بين الصِّراع العلمي والغزو الفكري
مما لا ينكره أحد أنه لا يمكن لأمَّةٍ أن تتقدم وترتقي أو تحتفظ بمكانتها بغير العلم، لذلك كانت أولى آيات القرآن الكريم نزولًا على النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- هي قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1- 5]، فتَبيَّن بذلك أن سبيل نهضة هذه الأمَّة ورفعتها وصدارتها بين الأمم؛ هو العلم، الذي يبدأ بمعرفة الخالق سبحانه وتعالى، ثم يمتد إلى سائر العلوم الدِّينية والدُّنيوية، ولذلك اختصَّ الله تعالى العلماء بالفضل فقال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9]، والاستفهام هنا استنكاري يفيد أن الإجابة بالنفي؛ إذْ لا يستوي من يعلم ومن لا يعلم؛ فالعلماء أعلى وأرفع منزلة كما بيَّن الله تعالى بقوله (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11].
وفي قصة سليمان -عليه السَّلام- حين طلب عرشَ بلقيس كما بيَّن لنا القرآن الكريم: (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل: 38] روى ابن جرير [ت: 310هـ] في تفسيره؛ أنَّه طلب ذلك «حتى يعاتبها، وكان الملوك يتعاتبون بالعلم».
وقديمًا كانت الأنظمة الحاكمة مهما بلغ طغيانها وجبروتها أو انعزالها عن الدولة؛ تحرص على مكانة العلماء وتسعى إلى استقطابهم؛ لأنها تعلم أنه لا قوة لها ولا بقاء بغير العلم والعلماء، بل كان رؤوس تلك الأنظمة يحرصون على أن تكون لديهم حصيلة علمية يجادلون بها خصومهم في الداخل والخارج، بخلاف عصرنا الحاضر؛ حيث ضاع العلم والعلماء، وأصبحت الأنظمة الحاكمة تخضع لإملاءاتٍ خارجيةٍ تضع في اعتبارها الأول أن تنأى بها عن التفكير في أيَّة نهضة علمية، واستجابة هذه الأنظمة لتلك الإملاءات تدل على أنها أنظمة ضعيفة البنيان، قاصرة الفهم، لا تستطيع أن تدرك الخطر المحدق بها، ولا ميدان التنافس الحقيقي الذي ينبغي أن تتفوق فيه حتى تصنع تاريخها المشرِّف، بدلًا من الاحتماء خلف الاستبداد الذي تحاول أن تواري به عجزها.
ولم تكن هذه المثالب موجودة في العصور القديمة؛ لأن الأنظمة الحاكمة آنذاك كانت تقوم على قدراتٍ حقيقية، فكان يتوافر لديها -على الأقل- القدرات القتالية والمهارات الحربية، أما الآن فإنها تعتمد على الآلة أكثر من العنصر البشري، وهذه الآلة قد يحسن التعامل معها بعض متوسطي أو منخفضي الذكاء، وحين تحصر هذه الأنظمة قوَّتها في الجانب السياسي أو العسكري فإنها تكتب شهادة وفاتها وتُعفِي التاريخ مِن تذكُّرِها؛ لأن التاريخ لا يتذكر إلا الأقوياء، والنظام السياسي الذي لا يدرك أهمية العلم ولا يحترم العلماء؛ لن يكون رأيه وليد خبراته، وبالتالي فهو نظام هشٌّ، ليس لديه رؤية فكرية أو قدرات علمية تُعِينه في تحقيق ذاته وإثبات وجوده من خلال تحقيق أيَّة نهضة من أي نوعٍ، فهو نظام فاشل حتى في تحقيق نهضةٍ تتعلق بصُنع الآلة الصَّمَّاء التي جاءت به إلى الحكم؛ تلك الآلة التي ربما يحسن استخدامها لكنه لن يحسن تصنيعها إلا بالعلم، والحكومات الأجنبية التي تمدُّه بهذه الأسلحة مقابل المال، لن تمدَّه بالعلم مقابل أي ثمنٍ؛ فهي تريده جاهلًا غاشمًا حتى يظل دميةً صالحة للَّعب من أجل تحقيق أهدافها كيفما كانت.
ومن أجل ذلك لجأت الدول الاستعمارية، ضمن خطتها المعاصرة في الغزو الفكري والتضليل العلمي والقضاء على أيَّة وسيلة يمكن أن تتاح لتحقيق أيَّة نهضة في العالم العربي والإسلامي؛ لجأتْ إلى اصطناع طبقة من مدَّعي الشهادات والألقاب المزيفة في الدول العربية والإسلامية، وقد نبَّه على هذا المؤامرة بعض المفكرين والكتاب منذ عشرات السنين؛ قال الكاتب الروائي إحسان عبد القدوس [ت: 1990م]: «ولعل موسكو تتعمد توزيع الشهادات على الطلبة الأجانب دون أن يصلوا إلى المستوى العلمي الذي يستحق هذه الشهادة؛ لأنهم لا يريدون أن يصل الأجانب إلى أي مستوى؛ العلم مقصور على أبنائهم وحدهم».
وإذا كانت هذه هي الحال منذ أكثر من نصف قرنٍ من الزمان؛ فإنها الآن أشد خطرًا وأوسع انتشارًا، ولا سيَّما أنَّ إدارة هذه المؤامرات لم تعُد قاصرة على دول الاستعمار القديم؛ بل أصبحت بعض بلداننا العربية الشقيقة تمارس هذا العمل الإجرامي تجاه شقيقاتها؛ فنحن نرى بعض الدول العربية ذات المقدَّرات الضخمة تمنح بعض الجاهلين من أبناء شقيقاتها ألقابًا وشهاداتٍ أعلى كثيرًا من إمكاناتهم العلمية، وهي تعلم علم اليقين أن بلادهم ستجعلهم في أرفع المناصب؛ اعتمادًا على تلك الألقاب والشهادات المزيفة التي حصلوا عليها بغير استحقاق، وبهذا تضمن تلك الدول تدمير مؤسسات شقيقاتها (النائمة) التي لا تدرك حقائق الأمور بسبب جهل رؤوس أنظمتها، التي لا تعرف الغثَّ من السَّمين، حتى أصبحت الدول الفقيرة التي لا يهتم حكامها إلا بمصالحهم الشخصية؛ لا تكاد توجد وزارة أو هيئة علمية بها إلا وقد تولَّى رئاستها أحد العملاء الذين تم اصطناعهم وإعدادهم من أجل ذلك، فازدادت هذه الدول تدهورًا وانحطاطًا في جميع مجالات الحياة، مع أنها تكتظ بالعلماء والمفكرين والمبدعين، لكن تمَّ تهميشهم بالتعتيم الإعلامي الذي تستخدمه الدول المتآمرة كخطةٍ موازيةٍ في معترك الصراع العلمي والتضليل الفكري والغزو الثقافي، وقد استطاعت بالخطَّتين معًا أن تصل إلى أهدافها في وقتٍ قياسيٍّ وبنجاحٍ محضٍ لا يشُوبه شيء من الفشل.
إنَّ دُوَل الاستعمار القديم يمكن أن تدور الشكوك حول ادِّعاءاتها التي تعلنها في أثناء الصراع العلمي والغزو الفكري الذي تنتهجه ضد الدول العربية والإسلامية، وإن كانت تلك الشكوك لا تعوق تحرُّكها وتوغُّلها في مخطَّطاتها؛ بسبب استسلام قادة هذه الدول، والضعف الفكري الذي يصل إلى حدِّ الجهل، المسيطر على كثيرٍ منهم، لكن حين تأتي تلك الممارسات من قِبَل بعض الدول الشقيقة فإنها تتستَّر خلف وحدة اللُّغة والدِّين والهويَّة، وهو الأمر الذي يحقق لها النجاح بصفة مستمرة في خداع أشقَّائها.
ومعلومٌ أن الجهات التي من شأنها إظهار الجاهل في صورة العالم حتى يتَّبعه العامَّة فيهلكوا جميعًا؛ من شأنها أيضًا أن تمارس التعتيم الإعلامي ضد العالِم الحقيقي، إضافة إلى ما تمارسه ضده بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ من تضيِيقٍ في سُبُل العيش؛ حتى ينشغل عن علمه أو يشعر أنَّه أصبح وبالًا عليه، فما يمارَس ضده من جرائم سببها الوحيد عو عِلمه ونبوغه، وحين تُوَجَّه ضدَّه الحرب من أجل ذلك؛ فإن الضرر يقع عليه وحده، وهو لن يستمر في الدفاع عن قضيةٍ يكون نصرُه فيها فائدة لبلاده كلها بينما يقاسي وحده ويلاتها؛ بل ربما يلتفت إلى مصلحته، ويترك تلك الأمور التي تجلب عليه الشر والضرر، ولا سيَّما إذا كان بلده من البلدان التي أصابها الغزو الفكري الذي يهدف إلى تدمير العلم والعلماء.
والغزو الفكري الذي تمارسه تلك الدول ليس معناه أنها تحاول فرض فكرها الذي تطبِّقه في مجتمعاتها؛ فهي لن تسعى أبدًا إلى تصدير فكرها الخاص الذي هو أداة نهضتها ومصدر عزَّتها؛ لكنها تسعى إلى فرض فكرٍ تخريبيٍّ يتعامل به أبناء المجتمعات المقصودة بذلك الغزو، وربما أوهمت تلك المجتمعات أن ذلك الفكر سرُّ تقدُّمها؛ حتى ينساق الجاهلون وراءها، ويضاف إلى ذلك أيضًا الغزو الثقافي؛ والفارق بينه وبين الغزو الفكري أن الغزو الفكري يكون بنشر الفكر التخريبي الذي ترغب الدول الغازية أن تتعامل به المجتمعات المراد غزوها؛ حتى تقضي تلك المجتمعات بأنفسها على مقدَّراتها ومؤسساتها فتصبح فريسة سهلة بعد ذلك، أما الغزو الثقافي فيكون بنشر ثقافة الدول الغازية داخل المجتمعات المراد غزوها، وبطبيعة الحال فإن هذه الثقافة لن تَصلُح في تلك المجتمعات؛ بسبب اختلاف الهويَّة والحضارة واللغة، فتكون حينئذٍ في حدِّ ذاتها أداةً للهدم.
ولا يمكن القضاء على الغزو الفكري والثقافي إلا بعد تحقيق النصر في مسألة الصراع العلمي؛ لأن العلم هو طريق الوعي والفكر، وبه يمكن استرداد الهويَّة، ويمكن مواجهة كل ثقافة دخيلة، وبه أيضًا يمكن تنقيح التراث وتنقيته مما أقحمه المستشرقون وغيرهم، وبه يُصان المجد التَّليد، ويُضاف إليه كلُّ طريفٍ، وهو من قبلُ ومن بعدُ به مبتدأ نهضة الأمم وإليه منتهاها.