الأربعاء ٢٩ أيار (مايو) ٢٠١٩
بقلم محمد جمال صقر

تشريح عروض اللافتة

لما لم يكتمل لأحمد مطر الشاعر العراقي الساخر الثائر، نشر "لافتاته"؛ ففاتني ما أوثر من الاستقصاء في تأسيس البحث عن حقيقة الظاهرة المحددة المظاهر بحثا علميا- رأيت أن أقتصر على الجزء الأول منها (لافتات 1)، الذي حفل بأول عنايته واستمرار نهجه واشتداد وطأته، حتى نُفي من الكويت!

في مفتتح هذا الجزء الأول:

"مَدْخَلٌ
سَبْعُونَ طَعْنَةً هُنَا مَوْصُولةُ النَّزْفِ
تُبْدِي وَلَا تُخْفِي
تَغْتَالُ خَوْفَ الْمَوْتِ فِي الْخَوْفِ
سَمَّيْتُهَا قَصَائِدِي
وَسَمِّهَا يَا قَارِئِي حَتْفِي
وَسَمِّنِي مُنْتَحِرًا بِخِنْجَرِ الْحَرْفِ
لِأَنَّنِي فِي زَمَنِ الزَّيْفِ
وَالْعَيْشِ بِالْمِزْمَارِ وَالدُّفِّ
كَشَفْتُ صَدْرِي دَفْتَرًا
وَفَوْقَهُ
كَتَبْتُ هَذَا الشِّعْرَ بِالسَّيْفِ".

النص الذي جعله مدخلا نبه به على أن "لافتات 1"، سبعون لافتة، ولقد ينبغي أن يضاف هو نفسه إليها، لتكون به إحدى وسبعين، ولاسيما أنه دليل معالم كثيرة من معالمها!

أول ما تدل عليه لافتة "مدخل" هذه من معالم "لافتات 1"، نمط الوزن؛ فهو بحر السريع (سبعون طع/ نة هنا/ موصولة الن/ نزف)، الذي انتظمت به ست لافتات (8%)، الملتبس بالرجز الذي انتظمت به ثمان وعشرون لافتة (39%) -فانتظم بهما معا نصف "لافتات 1" تقريبا- على حين انتظمت بالرمل ست عشرة (23%)، ثم بالمتدارك إحدى عشرة (15%)، ثم بالمتقارب أربع (6%)، ثم بالوافر ثلاث (4%)، ثم بالكامل اثنتان (3%)، ثم بالهزج واحدة (1%).

وثاني ما تدل عليه لافتة "مدخل" من معالم "لافتات 1"، نوع الشعر؛ فهو الشعر الحر (شعر التفعيلة)، الذي تخرَّجت فيه اللافتات الإحدى والسبعون كلها؛ فتحررت من طول البيت العمودي -وإن تقيدت بتفعيلته الوزنية- وتحررت من قافية القصيدة العمودية في خمس وثلاثين لافتة (49%)، وإن تقيدت بها في ست وثلاثين (51%).

وثالث ما تدل عليه لافتة "مدخل" من معالم "لافتات 1"، هيئة الطباعة؛ فهي ثمانية أبيات واحدة القافية، لو لم تُفرق على الأحد عشر سطرا السابقة، لاجتمعت في ثمانية الأسطر الآتية:

1 سَبْعُونَ طَعْنَةً هُنَا مَوْصُولةُ النَّزْفِ

2 تُبْدِي وَلَا تُخْفِي

3 تَغْتَالُ خَوْفَ الْمَوْتِ فِي الْخَوْفِ

4 سَمَّيْتُهَا قَصَائِدِي وَسَمِّهَا يَا قَارِئِي حَتْفِي

5 وَسَمِّنِي مُنْتَحِرًا بِخِنْجَرِ الْحَرْفِ

6 لِأَنَّنِي فِي زَمَنِ الزَّيْفِ

7 وَالْعَيْشِ بِالْمِزْمَارِ وَالدُّفِّ

8 كَشَفْتُ صَدْرِي دَفْتَرًا وَفَوْقَهُ كَتَبْتُ هَذَا الشِّعْرَ بِالسَّيْفِ

ورابع ما تدل عليه لافتة "مدخل" من معالم "لافتات 1"، حجم النص؛ فهو ثمان وثلاثون كلمة مكتوبة على أحد عشر سطرا، واللافتات الإحدى والسبعون كلها ذوات 4751 كلمة -متوسط كلم اللافتة الواحدة 67- مكتوبة على 1426 سطرا -متوسط أسطر اللافتة الواحدة 20- بمتوسط ثلاث كلمات في السطر الواحد!

وخامس ما تدل عليه لافتة "مدخل" من معالم "لافتات 1"، أسلوب التعبير؛ فهو سخرية قاتلة كأنها طعنات رماح، لم يضرها جرأةً وتصميمًا أن تمر إلى مرماها من خلال راميها؛ فيموت هذا مظلوما إذ يموت ذاك ظالما!

وسادس ما تدل عليه لافتة "مدخل" من معالم "لافتات 1"، رسالة الشاعر؛ فهي الإصلاح العام، الذي لا يسكت على فساد -مهما كان- حتى يفضحه؛ فلا يعمى عنه المصلحون والصالحون، ولا يهنأ به المفسدون والفاسدون!

ومثل تلك اللافتة:

"قَلَمٌ
جَسَّ الطَّبِيبُ خَافِقِي
وَقَالَ لِي
هَلْ هَاهُنَا الْأَلَمْ
قُلْتُ نَعَمْ
فَشَقَّ بِالْمِشْرَطِ جَيْبَ مِعْطَفِي
وَأَخْرَجَ الْقَلَمْ
هَزَّ الطَّبِيبُ رَأْسَهُ وَمَالَ وَابْتَسَمْ
وَقَالَ لِي
لَيْسَ سِوَى قَلَمْ
فَقُلْتُ لَا يَا سَيِّدِي
هَذَا يَدٌ وَفَمْ
رَصَاصَةٌ وَدَمْ
وَتُهْمَةٌ سَافِرَةٌ تَمْشِي بِلَا قَدَمْ".

هذه اللافتة الإصلاحية الساخرة، ذات الأربعين كلمة، المنتظمة ببحر السريع الحر الملتبس بالرجز، في ثمانية أبيات واحدة القافية، لو لم يفرقها على ثلاثة عشر سطرا، لاجتمعت في ثمانية الأسطر الآتية:

1 جَسَّ الطَّبِيبُ خَافِقِي وَقَالَ لِي هَلْ هَاهُنَا الْأَلَمْ

2 قُلْتُ نَعَمْ

3 فَشَقَّ بِالْمِشْرَطِ جَيْبَ مِعْطَفِي وَأَخْرَجَ الْقَلَمْ

4 هَزَّ الطَّبِيبُ رَأْسَهُ وَمَالَ وَابْتَسَمْ

5 وَقَالَ لِي لَيْسَ سِوَى قَلَمْ

6 فَقُلْتُ لَا يَا سَيِّدِي هَذَا يَدٌ وَفَمْ

7 رَصَاصَةٌ وَدَمْ

8 وَتُهْمَةٌ سَافِرَةٌ تَمْشِي بِلَا قَدَمْ".

ومثل تينك اللافتتين:

"بَيْتٌ وَعِشْرُونَ رَايَةً
أُسْرَتُنَا بَالِغَةُ الْكَرَمْ
تَحْتَ ثَرَاهَا غَنَمٌ حَلُوبَةٌ
وَفَوْقَهُ غَنَمْ
تَأْكُلُ مِنْ أَثْدَائِهَا وَتَشْرَبُ الْأَلَمْ
لِكَيْ تَفُوزَ بِالرِّضَا
مِنْ عَمِّنَا صَنَمْ
أُسْرَتُنَا فَرِيدَةُ الْقِيَمْ
وُجُودُهَا عَدَمْ
جُحُورُهَا قِمَمْ
لَاءَاتُهَا نَعَمْ
وَالْكُلُّ فِيهَا سَادَةٌ
لَكِنَّهُمْ خَدَمْ
أُسْرَتُنَا مُؤْمِنَةٌ
تُطِيلُ مِنْ رُكُوعِهَا
تُطِيلُ مِنْ سُجُودِهَا
وَتَطْلُبُ النَّصْرَ عَلَى عَدُوِّهَا
مِنْ هَيْئَةِ الْأُمَمْ
أُسْرَتُنَا وَاحِدَةٌ
تَجْمَعُهَا أَصَالَةٌ وَلَهْجَةٌ وَدَمُّ
وَبَيْتُنَا عِشْرُونَ غُرْفَةً بِهِ
لَكِنَّ كُلَّ غُرْفَةٍ مِنْ فَوْقِهَا عَلَمْ

يَقُولُ

إِنْ دَخَلْتَ فِي غُرْفَتِنَا
فَأَنْتَ مُتَّهَمْ
أُسْرَتُنَا كَبِيرَةٌ
وَلَيْسَ مِنْ عَافِيَةٍ
أَنْ يَكْبَرَ الْوَرَمْ".

هذه اللافتة الإصلاحية الساخرة أيضا، ذات الثمانين كلمة، المنتظمة ببحر السريع الحر الملتبس بالرجز، في أربعة عشر بيتا واحدة القافية، لو لم يفرقها على سبعة وعشرين سطرا، لاجتمعت في الأربعة عشر سطرا الآتية:

1 أُسْرَتُنَا بَالِغَةُ الْكَرَمْ

2 تَحْتَ ثَرَاهَا غَنَمٌ حَلُوبَةٌ وَفَوْقَهُ غَنَمْ

3 تَأْكُلُ مِنْ أَثْدَائِهَا وَتَشْرَبُ الْأَلَمْ

4 لِكَيْ تَفُوزَ بِالرِّضَا مِنْ عَمِّنَا صَنَمْ

5 أُسْرَتُنَا فَرِيدَةُ الْقِيَمْ

6 وُجُودُهَا عَدَمْ

7 جُحُورُهَا قِمَمْ

8 لَاءَاتُهَا نَعَمْ

9 وَالْكُلُّ فِيهَا سَادَةٌ لَكِنَّهُمْ خَدَمْ

10 أُسْرَتُنَا مُؤْمِنَةٌ تُطِيلُ مِنْ رُكُوعِهَا تُطِيلُ مِنْ سُجُودِهَا وَتَطْلُبُ النَّصْرَ عَلَى عَدُوِّهَا مِنْ هَيْئَةِ الْأُمَمْ

11 أُسْرَتُنَا وَاحِدَةٌ تَجْمَعُهَا أَصَالَةٌ وَلَهْجَةٌ وَدَمُّ

12 وَبَيْتُنَا عِشْرُونَ غُرْفَةً بِهِ لَكِنَّ كُلَّ غُرْفَةٍ مِنْ فَوْقِهَا عَلَمْ

13 يَقُولُ إِنْ دَخَلْتَ فِي غُرْفَتِنَا فَأَنْتَ مُتَّهَمْ

14 أُسْرَتُنَا كَبِيرَةٌ وَلَيْسَ مِنْ عَافِيَةٍ أَنْ يَكْبَرَ الْوَرَمْ".

لقد انحصرت لافتات أحمد مطر الشاعر العراقي الثائر الساخر، في الأبحر المفردة التفعيلة، المعروفة بسلاستها ومواتاتها وتدفّقها؛ فكأنما خشي عليها ناظمها أن يعوق متلقيها عائقُ التركيب، ثم أكثر في الأبحر المفردة من الرجز، المعروف بابتذاله (كثرة استعماله)، واتساع مضمار التصرف فيه، وجها من تأسيس منحى اللافتة الثوري الساخر، الذي كان منه أيضا سلوك مسلك الشعر الحر الذي تعلق به معنًى من الثورة على الشعر العمودي.

ولقد حرص على طباعة اللافتة على النحو الذي ينشدها به تخييلا للسمع بالنظر؛ ففرق بعض ما كانت القافية كفيلة باجتماعه، وإن لم يخل ذلك من قصد تمكين النص الصغير الحجم في المكان الكبير المتاح؛ فإنه إن يكن لافتة فإن الجريدة لم تكن لوائح حقيقية على أيدي ثائرين متظاهرين!

لكأن اللافتة بمعالمها تلك التي تجلت في "لافتات 1"، هي مثال القصيدة الحرة، الذي حددته سنة 1962، نازك الملائكة الشاعرة العراقية المعلِّمة، بكتابها "قضايا الشعر الحديث"، الذي هذبت منه بعدئذ قليلا قليلا دون أن تمس جوهره، وعُدّت به للشعر الحر عند بعض قرائها، مثل الخليل بن أحمد للشعر العمودي، تَقْعِيدًا وتَقْيِيدًا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى