تذكرة الى القدس
يسلب الاحتلال جميع حقوق المواطنين ويعصف بطموحاتهم ويبدد أحلامهم وسط أجواء القمع والقتل وتدمير المنازل، فهل تصبح السينما في ذلك الزمان المقيت ضرورة أم كمالية يمكن الاستغناء عنها أم استبدالها بأي وسيلة أخرى لحشد القوى وتعبئة الجهود ضد المعتدين؟!!
يسعى الفيلم الفلسطيني المبهر "تذكرة الى القدس" للإجابة على ذلك السؤال من منظور فني بحت عاشق للسينما وقادر على تحويلها من مجرد وسيلة التسلية الى أداة فعالة لمواجهة الاحتلال وتحدي سطوته.
تولى مهمة إخراج الفيلم المخرج الفلسطيني المجتهد رشيد المشهراوي الذي نال جائزة الهرم السينمائي الدولي عام 1993 عن فيلمه "حتى إشعار آخر" والذي صوره في مدينة غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي وكان يعد بمثابة يوميات أسرة فلسطينية تحولت الى صيحة مدرية ضد وحشية الاحتلال في مواجهة أبناء الشعب الفلسطيني، كما حصل فيلمه الجديد "حيفا"على جائزة أحسن فيلم عربي في الدورة العشرين لمهرجان القاهرة عام 1996 والذي رصد من خلاله تحول مدينة حيفا من الحكم الفلسطيني الى الحكم الذاتي الفلسطيني حيث الوضع المعلق والمستقبل الغامض . .
أما في فيلمه الجديد "تذكرة الى القدس" من إنتاج العام الحالي، فيواصل رشيد المشهراوي تحليل الواقع الفلسطيني من منظور فني بحت، واستعان بتمويل من جهات أسترالية وفرنسية وهولندية بجانب مركز الانتاج السينمائي الفلسطيني في تجواله بكاميراته النافذة بين مدينتي رام الله الفلسطينية والقدس التي لا تزال ترزح تحت وطأة الاحتلال الاسرائيلي.
الشخصية المحورية للفيلم يجسدها جابر وهو فلسطيني من يافا في الأربعينات من عمره ومتزوج من "سناء"، وقد نزح مع آلاف الفلسطينيين الى بيروت، وعند إقامة الحكم الذاتي عاد مع زوجته الى مدينة رام الله، ليمارس مهنة إنسانية راقية: يحمل آلة عرض سينمائي متهالكة على سيارة قديمة لعرض أفلام قديمة على أطفال المدارس دون مقابل، مكتفياً بعمل زوجته سناء في فرقة إسعاف تابعة لإحدى المستشفيات، وعبر الجولات المكوكية للزوجين تفجر الخلفية الدرامية للأحداث مأساة الشعب الفلسطيني بحس رقيق بعيداً عن المشاهد الدموية المكررة التي تتناقلها وكالات الأنباء والمحطات التليفزيونية يومياً والتي يتساقط فيها الشهداء منذ الاجتياح الاسرائيلي لمناطق الحكم الذاتي الفلسطيني وحتى كتابة هذه السطور . .
ورغم قسوة ظروف الحياة في رام الله التي تغلي بالأحداث الساخنة إلا أنها لا تمنع بطلي الفليم من ممارسة الحياة الزوجية السعيدة حتى ولو كانت بلا أطفال ورغم المشاكل العارضة مع اختلاف وجهات النظر. ومقارنة بجارتهم الشابة التي تطرد زوجها وهي تضربه بالنعال لعجزه في الحصول على عمل منذ شهور طويلة، كما تسبه أمام الجميع بلا خجل مع استسلامه التام لها لولا تدخل جابر وزوجته.
وقد يبدو منذ الوهلة الأولى للمتلقي أن جابر يمثل صورة سلبية للواقع الفلسطيني المشتعل غضباً ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولكننا نكتشف أن يحمل آلة العرض السينما باعتبارها سلاحه الوحيدة المتاح لممارسة دور حضاري بين الأطفال الفلسطينيين في محاولة لإخراجهم من أحزانهم من جهة والترفيه عنهم من جهة وربطهم بالواقع العالمي من جهة ثانية، ولا يكتفي بذلك الدور في المدن الفلسطينية، بل يقرر تحمل الصعاب لعرض أفلامه على الأطفال الفلسطينيين في القدس تحت الاحتلال.
تتصاعد الأحداث الدرامية للفيلم عندما يلتقي جابر عاشق السينما برباب مدرسة الأطفال بالقدس القديمة والتي تعرض عليه فكرة عرض أفلامه في ساحة منزلها بالقدس ويوافق على الفور متحدياً الصعاب.
يسيطر الإحباط على جابر رغم جهوده الفنية ذات البعد الوطني وخاصة عندما ينتقل لموقع مدرسي فيكتشف عدم وجود أي طفل لمشاهدة عروضه وكذاك انقطاع التيار الكهربائي وهو أمر متكرر الحدوث، ودون أن يغفل المخرج إيجاد بديل حضاري رائع في مقهى مجاور للمدرسة، حيث يقوم شاب بعزف العود أمام مجموعة متناسقة من الشموع بنغمات تطرب جابر وتخفف من أحزانه.
يتعالى صوت فيروز بأغنيتها الشهيرة القدس كلما انتقل جابر لأجواء القدس لزيادة رباب، لتشعل في النفوس أحقية العرب في استرداد القدس، ولكن ذلك لا ينفي تسلل السيناريو بذكاء لجرعات متفرقة من النقد الذاتي للأوضاع الفلسطينية من خلال حوار سناء لزوجها التي فجرت مأساة شعب بأكمله عندما أكدت رفضها للانتقال الى كندا مع شقيقها في كندا ويمتلك سوبر ماركت متمسكة بالأرض، حتى لا تكون لاجئة في الغربة وعندما أقامت في بريوت كانت في انتظار العودة للوطن ولكنها في رام الله لا تعرف العودة الى أين؟؟ كما أن كاميرا رشيد المشهراوي جسدت بجلاء مظاهر الدمار والخراب في جميع أنحاء المدن الفلسطينية وأكوام القمامة المتعالية، ومصاعب الحصول على المتطلبات الأساسية وبالتالي قطع التيار حتى ولو كانت لمبة تشغيل ماكينة العرض السينمائي لجابر والتي تهدد بتوقف نشاطه الإنساني!
من الشخصيات الثانوية التي يقدمها الفيلم أبو عنان أول من ساعد جابر على حب السينما والذي يعمل كصاحب مقهى في القدس القديمة، كما يعاونه على إتمام مهمته في عرض أفلامه بها وكمال ميكانيكي السيارات الشاب في رام الله الذي يعاونه في كل شيء حتى إصلاح ماكينة العرض السينمائي !!!
ورغم اقتناع جابر بمهمته الإنسانية المضارية القومية وسعادة الأطفال الغامرة بدورها الثقافي، إلا أن الراي العام في المجتمع يسخر من تلك المهمة على لسان الجميع ويعدها مضيعة للوقت وتبديداً للجهد ويمكن الاستغناء عنها أمام مطالب أكثر حيوية مثل توفير الغذاء أو الحماية أو مقاومة العدو الشرس، وذلك اعتباراً من سناء نفسها وكمال الميكانيكي وأم رباب العجوز المريضة دون أنينال ذلك من عزم جابر أو يفتر من همته.
يتناول الفيلم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المباشر من خلال احتلال أسرة يهودية لمنزل أم رباب وحصرها في غرفة واحدة تمهيداً لطردها أو إجبارها على الخروج وذلك بإغلاق دورة المياه ومنع استخدام ساحة المنزل وتجوال رب الأسرة عارياً تماماً في البيت وكلها أساليب رغم فظاظتها تبدو رقيقة مقارنة بالأساليب القمعية العنيفة التي يتردد صداها للعرب تحت الحكم الإسرائيلي.
ورغم رفض سكان المنزل اليهود لأي عمل في منزل أم رباب التي ترفض بالتالي مشروع عرض أفلام جابر بشدة، لا يجيب فيلم تذكرة الى القدس عن مبررات نجاح جابر في اقناع قوات الأمن الإسرائيلية بدخوله مع ماكينة عرض سينمائية للقدس أو موافقة المستوطنين اليهود لعرض الفيلم في ساحة المنزل المغتصب أو رضا أم رباب بتنفيذ المشروع واستمتاعها بمشاهدة الفيلم من النافذة متناسية موقفها الرافض!!
يؤكد الفيلم في النهاية أن السينما يمكن أن تكون أداة فعالة وضرورة حتمية تحت الاحتلال وأنها ليست كمالية، بل حقاً للمواطن مهما اشتدت ظروف القهر وتساقط القتلى من الضحايا وأنهارت المساكن ظلماً وعدواناً، ليدعم الفيلم دور السينما الخطير في الحياة وذلك أجمل ما يحمله الفيلم.
محيي الدين فتحي