر الإنساني القديم وتعيد طرحه بأسلوب جديد.
من خلال استخدامه لهذه الرموز، يسعى العبودي إلى استكشاف مفاهيم مثل الذاكرة والهوية الجماعية والوجود الإنساني عبر العصور.
لقد استطاع الفنان أن يدمج بين الأصالة والمعاصرة، حيث جاءت أعماله بمثابة ترجمة فنية لحضارات قديمة، إذا ما نظرنا إلى هذه الأعمال بتجرد من الزمن الذي أنتجت فيه، نجد أنها تسهم في إعادة تشكيل الماضي، لكنها ليست مجرد نسخ أثرية، بل هي محاولات ذكية لاستلهام تلك الرموز وإعادة تشكيلها بطريقة تعكس إعادة احياء التراث القديم بطريقة معاصرة.
ما يميز أعمال فائق العبودي هو ليس فقط موضوعها، بل أيضًا التقنيات الخاصة التي يستخدمها. فهو يتعامل مع المواد وكأنها كائنات حية تشارك في عملية تجديد الزمن، حيث تبدو الأسطح المتآكلة والخشونة الواضحة في أعماله الفنية، وكأنها تحمل آثار الزمن، وكل لوحة تحمل معها قصة طويلة من الاستخدام والتحول بين أصابع هذا الفنان المتمرس الذي نجح برسم الزمن.
تعتمد بعض هذه التقنيات على استخدام مواد طبيعية وألوان ترابية، ما يُضفي إحساسًا بالأصالة والمكان، هذا التجانس بين المادة والتقنية يجعل المشاهد يشعر بأنه أمام قطعة أثرية فعلية وليست مجرد لوحة حديثة، وهذا الانطباع يثير تساؤلات حول مفهوم الزمن في الفن: هل يمكن للفن أن يعيد صياغة التاريخ؟ وهل يمكن للأعمال الفنية أن تُعيد بناء حوار بين الأزمنة المختلفة؟
أثارت أعمال هذا المعرض تساؤلات عديدة لدى الجمهور، كانت هناك حالة من التأمل والتساؤل بين الحضور، وكأن الأعمال تدعو المتلقين إلى الغوص في معانيها واستكشاف أبعادها الخفية، هذه التساؤلات تأتي نتيجة التلاعب الذكي الذي يجريه الفنان العبودي على الزمن والمادة، مما يجعل المتلقي يقف في حيرة أمام هذه الأعمال: هل هي قطع أثرية فعلية؟ أم أنها إعادة تخيل للحضارة بعيون فنان معاصر؟
من خلال هذا المعرض، يؤكد فائق العبودي على مكانته كفنان محترف يجيد استلهام الماضي لطرح أسئلة عميقة حول الحاضر، فهو لا يعيد إحياء الرموز القديمة فقط، بل يعيد تشكيلها في سياق فني معاصر يعبر عن رؤية شاملة لتفاعل الإنسان مع الزمن والحضارة.
معرض "أبجدية الأسلاف" ليس مجرد رحلة في التاريخ، بل هو تأمل في كيفية تأثير الماضي على الحاضر، وكيف يمكن للفن أن يكون جسرًا بين الأزمان، وأن يقدم لنا لمحات من روح الإنسان عبر العصور.
في الختام، يُعد معرض "أبجدية الأسلاف" للفنان فائق العبودي افتتاحًا ناجحًا لموسم غاليري الأرض الثقافي، حيث تمكنت صالة العرض من تقديم فنان متميز بأعماله الفريدة التي تبرز بصمته الفنية الخاصة، لقد كانت هذه الأعمال الأكثر تميزًا في استحضار التاريخ ودمجه بأسلوب معاصر، مما منح المعرض طابعًا استثنائيًا وجذب اهتمام الجمهور والمثقفين على حد سواء، بهذا المعرض أثبت العبودي مرة أخرى قدرته على التواصل مع الماضي بعمق، ومشاركة رؤاه مع العالم من خلال فنٍ يستحق التقدير.